حقق هاري ميلينغ شيئاً نادراً جداً. في سن العاشرة، كان يضرب الأرض بقدميه ويصرخ على هواه في فيلم سيصبح واحداً من أكبر الامتيازات السينمائية على الإطلاق، في دور الفتى عديم القوى السحرية، الذي يحصي هدايا عيد ميلاده ويستنشق رائحة الكعك، ابن عم البطل الساحر الشاب الذي جسده الممثل دانييل رادكليف في أول جزء في سلسلة هاري بوتر: "هاري بوتر وحجر الفيلسوف" Harry Potter and the Philosopher’s Stone.
لكن الممثل نجح في التخلص من تأطيره ضمن هذا الدور إلى حد كبير، وشكل مسيرة مهنية من خلال لعب بعض أروع وأغرب الشخصيات على الشاشة. قدم أداءه الآسر كفنان بلا أطراف في الفيلم المكون من حكايات عدة "أغنية باستر سكراغز" The Ballad of Buster Scruggs من إخراج الأخوين كوين. ثم دوره كواعظ يسكب عناكب سامة فوق رأسه في فيلم النوار المرعب "شيطان أبد الدهر" The Devil All the Time. الآن يلعب دور الشاب الخجول المساء فهمه، إدغار آلان بو، في فيلم الجريمة القوطي الغامض "العين الزرقاء الشاحبة" The Pale Blue Eye.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أثناء جلوسي قبالة الرجل البالغ من العمر 33 سنة تحت الإضاءة الخافتة لغرفة أحد فنادق لندن، سرعان ما أدركت كيف فعل ذلك. إنه يمتلك نوعاً من البريق وجانباً فضولياً. يبرز عظم خديه البيضاوين مثل الخزف تحت شعره الأجعد شديد السواد. يميل إلى الأمام، ماداً عنقه ومحدقاً في بعينيه الزرقاوين الشاحبتين. يربت على الطاولة التي تفصل بيننا بمفاصل أصابعه وهو يبحث عن الكلمات ليتأكد من أن قصده مفهوم. هذا ليس رجلاً كتب عليه لعب أدوار نمطية. سيكون هذا أمراً لا طائل منه.
أصبح ميلينغ نجماً محبوباً لدى "نتلفيكس" نوعاً ما، حيث يعد "العين الزرقاء الشاحبة" التعاون الرابع له مع منصة البث التدفقي خلال عامين. يأتي بعد فيلم الأبطال الخارقين "الحارس القديم" The Old Guard، الذي لعب فيه دور الرئيس التنفيذي الدمث الذي لا يرحم لشركة صناعات دوائية، وفيلم "شيطان أبد الدهر"، ومسلسل "مناورة الملكة" Queen’s Gambit الذي جسد فيه شخصية بطل ولاية كنتاكي اللطيف في لعبة الشطرنج الذي يصادق الطفلة المعجزة التي تؤدي دورها آنا تايلر جوي. يقول: "رغبة ’نتفليكس‘ في التعاون معي أكثر من الآخرين هي مجرد مصادفة" مصراً على أنه "لا يشعر وكأنه الوجه المفضل لدى ’نتفليكس‘".
يلعب ميلينغ في الفيلم الجديد دور كاتب أميركي شاب في مواجهة المحقق المخضرم أوغسطس لاندور الذي يجسده كريستيان بيل، المستدعى إلى أكاديمية ويست بوينت العسكرية المرموقة في ثلاثينيات القرن الـ19 للتحقيق في وفاة مريبة ومروعة. كان "بو" في الواقع طالباً في الأكاديمية خلال ذلك العقد، لكن شخصية لاندور والجرائم التي يحلها كلها عناصر مختلقة في القصة. يقدم ميلينغ أداء لامعاً لشخصية بو الذي يكثر من شرب الكحول ويمتلك لكنة جنوبية، يتلوى ويترنح في سيره عبر الغرف وهو يقدم أدلته إلى لاندور. كتبت الناقدة السينمائية في اندبندنت كلاريس لاغري: "أداء ميلينغ جذاب حقاً... إنه يحيط بطبيعة بو المختالة والاستعراضية... بينما يكبحه ويمنعه من الوصول إلى حدود التهكم، ويسمح له بدلاً من ذلك بإظهار جراح واهنة معينة". في هذا الفيلم الذي تجري أحداثه على خلفية الثلوج المتساقطة في هدسون فالي بولاية نيويورك، يكشف تصويره لـ بو عن رجل أدى "سلوكه وسنه ومظهره" إلى إساءة معاملته من قبل الطلاب الآخرين.
أحب ميلينغ التمثيل مع بيل، الذي وصفه بأنه "أحد أكثر الفنانين الذين يمتلكون مساحة أداء واسعة الذين عملت معهم على الإطلاق". أسأله إن لاحظ أية تقنيات تمثيل منهجي؟ يقول ببطء متعمد: "أنا لا أعرف حقاً ما التمثيل المنهجي... ربما تكون هذه إجابتي لتخليص نفسي من المأزق، لكن تجربتي في العمل على الفيلم كانت أننا نحضر إلى موقع التصوير، لا نتحدث فعلاً عن المشهد لكننا نبدأ بتأديته فقط. لم يكن هناك تقمص للشخصيات، لكنني أعتقد أنك تبقين دائماً ضمن إطار الشخصية بشكل ما لمجرد أنك ترتدين الأزياء الخاصة بها وموجودة في البيئة التي ينتمي إليها ذلك الشخص. أعتقد أن التمثيل المنهجي يوصم أحياناً بطريقة غير مفيدة".
لم يصادف الحالات الأكثر تطرفاً للتمثيل المنهجي، كما حدث على سبيل المثال مع جيم كيري الذي رفض الخروج من الشخصية لمدة أربعة أشهر أثناء لعبه دور الممثل الكوميدي آندي كوفمان في فيلم السيرة الذاتية "رجل على القمر" Man on the Moon عام 1999. يقول ميلينغ: "ما شعوري حيال ذلك؟ أشعر بأن كل شخص له طريقته الخاصة... أياً كانت الطريقة التي ستوصلك إلى غايتك. أفهم تماماً في بعض الأحيان لماذا يضع أحدهم نفسه في موقف معين للوصول إلى الأداء الذي يريده عندما يصرخ المخرج ’تصوير‘. في أحيان أخرى أسأل نفسي ’هل كان ذلك ضرورياً؟‘، لكن أحياناً يتعين عليك توجيه الأشياء، وقد يستغرق ذلك بعض الوقت، الانفصال عن موقع التصوير قبل القيام بشيء يتطلب هويتك إلى حد كبير".
أسند سكوت كوبر، مخرج "العين الزرقاء الشاحبة" دوراً إلى ميلينغ بعدما شاهده في الحكاية القصيرة التي تحمل عنوان "بقرة مالية حلوب" “Meal Ticket” في فيلم "أغنية باستر سكراغز" أمام متعهد الحفلات المتنقل الذي يلعبه ليام نيسون.
كان لـ ميلينغ تعاون آخر مع المخرج جويل كوين في فيلم "مأساة ماكبث" The Tragedy of Macbeth، إذ لعب دور مالكوم، الابن الأكبر للملك دنكان، الذي قتله ماكبث. إنه يحلم بالانضمام إلى صفوف المتعاونين الدائمين مع الأخوين كوين، مثل فرانسيس مكدورماند (التي شاركت معهما في تسعة أفلام) أو ستيف بوسيمي (سبعة أفلام). يقول: "من الذي لا يرغب في ذلك، صحيح؟ إنهما مدهشان"، أضاف مشيراً إلى نفسه: "حقيقة أنهما قالا ’نريد هذا الرجل‘ للعب تلك الشخصية في ’باستر سكراغز‘ كانت لحظة مهمة بالنسبة إلي، من حيث مصادقتهما على أدائي".
يقول ميلينغ إنه "ليست لديه فكرة" عما كان الأخوان كوين يبحثان عنه ووجداه فيه ربما. عندما ألححت عليه ليقدم تخميناً غير متواضع، انفجر في ضحكة عالية حلوة، قائلاً: "أعتقد أنهما يحبان الممثلين المستعدين، بطريقة غريبة، لتحويل أنفسهم إلى حمقى... الأشخاص المستعدون للمخاطرة". يثني على الطريقة المحددة التي يعمل بها المخرجان موضحاً: "إنهما يعرفان كل لقطة في فيلمهما... يعرف عنهما أنهما في أحد الأفلام، فارغو Fargo ربما، لم يستغنيا عند المونتاج إلا عن اللقطات المصورة باثنتين فقط من الكاميرات الموجودة في موقع التصوير. تدرب جويل ليقوم بعمليات المونتاج، لذا يتعلق الأمر ببساطة بانتقاء تلك اللحظات الواحدة تلو الأخرى. أما بالنسبة إلى الأداء، فإنهما يتركان الأمر لك لتستمتعي به، وهذا هو السبب في أن النتيجة تكون أفلاماً مشغولة بدقة عالية لكن الشخصيات التي تعيش بداخلها تكون غريبة الأطوار".
كما يحب الأخوان كوين الممثلين المسرحيين، وقد كانت لـ ميلينغ تجارب كثيرة في هذا المجال، بما في ذلك مسرحيتا "بيت المجانين" The Hothouse و"الملك لير" King Lear، بعدما تدرب في أكاديمية لندن للموسيقى والفنون المسرحية، التي خرجت أيضاً نجوماً مثل بينديكت كامبرباتش وروث ويلسون وشيويتل إجيوفور. أثناء وجوده في الأكاديمية فقد ميلينغ كثيراً من وزنه، ما يزيد على 30 كغ. عنى تغير شكله عندما عاد لأداء دور دادلي ديرزلي في الجزء الأول من "هاري بوتر ومقدسات الموت" Harry Potter and the Deathly Hallows - Part 1، بعد ثلاث سنوات من ظهوره في "جماعة العنقاء" Order of the Phoenix أن المنتجين ألبسوه بدلة اصطناعية من أجل السيناريو. كانت المقالات التي كتبت عن ميلينغ في فترة خسارته للوزن عام 2009 صادمة للغاية. وصفت إحدى الصحف الشخصية التي لعبها في طفولته بأنها "ابن عم بوتر الممتلئ بالشحم"، حيث كتب المحاور: "لا يوجد أي أثر الآن لعيني الخنزير أو الذقن المزدوجة لدى هذا الشاب البالغ من العمر 20 سنة".
كانت لغة اعتاد ميلينغ على سماعها. يقول مطلقاً ضحكة غير مرتاحة: "أعرف المقابلة التي تتحدثين عنها، وستعرفين ما شعوري حيالها... اسمعيني، أنا أفهم المقصود منها. حسناً، أنا لا أفهم ذلك، لكن، أممم..." يسكت للحظة، ويئن كرسيه تحته قبل أن يتابع: "عندما تكونين في العاشرة من العمر وتلعبين دوراً كهذا، سينظر إليك الناس على أنك تلك الشخصية، وسيرغبون في التمسك بتلك الصورة. من البديهي أن هذا حدث قبل 23 عاماً. ومن الواضح أن ذلك الكاتب كان يحاول لفت انتباه الجمهور، لذلك أفهم سبب قوله تلك الأشياء، لكن علي فقط قراءة ذلك وتقبل أن تلك هي طريقتهم في إجراء المقابلات. لا يوجد شيء آخر يمكنني قوله حقاً".
عندما أسأل عما إذا أصبحت قراءة مثل هذه الأشياء أسهل، يطلق تنهيدة متألمة ويقول: "أعتقد ذلك... امممم. ليست لدي سلطة على تلك الروايات. لكنني تعلمت في مدرسة الدراما وفقدت بعض الوزن، وهذا كل شيء". يتابع ضاحكاً: "هذا بالنسبة إلي! وسيجد الناس ذلك فاتناً. إنهم يريدون السؤال لماذا وكيف فعلت ذلك، لكن هذا لا يهمني على الإطلاق. يريد الناس التمسك بتلك التجارب التي عاشوها أثناء مشاهدة الفيلم، لذلك أفهم لماذا بات الموضوع المناورة الافتتاحية للمقابلات الصحافية".
هل يعتقد أن فقدان الوزن كان له تأثير في حياته المهنية، وعلى قدرته على التخلص من ارتباطه بـ هاري بوتر؟ يقول: "أعتقد أن بإمكانك أن تكوني ممثلة بأي شكل تريدينه... لكن فقدان الوزن في ذلك الوقت لم يكن قراراً واعياً على الإطلاق، كان مجرد شيء قد حدث. وبالطبع يجعل هذا الناس يرونك بطريقة مختلفة، وربما يفتح فرصاً مختلفة للحصول على الأدوار. لا أعتقد أن هذا كان قراراً واعياً. أعني ربما أدركت في وقت متأخر، أنني في مكان ما بداخلي كنت دائماً مهتماً بالممثلين الذين يتحولون... بالتالي ربما جاءت غريزة القيام بذلك من ذاك المكان".
ليس ميلينغ على اتصال مع زملائه في أفلام هاري بوتر - رادكليف وإيما طومسون وروبرت غرينت وتوم فيلتون. لم يتشارك في الواقع عديداً من المشاهد معهم، فقد كانت مشاهده الأساسية في منزله في الفيلم الذي يحمل عنوان "4 برايفيت درايف" مع السيد والسيدة دارسلي، اللذين لعبهما الراحل ريتشارد غريفيث وفيونا شو على التوالي. يقول: "إنه تلك التجربة الغريبة... لقد شاركنا فيها عندما كنا صغاراً جداً. أعتقد أن الجميع انتهوا منها وقاموا بأعمال بطريقتهم الخاصة. لقد غادر كثير منهم المملكة المتحدة، وهو أمر مثير للاهتمام. أما أنا فبقيت عالقاً هنا نوعاً ما".
عندما تطرقت إلى الجدل الدائر حول وجهات نظر مؤلفة قصص هاري بوتر جي كي رولينغ المثيرة للجدل حول حقوق المتحولين جنسياً، فإنه يردد التصريح الذي أدلى به رادكليف، قائلاً: "يمكنني التحدث عن نفسي فقط وما أشعر به... بالنسبة إلي الأمر في غاية البساطة وهو أن النساء المتحولات جنسياً هن نساء والرجال المتحولين جنسياً هم رجال. لكل شخص الحق في اختيار ما هو عليه وتعريف نفسه بالهوية التي يعتبرها حقيقية. لا أريد الانضمام إلى حوار توجيه أصابع الاتهام والقول ’هذا صحيح، هذا خاطئ‘ لأنني لا أعتقد أنني المتحدث الصحيح في هذا الموضوع. لكنني أظن أن كل شخص يمتلك الحق في الاختيار".
يريد ميلينغ العودة إلى الكتابة في يوم من الأيام. أثارت مسرحيته الشعرية ذات البطل الواحد، "بائع جوال" Peddling، التي تدور حول عامل تسويق متجول في شمال لندن، إعجاب صحيفة "نيويورك تايمز" ووصفتها بأنها "مؤثرة وموزونة بدقة" عندما عرضت على مسارح برودواي في عام 2014. يقول: "يتطلب الأمر ببساطة أن تمنحي نفسك الوقت المطلوب للقيام بذلك وأن تكون لديك الفكرة الصحيحة... عندما كتبت ’بائع جوال‘، كنت أعلم أن علي فعل ذلك، كان لدي دافع والمكان والوقت الكافيان لصياغة مسودة أولى، التي كانت فظيعة، ثم بناء النص انطلاقاً منها. لكنني لا أمتلك الشرارة نفسها بعد".
سنراه بعد ذلك في دوره المقبل في فيلم "أرض الميعاد" Promised Land لـ مايكل وينتربوتوم، مخرج المسلسل الكوميدي "الرحلة" The Trip، حيث يلعب ميلينغ دور ضابط شرطة يبحث عن الشاعر الجذاب والمقاتل من أجل الحرية الصهيونية، أبراهام ستيرن، في تل أبيب في ثلاثينيات القرن الماضي. لقد أحب التصوير ويقول: "لا يصيح مايكل قائلاً كلمة ’تصوير‘... يبدو أن التصوير يحدث فقط، وهو ما يتماشى بطريقة غريبة مع كثير من الأفلام الوثائقية التي صنعها، حيث يتعلق الأمر بأن تكون شاهداً على الأحداث بدلاً قيامك بصناعتها".
ما الذي سيأتي بعد هذا الفيلم؟ لا أحد يدري، لكنه بالتأكيد سيكون عملاً تدور أحداثه بعيداً جداً من المكان الذي كانت تسكنه شخصيته في هاري بوتر.
بدأ عرض فيلم "العين الزرقاء الشاحبة" على منصة "نتفليكس" في جميع أنحاء العالم يوم الجمعة 6 يناير (كانون الثاني)، وتمكن مشاهدته في بعض صالات السينما.
© The Independent