Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الجنون" في صميم المرحلة النهائية من مخطّط بوتين لأوكرانيا

روسيا تزعم إحكام قبضتها على بلدة سوليدار الشرقية بعد أشهر من القتال: تقرير حول أبعاد هذا التطور في غزو موسكو- وتداعياته على الأوكرانيين في حال إحراز أي تقدم إضافي

وضع فلاديمير بوتين منطقتي دونيتسك ولوغانسك الأوكرانيتين نصب عينيه (غيتي/آي ستوك)

بالنسبة إلى أشخاص كثيرين، لا سبيل من أجل النجاة من "مفرمة لحم" الغزو الروسي لأوكرانيا المستمر منذ 11 شهراً، سوى بالعيش تحت الأرض.

في مدينة باخموت الشرقية المحاصرة، وفي أعماق الأنفاق الممتدة تحت مبنى سكني من الحقبة السوفياتية، تنهمك لودميلا، 47 سنة، وتامارا 65 سنة، في محاولة خلق جو طبيعي بين أربعة جدران رطبة داخل القبو المشترك. يخفت صوت القصف داخل المبنى، ويهتز السقف بعض الشيء على وقع الانفجارات لكن الخوف مستمر من وقوع أي ضربة.  

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بنى سكّان المبنى موقداً يُستخدم للطهي والتدفئة. وتقول لودميلا التي ترتدي معطفين وهي ترينا الموقد في الظلام "لو اضطررنا ألا نخرج، فلسنا بحاجة إلى الخروج. سوف نبقى هنا إلى أن ينقضي الشتاء". 

تحوّلت باخموت والمنطقة المحيطة بها، بما فيها مدينة سوليدار المجاورة، حيث تقع مناجم الملح، إلى مركزٍ لبعض أشرس المعارك وأكثرها دموية بين روسيا والقوات الأوكرانية. ذلك لأن المنطقة معبر لقوات موسكو في طريقها للتوغل أكثر داخل أوكرانيا إذ وضع الرئيس فلاديمير بوتين نصب عينيه الاستحواذ على كامل المنطقة المعروفة باسم دونباس، التي تضم منطقتي دونيتسك ولوغانسك الشرقيتين.

أعلنت وزارة الدفاع الروسية يوم الجمعة عن استيلائها على سوليدار مع أن كييف تنفي هذا الكلام وتقول إن القتال مستمر. لو نجحت موسكو بالاستيلاء على باخموت وسوليدار، سوف تضع يدها على خطوط إمداد جوهرية وتمتلك منصة يمكنها التقدم منها باتجاه مدينتين كبيرتين أخريين هما كراماتورسك وسلوفيانسك.

وهو ما قد يؤدي إلى سقوط بلدات ومدن أخرى في دونباس كأحجار الدومينو ويسمح لروسيا بالسيطرة على قلب أوكرانيا الصناعي وهو أمر ترغب به موسكو منذ 2014، العام التي ضمّت فيه شبه جزيرة القرم إليها بشكل غير قانوني. 

لو تمكّن بوتين من الاستيلاء على هذه المنطقة، وتأمين الممر البري عبر منطقة خيرسون الجنوبية نحو القرم، سوف يضمن كذلك الحصول على مراده الوحيد: انتصار في معركة كبيرة بما يكفي لكي يُخرج قواته المنهكة من هذه الحرب الدموية. 

تعتبر لودميلا وتامارا من بين أصغر الأشخاص الذين لازموا باخموت سناً، بعد أن كانت المدينة تضم 70 ألف نسمة قبل الحرب، وتشتهر بنبيذها الفوار.

تقول لودميلا "غادرت ابنتي مع عائلتها، وكل جيل الشباب رحل عن المكان. لا يتبقى هنا سوى الأشخاص الذين لا يقوون على الانتقال. فالإيجارات مكلفة جداً".

لازمت تامارا باخموت بسبب والديها الذين يبلغان الثمانينيات من العمر.

وتشرح بنبرة واقعية "يقول والدي إنه نجا من الحرب العالمية الثانية وإنه لن يغادر، ولذلك نحن هنا. هو يقول إن هذا منزلنا فلمَ نغادره؟".  

لكن بالكاد يمكن أن يُسمّى ما تبقّى من باخموت موطناً. فالمدينة "صامدة" بالكاد وفقاً للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. 

فيما تكاد القلة المتبقية من سكان باخموت لا تتجرأ على المغامرة بالخروج من تحت الأرض، لا تمر على الطريق التي حفرتها الشظايا باتجاه سوليدار سوى سيارات الإسعاف ومركبات الإغاثة الإنسانية.

أُرسل عشرات آلاف الجنود الأوكرانيين إلى الجبهة في سوليدار وباخموت من أجل مواجهة الشراسة التامة لجيش روسيا الاتحادية، وجنوده بالوكالة والمرتزقة مثل مجموعة فاغنر. وما ظهر في الأيام الأخيرة هو أن خطة الكرملين بزيادة الضحايا لحل المشكلة قد نجحت.

اعترف زيلينسكي سابقاً بأنّ الوضع في سوليدار "صعب"، لكنه أصرّ على أنّ صمود المقاومين الأوكرانيين قد أكسبهم المزيد من الوقت وأنّ كييف سوف تطرد الروس في الأخير من كامل المنطقة الشرقية. 

وقال الرئيس خلال أحد خطاباته اليومية "كل شيء مدمّر كلياً، ولم يتبقّ أي أثر للحياة تقريباً. كما أنهم فقدوا الآلاف من شعبهم: تمتلئ الأراضي قرب سوليدار بجثث المحتلين وآثار القصف"، مضيفاً "هذا هو شكل الجنون". 

في حمى الحرب المستعرة، يُفقد المدنيون، ومن بينهم مواطنان بريطانيان هما كريستوفر باري، مدرب الركض البالغ من العمر 28 سنة، وآندرو باغشو، البالغ 48 سنة، وهو من سكان نيوزيلندا، شوهدا للمرة الأخيرة وهما متوجهان إلى الطرف الشمالي الشرقي لسوليدار من أجل إجلاء المسنين يوم الجمعة.

تكلمت عائلتاهما اليائستان عن أن مشاعر "فجة" انتابتهما بعد اختفاء الرجلين. ثم زعم رئيس مجموعة فاغنر يفغيني بريغوجين في وقت متأخر من يوم الأربعاء أنّ قواته اكتشفت جثة ونشر صوراً لجوازي سفر الرجلين. 

في المقابل، يخشى أصدقاؤهما الذين يسكنون معهما في مدينة كراماتورسك وعملوا معهما في مهمات إجلاء أن يكونا قد دخلا الخطوط الأمامية في خضم الفوضى.

ويقول أحد شركائهما في السكن الذي رفض الكشف عن اسمه "كل شيء يتغير بسرعة".

"نخشى ألا يكونا قد علما بمكان المواقع الروسية". 

استهلك القتال الدائر في الشرق كلا الجانبين خلال الأسابيع الأخيرة نظراً لأهميته الاستراتيجية لكن روسيا لم تنسَ شبه جزيرة القرم في الجنوب.

الجبهة الجنوبية

أصبحت الطريق التي كانت يوماً السبيل الوحيد لإجلاء الناس من منطقة خيرسون مليئة بحطام السيارات. هذه هي أوليكساندريفكا، غرب مدينة خيرسون. كما تملأ أسلاك التفجير الطريق ذات المسلك الواحد التي تمتد على طول جسر بري قصير ينتصب فوق المستنقعات المحيطة بالمدينة الساحلية والتي زُرعت فيها الألغام بكثافة.

كل متر تقريباً، تظهر سيارة مدمّرة لتخبر عن محاولة فاشلة لأحد المدنيين الذي حاول الهروب من الاحتلال الروسي المستمر من 8 أشهر. فمنطقة خيرسون والمدينة الرئيسية فيها التي تحمل اسمها ويسكنها 280 ألف نسمة كانت أهم وأسرع انتصار حققته القوات الروسية. وحتى نوفمبر (تشرين الثاني)، كانت أيضاً آخر عاصمة إقليمية لا تزال في قبضة موسكو.

لكن بعد انقطاع خطوط الإمداد، وتقدم الأوكرانيين في نوفمبر، أصدر جنرالات بوتين الأوامر بالانسحاب إلى الضفة الشرقية من نهر دنيبرو الذي يقطع المنطقة من منتصفها. وكان الهدف حماية الممر البري نحو شبه جزيرة القرم القريبة الذي نجح الروس بتأسيسه باستخدام بلدات مثل ميليتوبول. تضم القرم أسطول بوتين في البحر الأسود وهي جائزة مقدسة للكرملين منذ ضمها في عام 2014. 

مر يومان فقط على تحرير أوليكساندريفكا قبل أن يصل فريق صحيفة "اندبندنت" إليها بعد احتلال دام 8 أشهر، لكن الجنود قد عملوا بسرعة على رفع الجثث التي رأيناهم ينقلونها في شاحنات مبرّدة كبيرة إلى ميكولاييف القريبة. 

في ظل هذا الصمت المريب، تبدأ فرق إزالة الألغام بالعمل، وتضع علامة بالدهان الأحمر كلما تتقدم نصف متر.

ويقول دميترو شيشينكو، كبير المدعين العامين في المقاطعة الذي تتحضر فرقه للتحقيق "كل هذه المركبات دلائل على جرائم حرب محتملة". يصيح مزيلو الألغام من ورائه بنا أن نحذر لأننا لم نرَ أحد أسلاك التفجير الذي يتمايل قليلاً مع النسيم كخيوط بيت العنكبوت. ثم ظهرت سيارة واحدة.

ويقول ديما (ليس اسمه الحقيقي) 43 سنة، الذي يجلس وراء المقود "ابني عمره 10 سنوات وأصبح لديه شعر أبيض بالفعل". هو جندي سابق وأب لثلاثة أطفال يزور بلدته، أويكساندريفكا، للمرة الأولى منذ الغزو.

كان متمركزاً في الجبهة أساساً عندما نشبت الحرب ولم يتمكن من فعل أي شيء عندما اجتاح الروس حيّه في 14 مارس (آذار).

ويضيف بيأس "بالكاد نجحت عائلتي بالفرار. أُطلق النار على الناس. ولقي كثيرون، بين مدنيين وعسكريين، مصرعهم". 

"كان الروس سريعين للغاية ولم نتمكن من فعل شيء".

يقول إن منزله من بين أولى المنازل التي دُمرت.

"لا أشعر بشيء. ينتابني شعور بالخدر. كل شيء تدمر. ولم يتبقّ لي سوى سيارتي".

في خيرسون، تتحصن القوات الروسية في خنادق على امتداد إحدى ضفاف نهر دنيبرو، على بُعد بضعة مئات الأمتار فقط من وسط المدينة، عبر المجرى المائي. وهي تقصف المواقع الأوكرانية بشراسة.

ويقول كيرت، وهو قائد أوكراني كانت فرقته من بين القوات التي حررت خيرسون والمناطق المجاورة "لقد استقر العدو في مواقعه، وفي المستقبل، سوف يستخدم وسائل تدمير أكثر بكثير. سوف يقوم الروس بالقصف، كما هي عادتهم". لا يمكننا تسمية الوحدة لأسباب أمنية.

إنه قلق جداً من حدّة الهجمات المستقبلية، ويريد من المدنيين أن يجلوا المكان. 

"يجب أن ترحل النساء والأطفال على وجه الخصوص. لقد تمركز قناصتهم بالفعل في مواقعهم وفي الليل نسمع أصوات الأسلحة الخفيفة".

يعتقد كيرت أنه عوضاً عن محاولة عبور النهر مجدداً، سوف يسعى الروس إلى ترسيخ وجودهم في مواقعهم على الضفة الشمالية من دنيبرو.

أقرّ جنود آخرون تحدثت إليهم صحيفة "اندبندنت" أنّه فيما شكّل التخلي عن مدينة خيرسون إحراجاً لبوتين، لم تكن تلك خسارة استراتيجية كبيرة لأنه "لا يحتاجها". فالتمسك بخيرسون كان ليستنزف قواته فيما الجائزة الوحيدة هي الشرق. 

"يجب أن ترحل النساء والأطفال على وجه الخصوص. لقد تمركز قناصتهم بالفعل في مواقعهم وفي الليل نسمع أصوات الأسلحة الخفيفة".

ولهذا يعلم المدنيون الذين يصرون على البقاء والعيش في خيرسون أنّه حتى لو دارت المعارك في ميادين أبعد، سوف يصبح الوضع هنا أكثر دموية.  

وتقول تاتيانا، 44 سنة، التي يقف زوجها بوريس في الطابور للحصول على مساعدات غذائية خارج محطة القطار في مدينة خيرسون "يريدون تحويل حياتنا إلى مأساة يومية".

"ما مدى صعوبة مواصلتهم قصفنا من الناحية الثانية من النهر؟".

الجبهة الشرقية

في باخموت وسوليدار، بدأ الجنود وحسابات الجيش الأوكراني ومناصرو الحكومة على وسائل التواصل الاجتماعي بنشر فيديوهات متواصلة التقطها جنود أوكرانيون مصابون بجروح بالغة باستخدام هواتفهم في حركة يُراد منها التحدي والمقاومة. وهم يصرّون فيها أن المعارك دموية ومريعة ولكنهم لا يزالون صامدين.

يقول شاب لُفّ وجهه المشوّه بالشاش لدرجة جعلته شبه عاجز عن الكلام "أنا الممثل دميترو لينارتوفيتش، جندي في قوات الهجوم الجوية في سوليدار". نُشر الفيديو على حساب الجيش الرسمي على "تويتر".

ويضيف بصوت واهن "تذكروا بأننا على الأرض التي وهبنا إياها الله. لن نُكسر أبداً. نحن نفوز".

لكن موقفه المتحدي لا يعكس الواقع على الأرض.

بعد سقوط سوليدار، قد تلاقي باخموت المجاورة المصير نفسه، وربما بعدها باقي منطقة دونباس مما قد يعطي بوتين ذلك "الانتصار" الذي يتوق إليه ليحفظ ماء وجهه، مع أنه فوز باهظ الثمن. 

في المدينة، يحاول السكان المسنون أن يحافظوا قدر الإمكان على معنويات مرتفعة ويخرجون من تحت الأرض في فترات الاستراحة النادرة بين قصف وآخر. 

تقول تامارا على وقع أصوات القذائف المنهمرة المدوّية "نأمل في الحصول على الكهرباء والماء وبعض الأخبار الجيدة".

"نأمل أن يكون كل شيء على ما يرام. نأمل ذلك".

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من دوليات