Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"فئران ورجال" تواصل طرح السؤال عن حقبة الكساد الكبير

ترجمات رواية الأميركي جون ستاينبك تتعدد مخاطبة ازمات العصر الحديث

الروائي الأميركي جون ستاينبك (مؤسسة الكاتب)

نادرة هي الروايات القصيرة جداً التي تصعق قارئها، شكلاً ومضموناً، وتترك في نفسه أثراً لا يتبدد. بعض هذه الروايات بلغ شهرة دولية كبيرة، مثل "الغريب" (1942) للكاتب الفرنسي ألبير كامو، و"النورس جوناثان ليفينغستون" (1970) لريتشارد باخ. بعض آخر لم يحظ بالانقشاع نفسه، وإن كان لا يقل قيمة، مثل "مونسيرا" (1948) لإمانويل روبليس، و"إنهم يقتلون الجياد" (1935) لهوراس مكوي. بعض أخير وقع في دائرة الظل بعد فترة طويلة من الرواج المستحق، مثل تحفة جون ستاينبك الأدبية "فئران ورجال" (1937) التي لا يسعنا عدم التوقف عندها اليوم في مناسبة صدور ترجمة فرنسية جديدة لها عن دار "غاليمار" تسمح، بفضل مهارات المترجمة أنييس دوسارت، ليس فقط بإعادة اكتشافها، بل بتذوق أيضاً لغة العملاق ستاينبك الغنائية المريرة فيها.

"فئران ورجال" هي أولاً مثال ساطع على أن الروايات العظيمة ليست بالضرورة الأكثر تعقيداً أو متاهة، بل يمكن أن تكتفي باقتراح درب ريفي بسيط وجميل على قارئها. وعلى مثل هذا الدرب نتعرف إلى بطليها، جورج وليني، وهما عاملان زراعيان وصديقان منذ الطفولة يتجولان سيراً على الأقدام داخل كاليفورنيا، في خضم "الكساد الكبير"، بحثاً عن عمل يومي في المزارع. جورج رجل صغير القامة لكن واسع الحيلة ونبيه. ليني عملاق ساذج، رقيق ولطيف بقدر ما هو قوي وأخرق، يشغف بما هو ناعم الملمس، مثل الفأرة الميتة التي يحتفظ بها في جيبه، أو مثل الأرانب التي يرغب إلى حد الهوس بتربيتها. جورج يرعى ليني الذي لا يعرف دائماً كيف يتحكم بقوته، الأمر الذي يجبرهما على حزم أمتعتهما والانتقال من مكان إلى مكان آخر.

حلم ومال

صديقان يبدوان إذاً متناقضين تماماً، لكنهما يتشاركان الحلم نفسه: ادخار ما يكفي من المال لشراء مزرعة صغيرة حيث يمكنهما تربية حيواناتهما وجني ثمار عملهما. وحين يجدان عملاً لمدة شهر كامل في مزرعة في وادي ساليناس، يقتنعان بأنهما سيتمكنان من جمع المال اللازم لتحقيق حلمهما، لكن الحياة ستقرر خلاف ذلك، وكما يقول البيت الشعري الذي أوحى لستاينبك بسرديته، وكتبه الشاعر الاسكتلندي روبرت برنز "أفضل الخطط التي يضعها الفئران والرجال غالباً لا يتحقق".

وفعلاً، لا تلبث ظروف هذا العمل أن تشكل خطراً ثابتاً على ليني الساذج والنزوي، خطراً لا يمكن أن يبعده أي شيء، بما في ذلك التحذيرات المتكررة لجورج الذي تمسنا رعايته لصديقه، وإن اتسمت أحياناً بالقسوة. فالكاتب المتعاطف مع بطليه، الإنسانيين بشكل رهيب، يحضرنا لمأساة نستشعرها من خلال التوتر الملموس الذي يعرف كيف يبثه، ويجعلنا نتمنى أن يصغي ليني إلى صديقه ولا يضع نفسه في المأزق الذي يتربص به.

لن نكشف عن طبيعة هذا المأزق ومآله التراجيدي كي لا نفسد على من لم يطالع الرواية بعد متعة قراءتها، لكن ثمة سؤال مشروع يلاحقنا على طول نصها ويتعلق بعنوانها: لماذا "فئران ورجال"، بخاصة أن الفأرة الوحيدة فيها هي تلك الميتة التي يحتفظ ليني بها في جيبه، إلى أن يرميها جورج في النهر، وطرفتها لا تحتل موقعاً مركزياً؟ الجواب الوحيد الذي يتبادر إلى ذهننا هو أن الفرار المستمر لبطليها في مطلعها لا يختلف كثيراً عن هروب القوارض من وجه جلاديها البشر. وفي حال جورج وليني، الجلاد هو مجتمعهما في المقام الأول.

ضد سياسة الإقصاء

وفعلاً، "فئران ورجال" التي كتبها ستاينبك كمرافعة حقيقية ضد العنصرية والإقصاء ونبذ الإعاقة، تلقي نظرة نقدية بصيرة على بلد -أميركا- لا شفقة فيه ولا رحمة، يخلف المستبعدين ولا يتردد في القضاء عليهم بمجرد انزلاقهم. ومن خلال عالم يعرفه جيداً لكونه عمل بنفسه فيه، عالم العمال الزراعيين، ينتقد الكاتب فيها أيضاً النظامين السياسي والاقتصادي اللذين أديا إلى "الكساد الكبير" ومآسيه.

ولأن ليني يتسم ببراءة طفل وسذاجته، ستقودانه إلى ارتكاب ما لا يحمد عقباه، عن غير قصد، تطرح الرواية سؤالاً آخر: هل البراءة موجودة حقاً؟ لكن الرسالة المركزية فيها تبقى أن الأحلام لا تتحقق أبداً. رسالة قاتمة يقابلها ستاينبك ويلطف تشاؤمها الشديد بتلك الصداقة الأخوية المؤثرة التي ما زالت ممكنة، وتجمع جورج وليني. صداقة كفرصة فريدة داخل مجتمع يعاني معظم أفراده عزلة قاسية، وهو ما يجعلها مشبوهة في عيون الآخرين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولم يخطئ نقاد كثر في رؤيتهم في "فئران ورجال" نصاً مسرحياً بامتياز، نظراً إلى المساحة الكبيرة التي تحتلها الحوارات المتتابعة داخلها. حوارات صائبة وموحية إلى حد تلغي فيه الحاجة إلى إضافة أي تعليق أو تأمل في أحداثها، فنتلقاها على شكل سيناريو مكتوب بأسلوب باهر وناجع، ومحبوك بخيط من حرير يحملنا حتى نهاية السردية، قبل أن ينفجر في وجهنا. حوارات تستمد قوتها أيضاً من سطوة الشخصيات التي تنطق بها. شخصيات غنية بالألوان لم يحتج ستاينبك إلى أكثر من بضع لمسات لرسمها وتجسيدها، ولا تقتصر على جورج وليني. فلدينا أيضاً سليم المسؤول عن سير العمل في المزرعة، وكروكس السائس الأسود الذي يناديه الجميع بـ"الزنجي"، وكاندي العجوز مقطوع اليد الذي سحقته حياة الكدح، وكيرلي ابن صاحب المزرعة الشرير وزوجته الشابة التي تحلم بأن تصبح ممثلة وتكون السبب في وقوع المأساة... شخصيات تبين إلى أي حد يقع الإنسان، والطبيعة البشرية تحديداً، في صلب تأمل الكاتب داخل هذه الرواية، وفي جميع أعماله الأخرى.

باختصار، يبني ستاينبك ببضع صفحات (106) عالماً حسياً للغاية، فظاً ومميتاً، مليئاً بالشراسة والوحدة، يعزل أبناء البشرة السوداء فيه، وتقيد حركة النساء، ويدان المعاقون عقلياً. صفحات قليلة لكنها تعج بالرموز القوية والعبر، كذلك النهر ذو اللون الأخضر المريب الذي يعبر بين التلال مثل ثعبان، ويشكل فخاً قاتلاً بانطلاق الرواية واختتامها على ضفتيه، أو النهاية الحزينة نفسها التي سيعرفها كلب العجوز كاندي وليني. صفحات لا يسمي كاتبها المعاناة المتفشية فيها، بل يوحي بها، وكل واحدة من شخصياته تحمل داخلها جرحاً واسعاً يفشي جسدها به (خطوات ثقيلة، ظهر مكسور، يد مقطوعة أو قاتلة...)، وفي الوقت نفسه، حلماً تغذيه كي لا تموت.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة