Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

واسيني الأعرج يدخل عالم مصارعة الثيران عبر الحب الغجري

  رواية تستعيد مرحلة الخمسينيات في الجزائر المناضلة

 حلبة مصارعة الثيران في مدينة وهران الجزائرية (ويكبيديا)

 بين لقاء خوسي أورانو، مصارع الثيران الوهراني، وأنجيلينا أموندين، المغنية الغجرية الراقصة، أمام بوّابات كوريدا وهران الجزائرية، في العام 1956، وموتهما المأساوي بقرني ثورهائج في حلبة المصارعة للأوّل ورصاص منظّمة سرية أمام فندق مارتيناز للثانية، تمتد وقائع رواية "الغجر يُحبّون أيضًا" للروائي الجزائري واسيني الأعرج (دار الآداب). فتشكّل قصة الحب العاصف بين الاثنين إطارًا للأحداث التي تنتظمها الرواية، تلك المتمحورة حول رياضة مصارعة الثيران، ذات الأصول الأسبانية. ومن خلال هذا الموضوع، يضيء الكاتب موضوعات الغجر ومعاناتهم التاريخية والاستعمار والإرهاب والعنصرية وغيرها، في مجتمعٍ متعدّد الهويات المتفاعلة فيما بينها والمتنافرة في الوقت نفسه. وبين محطّتي اللقاء والموت، البداية والنهاية، محطّات عدّة هي علامات فارقة في مسار الأحداث الذي يؤول إلى مصير قاتم.

 تشكّل واقعة اللقاء أمام بوّابات كوريدا وهران لحضور مباراة في مصارعة الثيران بداية العلاقة بين خوسي وأنجيلينا، ففي غمرة الرقصة التي تؤدّيها الأخيرة بمشاركة زوجها غارسيا بيكينيو الذي يلعب دور الثور المناسب لشخصيته، تستدرج مصارع الثيران الذي تحبّه إلى الرقص، وتخوض معه حوارًا في إطارٍ أدائي، ما يؤثّر في نفسه، ويشعل غيرة الزوج. ثم ما تلبث أن تنضمّ إليه على منصّة الشرف منتحلة صفة أخته، ويتابعان معًا الحوار والمنازلة، وتعلن انحيازها للثور المظلوم بحكم ثقافتها الموروثة في مناصرة الضعيف. وهنا، يثير موقفها إشكالية تتعلق برسم هذه الشخصية، فنرى تناقضًا بين ضيقها بالظلم وانحيازها إلى المظلوم وبين شغفها في متابعة المباراة وحماسها للمصارع الإشبيلي المشهور أنطونيو دي غاليسا، وحبّها للمصارع الوهراني خوسي. فكيف يستقيم الموقف المتعاطف مع المظلوم مع حبّ الظالم والحماس له؟

المصارع والغجرية

تأخذ العلاقة بين الطرفين في النموّ شيئًا فشيئًا حتى يتمكّن الحبّ منهما، هو النجم الرياضي البارع الذي يُحبّه الجمهور وتعشقه النساء، وهي الغجرية الجميلة المتمرّدة التي تعتدّ بغجريّتها في الوقت الذي ترفض فيه بعض الأعراف والتقاليد الغجرية، ولا تُقيم وزنًا لمشاعر زوجٍ فرضته عليها تلك الأعراف، ولا تخشى من التعبير عن مشاعرها بحضور الأب المتفهّم لها، وتحبّ الحياة وتنغمس فيها بكلّ مشاعرها. وتروح تلك العلاقة تتبلور من خلال الزيارة الخاصّة أو اللقاء في مكان عام.

غيرَ أنّ تَواكل خوسي، وهو المغلق على عالمه الرياضي وغيرالمهتمّ بالثقافة السياسية، عن مساعدة أنجيلينا التي لجأت إليه حين تمّ إلقاء القبض على أبيها، محضّر الثيران السبعيني الذي يتعاطف مع الحيوانات وينطوي على ازدواجية بين عمله وموقفه، من قبل الشرطة الفرنسية، بوشاية من زوج ابنته بتهمة تزويد الإرهابيين بالسلاح، وهي تهمة ملفّقة، يشكّل نقطة تحوّل في مسار العلاقة النامية ويصيبها بمقتل، فتغادره مُغْضبة، وتنقطع عنه لتتفرّغ إلى مساعدة الأب الذي تفخر به وبوقوفه إلى جانب الحقّ والثوّار أصحاب الأرض الأصليين. وهنا، نكون إزاء وجهتي نظر مختلفتين لعمليَّة الدفاع عن الوطن، ففيما يعتبرها المستعمِر إرهابًا، يراها المستعمَر ثورة شعبية. ونتساءل: هل كانت موضوعة الإرهاب مطروحة في الخمسينيات من القرن الماضي بالصيغة التي تُطرَح بها اليوم؟

 وإذ يندم خوسيه على تخلّيه عن حبيبته، ويُحسُّ بفقدها، يحاول التعويض عن فعلته سرًّا بالمساهمة في دفع أتعاب المحامي الذي يتولّى الدفاع عن الأب، حتّى إذا ما قام الصديق المشترك خمينيث وزوجته هيلينا بترميم العلاقة بين الحبيبين تعود إلى مجاريها، ويمضيان ليلة رومنسية حميمة في زورق الصديق (الباريخا) تكون ثمرتها ابنتهما إزميرالدا أورانو التي تبصر النور بعد مصرع أبيها بقرني ثور. وهي الواقعة التي تنتهي بها الرواية، في مشهد مأساوي، يموت فيه الثور والمصارع، وتلحق بهما رياضة مصارعة الثيران. وتأتي واقعة مقتل الأم برصاص زوجها السابق المنتمي إلى منظّمة سرية لتزيد في مأساوية المشهد، ورغم أن هذه الواقعة لم ترد في سياق الرواية بل في الرسالة التمهيدية التي يكتبها الأعرج على لسان الابنة التي يتوارى خلفها، فإنه لا يمكن القفز فوقها في رسم المشهد النهائي للرواية.

 في روايته، يطرح واسيني الأعرج، من خلال السرد والوصف الدقيق والحوار الرشيق، مآل تلك الرياضة المعبّرة عن ثقافة معيّنة ينقسم الناس حولها بين مؤيد ومعارض. ويطرح معاناة الغجر التاريخية، هذه الشريحة التي تنتمي إلى القاع الاجتماعي، وقيام النازيين بإجراء التجارب الأولى للغازات السامة عليهم في معسكر أوشفيتز ما أدّى إلى موت مئات الآلاف منهم، وتعرّضهم للعنصرية الفرنسية التي تمثّلها المرأة العجوز ماري مادلين التي تتهمهم بالسرقة والمرض والقذارة والرائحة الكريهة. ويطرح موضوعة الدفاع عن الأرض التي تختلف النظرة إليها بين المستعمِر والمستعمَر.

موضوعات وشخصيات

 هذه الموضوعات يتم طرحها في إطار الحكاية التي تنهض ببطولتها مجموعة من الشخوص، يلعب فيها الحبيبان خوسي وأنجيلينا دورًا محوريًّا، فيما يقوم الآخرون بأدوار ثانوية تُسهم في اكتمال المشهد الروائي العام أو بأدوار ديكورية تسهم في تزيينه. وهنا لا بد من إبداء ملاحظات تتعلّق برسم الشخصيات المختلفة، ما يجعل المتضادّات تتجاور في الشخصية الواحدة.

- خوسي أورانو نجم رياضي يرى في مصارعة الثيران تعبيرًا عن ثقافة يفخر بالانتماء إليها لكنّ ثقافته السياسية ضحلة، ووعيه الطبقي ضعيف، لذلك، يصدّق روايات السلطة ويتبنّاها ويَتَواكل عن نصرة المظلومين من بني قومه.

- أنجلينا راقصة غجرية تحبّ الحياة والحرية والموسيقى لكنّها تكتنز وعيًا سياسيًّا وطبقيًّا وعرقيًّا كبيرًا، ترفض الظلم الذي يقع على قومها وتفخر بانتمائه الغجري وتؤمن بحق الغجر في الحياة.

- إيميليانو الأب محضّر ثيران لكنّه يتّخذ موقفًا سلبيًّا من مصارعة الثيران لعدم وجود تكافؤ بين طرفي المصارعة ولوقوع الظلم على الحيوان. وهو يمتلك وعيًا سياسيًّا ومعرفة بأحوال الأفراد والمجتمعات، وينحاز إلى العدل والقانون والحرية. وفي الوقت الذي يكره فيه ابنته على الزواج ممّن لا تحبّه نراه لا يمانع في أن تقيم علاقة مع سوه خارج الزواج.

- غارسيا بيكينيو لا يمانع في أن تخونه زوجته أنجيلينا مع خوسي لكنّه يرفض أن يأخذها منه، وحين يحسّ أنّها لم تعد له، يشي بأبيها لدى السلطة المستعمِرة بتهمة تهريب السلاح لـ "الإرهابيين"، فيتمّ اعتقاله، وإعدامه لاحقًا،  ويدّعي على خوسي بتهمة كاذبة فينقلب السحر على الساحر.

 هكذا، نرى أنّ كلّ شخصية تحمل ضدّها، وتنطوي على نقيضها، ما يضع مسألة الواقعية في رسم الشخصيات موضع التساؤل.

 في "الغجر يُحبّون أيضًا"، يبرع واسيني الأعرج أيّما براعة في إلقاء الضوء على رياضة تاريخية، فَيُقدّم وصفًا حيًّا لمراحل هذه الرياضة، التحضيرية والتنفيذية، يتناول الحركات والسَّكَنات والتفاصيل والحالات الجسدية والنفسية للمتصارعَيْن، وما يكتنف المشهد من إثارة وكرٍّ وفرٍّ ومناورة ومباغتة....وينقلنا إلى قلب المعركة ويأخذ بمجامع الأنفاس، حتى ليُخيّل للقارىء أنّ الكاتب قد مارس هذه الرياضة طويلاً، وإلاّ ما كان له أن يأتي بهذا الوصف الدقيق الحيّ المتحرّك. وهو يفعل ذلك، في ثلاث وعشرين وحدة سردية، تمضي صُعُدًا في مسار خطّي غالبًا، يُسنِد فيها الروي إلى راوٍ عليم يتضمّنه راوٍ مشارك في الفصل الممهّد للرواية، وبذلك، تتعدّد طبقات الرواة في الرواية، فثمّة روائي يعهد بالروي إلى إزميرالدا الراوية المشاركة في الفصل الأول التي تتنكّب مهمّة كتابة حكاية والديها، وتعهد بالروي إلى راوٍ عليم لا نعلم عنه شيئًا.

هذه الآليّات يُنفّذها الكاتب بوصف حي، وسرد طلي، وحوار رشيق. ويستخدم لغة روائية جميلة تتخفّف من المباشرة ولا تقع في الأدبية، فتكون بمنزلة وسطى بين منزلتين، وتجمع بين وظيفتي التوصيل والتأثير. ويستخدم فيها كثيرًا من المفردات التقنية المتعلّقة بمصارعة الثيران، ويكسر نمطيّتها بكثير من القصائد والأغنيات الغجرية ما يوهم بتقنية اللغة وواقعية السرد.

في "الغجر يُحبّون أيضًا"، يبدو واسيني الأعرج متأثّرًا ببطله مصارع الثيران الوهراني. ولذلك، نراه يتحرّك بخفّة على حلبة الرواية، يناور، ويداور، ويفرّ، ويكرّ، ويباغت، ويتمكّن من ترويض "ثور الرواية" وقتله، ما يجعله "ماتادور" الرواية العربية بامتياز.

المزيد من ثقافة