Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف تحول بيرني مادوف إلى "قاتل مالي متسلسل"

يتحدث مخرج "مادوف: وحش وول ستريت" عن فيلمه الوثائقي الجديد وعن انهيار منصة "إف تي إكس" للعملات الرقمية وكيف يعيد التاريخ نفسه

حكم على بيرني مادوف بالسجن 150 عاماً (غيتي)

لا تشعر للوهلة الأولى بوجود أي سبب محدد لصدور سلسلة وثائقية من أربعة أجزاء حول بيرني مادوف في عام 2023. فقد مرت سنتان على وفاة هذا الخبير المالي والنصاب. وانهار مخطط بونزي الذي كان يديره منذ 14 عاماً. والمحاولات مستمرة لتعويض ضحايا أعماله الاحتيالية. فلماذا نعيد فتح هذه القصة في هذا الوقت بالتحديد؟ 

قبل ثلاثة أيام من الموعد المقرر للقائي بجو بيرلينغر، مخرج الفيلم الوثائقي الجديد الذي تطرحه "نتفليكس" "مادوف: وحش وول ستريت" Madoff: The Monster of Wall Street، تقدم النشرات الإخبارية الإجابة المثالية. سام بانكمان فرايد، المؤسس والرئيس التنفيذي لمنصة العملات الرقمية "اف تي إكس" FTX، البالغ من العمر 30 سنة، أوقف في جزر البهاما. في اليوم التالي، وجهت إليه ثماني تهم جنائية تتعلق بالاحتيال في التحويلات المالية والتآمر بهدف تبييض الأموال، والتآمر بهدف الاحتيال في الأوراق المالية.

خلافاً لمادوف، لم يتهم بانكمان فرايد بإدارة مخطط بونزي. لكن بعد اعتقاله، أقامت وسائل إخبارية عدة مقارنات بين الاثنين. وبحسب تعبير وزارة العدل، يزعم بأن بانكمان فرايد أدار "مخططاً واسع النطاق" من أجل "اختلاس مليارات الدولارات من أموال العملاء" و"تضليل المستثمرين". ويذكر نطاق الاحتيال المزعوم بأعمال مادوف الاحتيالية، كما يتشارك الرجلان هالة الغموض التي أحاطت بهما في وقت من الأوقات. لفتت "نيويورك تايمز" إلى أن بانكمان فرايد "اعتبر في السابق نسخة معاصرة من جون بيربونت مورغان، وأصبح محبوباً من كبار المستثمرين في وادي السيليكون". ومن جانبه، اكتسب مادوف أيضاً ثقة المستثمرين واعتبر في يوم من الأيام "مبدعاً وناجحاً لدرجة دفعت الأثرياء وأهم الشركات إلى طلب خدماته ونصائحه الاستثمارية"، كما كتبت "آي بي سي نيوز" ABC News عند سقوطه. فيما تتطور القضية ضد باكمان-فرايد سنكتشف إن كانت مقارنته بمادوف مبررة أم لا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وصل بيرلينغر، وهو من أهم مخرجي الأفلام الوثائقية عن الجرائم الحقيقية، إلى قصة مادوف عن طريق "نتفليكس". تضم أعماله السابقة ثلاثية بارادايز لوست (الفردوس المفقود) Paradise Lost حول ثلاثي غرب ممفيس [ثلاثي حكم عليهم بارتكاب جرائم قتل] و"كرود" Crude الفيلم الوثائقي الذي تناول دعوى قضائية جماعية ضد شركة الطاقة شيفرون. حين فاتحته شركة "نتفليكس" باحتمال تصوير وثائقي حول مادوف، كان بيرلينغر قد أنهى للتو مجموعة من الأفلام الوثائقية المخصصة لعدد من القتلة المتسلسلين. منذ عام 2019، أنتج أفلاماً عن تيد باندي وصامويل ليتل وجون واين غايسي وجيفري دامر. باعترافه الشخصي، كان بيرلينغر قد "أنهك من العمل على القتلة المتسلسلين".

وكما قال لـ"اندبندنت" في اتصال فيديو في ديسمبر (كانون الأول) "أنتجت كثيراً من الأفلام حول القتلة المتسلسلين وهذا مرهق نفسياً. لا شك في أنني أحب أفلام الجرائم الحقيقية. وأعتقد بأن الفكرة من وراء [هذا الفيلم الوثائقي] كانت ’فلنوسع نطاق عملنا على الجريمة‘".

كان بيرلينغر الذي يصف نفسه بأنه "مهووس بالأسواق المالية"، يتحرق شوقاً لإنتاج فيلم لا يغوص في الجانب الإنساني للقصة فحسب بل يتعمق في الجوانب التقنية للأعمال الاحتيالية التي نفذها مادوف كذلك. "طبعاً، لم أكن لأعلم بأن مسألة ’إف تي إكس‘ ستظهر" كما يقول، واصفاً هذا الوضع الأخير بأنه "التشابه المثالي" الذي يظهر بأن أحداً لم يتعلم الدروس الرئيسة من حقبة مادوف.

بلغ بيرني مادوف سن الرشد خلال فترة كانت فيها أميركا في خضم التعافي من الصدمة النفسية (تروما) الحرب العالمية الثانية، وتتوق "إلى الهدوء والسلام والوضع الطبيعي"، كما تقول ديانا بي هنريكس، مؤلفة كتاب "ساحر الأكاذيب: بيرني مادوف وموت الثقة"The Wizard of Lies: Bernie Madoff and The Death of Trust، في الفيلم الوثائقي. قضى الرجل جزءاً من نشأته في حي للطبقة الوسطى في كوينز، لكن والديه عانيا من مشكلات مادية. وصدر أمر بحجز منزلهم لاستيفاء الضرائب المترتبة عليهم. عندها، اضطرت والدته، التي كانت ربة منزل في البداية، إلى أن تبحث عن وظيفة.

وتشرح هنريكس في السلسلة الوثائقية أنه "لم يكن من المفترض أن يحدث هذا في كنف العائلة الناجحة التي تسكن الضواحي. وهو ما زرع في مادوف حاجة مطلقة لا رجوع عنها بتحقيق النجاح… وما أراده هو نجاح ’وول ستريت‘ السريع والمبهر".

ما فعله مادوف تالياً أصبح قصة يعرفها الجميع الآن. وهي صارخة لدرجة أنه يمكن التعبير عنها بكلمات قليلة: قدم نفسه على أنه مدير مالي يمكنه أخذ مال عملائه واستثماره. لكن مادوف لم يستثمر المال. بل، عندما طالب عملاؤه بسحب ودائعهم، كان يستخدم مال عملائه الآخرين ليدفع لهم.

ويقول بروس دوبينسكي، المدقق في عمليات الاحتيال والمحاسب القضائي، في الوثائقي "كان الأمر برمته حيلة. لم يستثمر مادوف يوماً عبر شركته التي تقدم الاستشارات الاستثمارية. كل ما فعله هو أخذ مال الناس وإخبارهم بأنه سيستثمره - لكنه لم يفعل ذلك يوماً. كانت صفقات وهمية. مخطط بونزي".

انهار مخطط مادوف في نوفمبر (تشرين الثاني) 2008. نفد المال، أخطر ابناه مارك وآندرو السلطات. ثم اعتقل مادوف في ديسمبر من ذلك العام. أقر بذنبه في عام 2009 في جرائم عدة وحكم عليه بالسجن 150 عاماً. في عام 2020، طلب مادوف إخلاء سبيله لأسباب إنسانية، معللاً ذلك بتدهور صحته. رفض قاض فدرالي طلبه وتوفي مادوف السنة التالية في السجن عن عمر 82 سنة.

عندما أسأل بيرلينغر إن كان من المفترض، برأيه، السماح لمادوف بقضاء آخر أيامه خارج السجن، يجيب بالنفي. وقال "أمضى الجزء الأكبر من حياته وهو يعيش حياة لا يتسنى لمعظم الناس سوى أن يحلموا بها". ومن جهته، قال القاضي ديني تشين، الذي رفض الإفراج عن مادوف لأسباب إنسانية إن مادوف "لم يندم يوماً حقاً" على أفعاله.

يرى بيرلينغر أن "القاتل المالي المتسلسل" مثل مادوف يتشارك إحدى الصفات مع القتلة المتسلسلين الذين وثق بيرلينغر جرائمهم المروعة على الشاشة، "إنهم فاقدون لحس التعاطف بشكل واضح". ويقول بيرلينغر "لا يمكن لأي شخص يتمتع بحس التعاطف مع الآخر أن يرتكب الأفعال التي قام بها باندي أو غايسي أو دامر أو مادوف. هذه هي المشكلة المستعصية: لا أظنهم قادرين على الشعور بالندم لأنهم فاقدون لحس التعاطف".

قد يكون من الصعب التحدث عن جرائم ذوي البزات الأنيقة من أصحاب الشركات على نحو ملموس. فهي تحدث في عالم غير ملموس تملؤه التعاملات المالية والتبادلات التجارية السيئة. غالباً ما يعثر على الإثباتات داخل الوثائق وقواعد البيانات. وتتضمن الحلول الضبط والرقابة الحكومية. لكن "مادوف: وحش وول ستريت"، ينتمي إلى اتجاه ناشئ في عالم الجريمة الحقيقية، سلط ضوءاً جديداً على جرائم الشركات. حاولت الأفلام الجديدة أن تخبر هذه القصص كما لو كانت قصص جرائم حقيقية، تحمل كماً كبيراً من الأذى وتخلف أثراً هائلاً في حياة الأفراد. في السياق نفسه، سلطت البرامج التلفزيونية والمدونات الصوتية التي تناولت قضية ثيرانوس الضوء على تبعات حيلة إليزابيث هولمز على مرضى السرطان الذين اعتمدوا على اختبارات الشركة الفاسدة. كما تعمقت في المصير المأسوي الذي لقيه إيان غيبز، الموظف السابق في ثيرانوس الذي قضى انتحاراً. خصصت المدونة الصوتية "أنت مخطئ بشأن" You’re Wrong About عدة حلقات لقضايا مخالفات الشركات.

ويتضمن "مادوف: وحش وول ستريت" مقابلات مع غوردون بينيت وكايت كارولان، الزوجين اللذين ائتمنا مادوف على مدخرات تقاعدهما. ويظهران على أنهما لم يقعا ضحية مادوف وحده، بل نظام خذلهما مرات عدة عندما فشل في الكشف عن احتيال مادوف المرة تلو الأخرى.

ويقول بيرلينغر "كان من المهم جداً أن نخبر قصص أولئك الضحايا وأن نذكر الناس بأن هذه الجرائم التي تحدث في إطار الشركات لديها ضحايا دمرت حياتهم بالكامل. في بداية البرنامج، ندعوه بالقاتل المالي المتسلسل لأنني أراه بهذا الشكل. أعني أنه حطم حياة كثيرين".

ويرى بيرلينغر تشابهاً بين الازدواجية في حياة النصابين مثل مادوف، القادر على تقديم نفسه باعتباره رجل أعمال ماهر فيما يدير أعمالاً يعلم هو أنها خدعة من جهة، والقاتل المتسلسل الذي ينجح بعيش حياة سرية يرتكب فيها جرائمه، من جهة أخرى. ويقول "أعتقد بأنهم يعلمون طبعاً بأنهم يقترفون ذنباً، في مكان ما، لأنهم يخفون آثار هذه الأعمال. لكنني أظن بأنهم يعتقدون جميعاً أن الأمور ستسير على نحو جيد ويخلقون تبريرات ولا يتعاملون بمنطق مع الواقع. وهنا، أجد تشابهاً مع القتلة المتسلسلين. فهم يعيشون في عالمهم الخيالي الخاص".

يتخذ "مادوف: وحش وول ستريت"، النبرة الأقسى عندما يعيد النظر في الفرص الضائعة لإيقاف مادوف. فقد "منحته هيئة الأوراق المالية والبورصات SEC [الهيئة الرقابية على الأسواق المالية] الضوء الأخضر" في مناسبات عدة، كما يقول بيرلينغر. وكما ذكرت مجلة فورتشون Fortune، "بعد انكشاف [احتيال مادوف] في ديسمبر 2008، سارعت هيئة الأوراق المالية والبورصات التي خضها الموضوع إلى فرض ضوابط تمنع تكرار هكذا أمور وتكشفها باكراً". لكن كل الضوابط التي وضعتها لم تمنع التاريخ من تكرار نفسه على ما يبدو في فضاء العملات الرقمية المشفرة كما يظهر من خلال انهيار "إف تي إكس".

ويقول بيرلينغر "الموضوع عبثي. ونقص الرقابة مخيف. لم توضع ضوابط مناسبة للعملات الرقمية وقد فشلت هيئة الأوراق المالية والبورصات فشلاً ذريعاً في مهمتها مرة أخرى. كما أخفقت بقوة خلال الأزمة المالية [عام 2008]".

هذه القصة مألوفة بالنسبة إلى بيرلينغر. وهو يلفت إلى أعماله السابقة التي تناولت الإدانات الخاطئة، وفساد مكتب التحقيقات الفدرالي في قضية وايتي بلغر، والشركات الملوثة. ويشرح "فشل المؤسسات شكل موضوعاً أساسياً في أعمالي، أكثر بكثير من مسألة قضايا القتلة المتسلسلين. لهذا أقول إن مادوف يلائم منحى أعمالي عبر السنوات أكثر من باندي".

في غياب مادوف، يستحضر بيرلينغر صوت الشخص محور الوثائقي وروحه من خلال الخبراء والتسجيلات الصوتية لمادوف وإعادة تصوير الأحداث بطريقة درامية. عندما أسأل بيرلينغر عن السؤال الذي كان ليرغب بطرحه على مادوف لو كان حياً، يشير بيرلينغر إلى عائلة مادوف ولا سيما ابناه آندرو ومارك. عمل الاثنان لدى والدهما لكن في قسم من الشركة غير متعلق بمخطط بونزي.

ويضيف بيرلينغر "أعتقد فعلاً بأن العائلة لم تكن تعلم شيئاً. لكنني لا أريد أن أعفي الشابين، آندرو ومارك، من المسؤولية كلياً. أظن أنهما لم يعلما بما يحدث لكن لا بد أنهما عرفا بوجود خطب معين. باعتبارهما متخصصين في الشؤون المالية، كان من واجبهما تجاه نفسهما بعض الشيء أن يتعمقا في البحث قليلاً… لكنني أؤمن فعلاً بأنهما كانا يجهلان كل التفاصيل ووثقا بوالدهما. لذلك أرغب أن أسأل (بيرني): كيف استطعت أن تفعل هذا بولديك؟ لم يكن الأمر لينتهي جيداً".

© The Independent

المزيد من ثقافة