Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

واسيني الأعرج يروي حكاية مسرح احترق ومدينة تقاوم

"عازفة البكاديللي" تسترجع ليالي بيروت الفنية ووقائع القتل والمآسي الأهلية

مسرح البيكايللي في شارع الحمراء ذاكرة بيروت الثقافية (وزارة الثقافة)

اختار الروائي الجزائري واسيني الأعرج (1954) أن يطل في روايته الجديدة من مسرح الـ "بيكاديللي" اللبناني العريق، ناسجاً حوله أحداثاً ومبتدعاً أشخاصاً نموذجيين ومستحضراً شريطاً من الوقائع التاريخية التي جرت في مدينة بيروت، لا سيما في شارع الحمرا المميز.

عنوان الرواية "عازفة الـ "بيكاديللي"" (دار الآداب 2021)، وإن يكن بسيطاً أو مباشراً فإنه يفتح باباً على مصراعيه صوب حياة الشارع الفنية، المسرحية تحديداً، ويسائل عن مكانة أحد المسارح الكبيرة في صنع الحياة الثقافية والفنية في لبنان، أعني مسرح الـ "بيكاديللي" إبان ستينيات القرن الماضي وحتى أوائل القرن الـ 21، ومساهمة ذلك المكان في نشر الفن الراقي ممثلاً في أنواع من المسرح كان لها جمهورها وكتابها وممثلوها والمخرجون وغيرهم، ممن شكلت ذكريات المسرح المعني سبباً لوجودهم. ويحل في طليعة الأعمال المسرحية العروض الرحبانية الغنائية والدرامية مع المطربة فيروز.

لكن الرواية هي الرواية، فالكاتب الجزائري واسيني الأعرج الذي كان له صلة وثيقة ببيروت وفنانيها ومثقفيها منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، شاء أن يكرس روايته هذه لتحية مسرح الـ "بيكاديللي" والرحابنة على حد سواء، لكن التحية تتم من خلال حبكة قصصية مبسطة بطلاها "إيما" ابنة لينا عازفة الـ "بيكاديللي" على البيانو الباهرة، من مواليد الثمانينيات، وهي حفيدة العازف الأشهر في الـ "بيكاديللي" في زمنه جوزيف، وقد صور الكاتب إيما صحافية تعمل في "جورنال المحقق"، وتجري تحقيقاً على حسابها الشخصي حول مقتل جدها جوزيف.

وفي المقابل تظهر الرواية شخصية "لبناني من أم إيطالية" يدعى "ماسي دبليو" وهو ستيني مولع بالتصوير الذي أخذه عن أبيه، ويقوم بدوره بتأليف كتاب يؤرخ بالصور الفوتوغرافية للأعمال المسرحية التي شهدها مسرح الـ "بيكاديللي". وتدور المشاهد أو الفصول الـ 25 التي تتألف منها الرواية وتقع في 374 صفحة من القطع المتوسط، على محورين متكاملين غير متداخلين حول السيناريوهات الممكنة التي أفضت الى احتراق الـ "بيكاديللي" والمستفيدين منه والمتضررين، وهم الكثرة الغالبة.

شارع الحمراء

وبينما تتوالى أحداث الرواية وتسعى جماعة أطلقت على نفسها اسم "أنصار ثقافة الحمرا والـ "بيكاديللي" الى إحياء ذكرى حريق المسرح بعد انقضاء 20 عاماً على ذلك، أي في العام 2000، تتكشف وقائع ذات صلة بكل من لينا عازفة الـ "بيكاديللي" التي تسلمت عن أبيها المغدور جوزيف مسؤولية العزف وهي لما تزل فتاة، وقد تزوجت أحدهم ويدعى أنطوني ولم تلبث أن تطلقت منه بسبب تعنيفه إياها وانصرافه الى أعمال إجرامية انتقاماً لمقتل أخيه في الـ "بوريفاج" تحت التعذيب، وتكون ابنتها إيما من ذاك الزواج مولودة عام 2000، وصحافية شابة ومحققة في مقتل جدها العازف الشهير مطلع الألف الثالث، ووسط التحديات الكثيرة المفروضة على الجيل الجديد.

وبالتزامن مع هذا المسعى تظهر لنا الرواية البطل الثاني "ماسي دبليو"، وهو يتابع عن كثب تقدم الأعمال في كتاب الصور عن مسرح الـ "بيكاديللي"، وإفراد مكانة خاصة لمسرحيات الرحابنة وأداء فيروز فيها، تتخللها لحظات الود والتقدير من قبلها للعازف جوزيف ومن ثم لابنته من بعده لينا.

والواقع أن سمات الشخصية البطلة الثانية "ماسي دبليو" تختلط أحياناً مع سمات مستمدة من سيرة الكاتب الشخصية، لا سيما شغفه بالفنانة فيروز وتجشمه السفر وهو لا يزال فتى للقاء فيروز في مدينة الجزائر، أواسط الستينيات من القرن الماضي، عندما أحيت حفلة غنائية مع الأخوين رحباني، وقد لازمه هذا الشغف الى حين إقامته في بيروت أواخر السبعينيات. في حين تتبدى البطلة الثالثة "لينا" ذات روح متحررة متعالية على العصبيات ومستعدة للتضحية بوقتها في سبيل الكشف عن الحقيقة، حقيقة مقتل جدها العازف الشهير جوزيف، وحقيقة الحريق الذي أتى على مسرح الـ "بيكاديللي"، وهي على يقين بأنها مخالفة للحقيقة الرسمية التي تروج لها السلطة، بحسب ما يفهم من سياق الحوارات التي تجريها مع صديقها وحبيبها آنكيدو الفنان وغيره من الشخصيات.

تحية لبيروت

وبغض النظر عن خاتمة الرواية التي ندعها للقراء الكرام والتي يتجاوز فيها الأبطال الثلاثة عقبات متفاوتة في حدتها، يمكن القول إن الرواية كناية عن تحية لبيروت الثقافة والفن والإبداع وإضاءة على زمن المسرح الجميل من أوائل الستينيات وحتى مطلع القرن الـ 21، إذ كان لأعمال الرحابنة المكانة الكبرى في المسرح المغنى، ولا نحسب إيراد الكاتب بعض كلمات الأغاني والحوارات المسرحية لمسرحية "الشخص" على سبيل المثال سوى إثبات شخصي لهذا الشغف، ولكن لا يجوز أن ما يصح على ماسي دبليو قد يصح على أي محب لفيروز والرحابنة من المحيط إلى الخليج؟

ثم إن الرواية تسلط أضواء جانبية على المسرح في بيروت خلال أوج صعوده في العقد الأخير من القرن الماضي، وقد صودف أن قدم 12 عرضاً مسرحياً من مختلف الأنواع في ليلة واحدة، ومن بينها بالتأكيد عرض لمسرحية غنائية للأخوين رحباني بمسرح الـ "بيكاديللي".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن الأبعاد الكثيرة التي لا يمكن للقارئ المتذوق أن يهملها لدى قراءته رواية "عازفة البيكاديللي" خطاب للكاتب مستل من الدعوات النهضوية السالفة، فهو يضع على ألسنة أبطاله الثلاثة إيثاراً للثقافة والفن وكرهاً للعنف والتعصب والعنصرية ومحاربة للفساد والقمع والاستزلام والطائفية والعرقية وغيرها.  ومما يرد في الرواية في هذا القبيل "آشوري مو شيعي؟ ليش مصرين؟ شو كمان؟ لو حللنا فصيلة دمكم لوجدناها خليطاً من الأتراك والأكراد والشركس واليهود والمسلمين والمسيحيين وكل الذين مروا على هذه الأرض. مين اللي يضمن أنك من جنس صاف" (ص:53)، أو "لا دين للقلوب إلا دين الحب، وحتى لو فشل في منتصف الطريق يتحمل هذا القلب مسؤولية خياراته" (ص:53).

كما لا يمكن إغفال البعد الموسيقي الماثل في العديد من شواهد الكاتب والدال على موسوعيته في المجال وإيثاره نوعاً معيناً من الموسيقى الكلاسيكية، ولا سيما لفرانز ليست وغيره، مما كان يتيسر عزفه على البيانو في قصر الـ "بيكاديللي"، وما كان المعلم جوزيف بارعاً في أدائه لجمهور النخبة، وفي خلال الاستراحات السينمائية يوم كانت آلات العرض يدوية وتستلزم وقتاً لتركيب الجديدة بدل القديمة.

وفي هذا الشأن تقول "لينا" خلال إحدى حفلات العزف على البيانو في الجامعة الأميركية، "الموسيقى لا تنقذ الناس من الموت لكنها تحرسنا وتمنعنا من التحول إلى ضباع ضائعة، لا شيء في مخها إلا القتل والموت والاستمتاع بالروائح الكريهة" (ص:237). ولا تخفى أيضاً صورة المرأة اللبنانية والمدينية بشكل خاص، فهي على مدار الرواية متأنقة على رغم معاناتها اليومية ومجالدتها آثار الكوارث التي تتوالى على مدينتها بيروت، وآخرها انفجار الرابع من أغسطس (آب) عام 2020، وذات قدرة على النقاش والإقناع والقيادة بما يوازي مقدرات الرجل ويفوقها أحياناً.

كلمة أخيرة وليست نهائية تقال على المجتمع المدني الذي يؤازر "إيما" وأمها العازفة "لينا" لإحياء ذكرى حريق الـ "بيكاديللي" ولترميمه وإعادة رونقه إلى سابق عهده، واستئناف الحفلات الموسيقية فيه. ويشار إلى أن الكاتب الأعرج استند إلى العديد من المراجع التاريخية والوثائق وما كتب في الصحافة حول مسرح الـ "بيكاديللي" طوال عقود.

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة