Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تهنئة المسيحيين... سجال قديم بـ"نجوم جدد"

الأوضاع الاقتصادية الصعبة لم تنل من قدرة ملايين المصريين على الانخراط في "الخناقة المعتادة"

صورة نشرها محمد صلاح وأثارت جدلا كبيرا بين المؤيدين والمعارضين (حساب صلاح على إنستغرام)

أغرب ما في المعركة السنوية حول موقف الشجرة ووضع التهنئة بالعيد وتقرير مصير المحتفل ومآل الساكت على الاحتفال وعقوبة المستمتع بأجوائه، هو أن الوضع الاقتصادي المزري لم ينل من أو يؤثر في حدة الخلاف أو طاقة العراك.

إنها المعركة السنوية المزمنة التي تقام على خلفية شجرة "الكريسماس" وزينة رأس السنة الميلادية وعيد الميلاد المجيد بنسختيه الغربية المحتفى بها في 25 ديسمبر (كانون الأول) الحالي أو الشرقية المؤرخة في الرابع من يناير (كانون الثاني) من كل عام.

عقود طويلة هي عمر نسخة التدين التي تم الترويج لها في أواخر سبعينيات القرن الماضي وترسخت أقدامها بالعقول في الثمانينيات، وباتت عرفاً يورث من جيل إلى جيل، حتى باتت جزءاً من تكوين ملايين تطل برأسها في مثل هذا الوقت من كل عام.

الشجرة حرام؟

هل شجرة الكريسماس حرام أم حلال؟ هل الاحتفال أو الانتفاع أو الاستمتاع بأجواء البهجة المصاحبة لعيد ميلاد السيد المسيح عليه السلام، مسموح بها أم مكروهة أم هي معصية؟ وإن كانت معصية هل يجوز السكوت على من يجاهر بالبهجة أو يتحدث على الملأ عن الفرحة بشجرة مزينة هنا أو موسيقى مبهجة هناك؟

تبدو الأسئلة أقرب ما تكون إلى استفسارات كانت تطرح في العصور الوسطى أو ما بعد نزول الإسلام بقليل وقت كانت العقيدة جديدة وتفاصيلها مبهمة بعض الشيء، لكنها الأسئلة التي يصر بعضهم على طرحها، ويصمم بعضهم الآخر على الغوص في أغوارها، ويبقى فريق ثالث متابعاً متعجباً مندداً بما يجري ويكاد لا يصدق أن مواطناً متعلماً متنوراً يسأل في العام العاشر أو الـ20 أو الـ22 من الألفية الثالثة إن كانت تهنئة مواطن آخر بعيده حلالاً أم حراماً.

دوائر العيد المفرغة

الحلال والحرام والشجرة والعيد والزينة والتهنئة تدور في دوائر مفرغة اعتادها الجميع، لكن في كل عام تصطبغ الدائرة بألوان حادثة عجيبة هنا أو حدث غريب هناك أو تطور لم يكن في الحسبان هنا أو هناك.

هذا العام، حدث أن أطل نجم الكرة المصري المحترف في بريطانيا محمد صلاح أو "مو صلاح" مع زوجته وابنتيه وأربعتهم يرتدون بيجامات متطابقة الموديل مختلفة الألوان وتبدو شجرة الكريسماس في خلفية بيتهم ببريطانيا.

من جهة الاحتفالات والابتهاجات، الصورة معتادة حيث النجوم تحتفل بعيد الميلاد ورأس السنة، على اختلاف انتماءاتهم وعقائدهم، بصور مماثلة يشاركونها مع المتابعين والمعجبين.

لكن من جهة الخلافات والتناحرات فالصورة تؤجج صراعاً وسجالاً وحرباً بين فريقي التسامح والتلاطف وقبول الآخر والتعامل مع الأعياد باعتبارها مجرد مناسبات للفرحة وليست غزوات أو فتوحات، والتشدد والتزمت ورفض الآخر واعتبار أعياد الآخرين فرصة لدعوتهم إلى ترك دينهم والانضمام للدين الآخر، وإن رفضوا فالتضييق عليهم في الاحتفال ومضايقتهم بإشاعة أجواء من الحرمانية والكراهية والجهر بأنهم ومن يهنئونهم في جهنم وبئس المصير.

مصير الصور الاحتفالية التي نشرها نجم ليفربول وأسرته كانت محتومة، فالجميع معجب ومندد ومتابع صامت، على يقين بما تفعله هذه الصورة في كل عام.

المجموعة الأولى تثني على اللاعب المتنور المتسامح المتفاعل مع المجتمع الذي يعيش فيه، والمتحلل من عقدة الفوقية ولعنة ضيق الأفق.

والمجموعة الثانية تنتقده وتنتقص منه وتنعته تارة بالمتخلي عن دينه، وأخرى بمن سمح لنفسه بتحليل الحرام وتحطيم صورته كسفير للإسلام في بلاد غير المسلمين.

بينما المجموعة الثالثة تتابع المجموعتين، وكأنها تتابع فيلماً شاهدته عشرات المرات.

ملايين المشاهدات والتعليقات

عدد مرات مشاهدة الصور والتمعن في تفاصيلها تعدى 70 مليوناً على "تويتر"، وعبر ثلاثة ملايين شخص عن إعجابهم بها على "إنستغرام".

أما التعليقات فجديرة بـ"كونسولتو" من علماء النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا والتاريخ وكذلك السكان والهجرة، المعجبون بالصور أمرهم مفهوم، أما المنددون فيشككون في تدين النجم المصري، وينصحونه بمراجعة احتفاله هذا وشجرته تلك وزينتها هذه وزجه بأفراد أسرته هؤلاء، لا سيما أنهم إناث ولا ينبغي عرض وجوههن هكذا أمام الملايين، لأنه "مسلم" وعليه الالتزام بتعاليم دينه والرجوع إلى المشايخ ليخبروه بحرمانية الاحتفال بل وكراهية التهنئة.

الشيخ يهنئ الباباوات

في تلك الأثناء، كان شيخ الأزهر الشريف أحمد الطيب يهنئ بابا الفاتيكان البابا فرنسيس وقادة الكنائس ومسيحيي الشرق والغرب بأعياد الميلاد المجيد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وجاء في رسالة التهنئة المفاجئة والمثيرة والمسببة لصدمة كبرى لأعضاء فريق التحريم والمنع والحظر ورفض الآخر، "أهنئ إخوتي وأصدقائي الأعزاء البابا فرانسيس والبابا تواضروس ورئيس أساقفة كانتربري دكتور جاستن ويلبي وبطريرك القسطنطينية برثلماوس الأول وقادة الكنائس والأخوة المسيحيين في الشرق والغرب بأعياد الميلاد، وأدعو الله أن يعلو صوت الأخوة والسلام، ويسود الأمان والاستقرار في كل مكان".

لكن ما جرى على أثير صفحة الإمام الأكبر تعليقاً على التهنئة لم يكن صادماً فقط، لكن مبرهناً على ما يدور في عديد من المجتمعات العربية من أفكار وتفسيرات دينية ينعتها بعضهم بـ"شديدة التطرف"، ويعتبرها بعضهم الآخر "نموذجاً يحتذى في الالتزام".

تهذيب وقلته

آلاف المعلقين التزموا التهذيب الشديد والثناء على ما وصفوه بـ"سماحة" شيخ الأزهر ومحبته للإنسانية التي هي من صميم العقيدة الإسلامية، لكن آخرين أمعنوا في توجيه اتهامات بالغة الإساءة للطيب، مرة متهمين إياه بتحريف تفسير الدين وتحليل ما حرم الله، وأخرى بـ"مداهنة" النظام السياسي المصري الذي "لا يتبع الشريعة الإسلامية" الذي "انقلب على الرئيس الشرعي محمد مرسي".

التعليقات صادمة بحق، حتى أولئك الذين ينتقدون الإمام الأكبر لما يعتبرونه "بطئاً" في تجديد الخطاب الديني أو حتى "مقاومة" لتنقيح الخطاب مما علق به من أتربة نسخة تدين السبعينيات المتشددة المتزمتة أدهشتهم التعليقات المفرطة في الخروج على أدب الحوار وقواعد الاختلاف.

في مقالة عنوانها "هجمة مرتدة على الإمام الأكبر"، قال الكاتب الصحافي حمدي رزق إن "مطالعة التعليقات العقورة لنفر من شذاذ الآفاق على التفاعل (منصات التواصل الاجتماعي) تحت تهنئة الإمام الطيب تصيبك بالصدمة من سوء الأدب مع الإمام، اعلم يا طيب القلب لن ترضى عنك الإخوان ولا السلفيون حتى تتبع طريقهم في العداوة والبغضاء لإخوتنا في الإنسانية عامة، وبخاصة إخوة الوطن من المسيحيين".

المسيحيون أنفسهم اعتادوا ما يجري من شد وجذب وتحليل وتحريم لتوجيه التهنئة لهم من قبل شركائهم في الوطن من المسلمين، كتب أحدهم ساخراً "يا جماعة هدوءاً من فضلكم، وفروا على أنفسكم عناء التهنئة ومشقة الاختلاف فيما بينكم، ونحن سنحتقل على الضيق (احتفال محدود) فيما بيننا من دون صداع هل يجوز أو لا يجوز، ومن دون تعريضكم لخطر فقدان دينكم وتبعثر إيمانكم إن أنت قلتم لنا: كل سنة وأنتم طيبون".

سرقة أم كريسماس؟

آخرون خرجوا بنكتة، "دخل فلان النار فسأله زملاؤه عن سبب انضمامه لهم: قتل؟ سرقة؟ فساد؟ أكل مال اليتيم؟ اغتصاب؟ فرد: بل جئت في ’ميري كريسماس‘".

ومن نكتة من وحي الخيال إلى أخرى على إيقاع الواقع، حيث "الواحد من أولئك المحرمين للاحتفال بعيد الميلاد وتهنئة المسيحي بمولد النبي عيسى عليه السلام يكون واكل (استولى على) ميراث أخته ومتزوج ثلاث أو أربع نساء عرفياً أو مسياراً أو متعة، ويغتاب أمة لا إله إلا الله، وفي الآخر يقول: حرام تهنئة المسيحي بعيد الميلاد".

ويستمر اللف والدوران في الحلقة الموسمية المفرغة، وكعادة كل عام وردت عشرات الأسئلة إلى دار الإفتاء المصرية "هل تهنئة جاري المسيحي بعيد الميلاد حرام؟ وهل شراء شجرة عيد الميلاد وتزيينها حرام؟".

دار الإفتاء وعلماؤها لا يشهرون تململهم من التكرار ولا يجاهرون بضجرهم من ترديد السؤال نفسه على مسامعهم ومسامع آبائهم من قبلهم، يتقبلون السؤال ويجيبون بعد مقدمة قصيرة واستشهادات طويلة بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحث على التسامح وتدعو إلى الإنسانية ولا تحول كل مناسبة دينية لينتمي لها الآخر إلى غزوة يحاول فيها بعضهم احتلال الدين أو القضاء عليه أو دكه على رؤوس المؤمنين به، وتنتهي الإجابة ليباغتوا بسؤال آخر: هل يحتفل المسلم بعيد ميلاد المسيح؟ وهلم جرا.

لكن من أشهر تململه وأعلن تكدره هو المذيع عمرو أديب الذي قال قبل أيام "على مدار 20 عاماً وأنا أقدم حلقة في مثل هذا الوقت من كل عام لنناقش إن كانت تهنئة المسيحيين بأعيادهم حلالاً أم حراماً".

أستاذ الفقه المقارن في جامعة الأزهر الشريف سعد الدين الهلالي، الذي دأبت آراؤه وتفسيراته على إغضاب فريق تدين السبعينيات، بل ويلقى هجوماً واعتراضاً أحياناً من علماء من داخل الأزهر الشريف نفسه، أثنى على احتفال مو صلاح وأسرته قائلاً: "عاوز (أريد) أن أحيي الكابتن محمد صلاح لشجاعته وثقته في نفسه وإيمانه وأنه يرعى الله في دينه".

السهام المارقة

وكما هو معروف ومتوقع، بل وفي حكم المؤكد، تحركت السهام المارقة لتنال من الهلالي لدرجة أن أحدهم كتب: "حسبنا الله ونعم الوكيل، بدلاً من أن يدخلوا في دين الله أفواجاً يخرجون منه أفواجاً"، وذلك في إشارة إلى مو صلاح والهلالي وعلماء الأزهر الذين يهنئون المسيحيين بأعيادهم، ورد عليه آخر "هؤلاء لا يعلمون أنه لا يجوز تهنئة الكفار بأعيادهم".

"لا تجوز تهنئة الكفار بأعيادهم" عنوان لصورة طابور طويل لرجال ونساء وأطفال في غابة حدودية في القارة الأوروبية ومذيلة بعبارة "لكن يجوز اللجوء إليهم والعيش عندهم وقبول أموال الإعانات من حكوماتهم والمساعدات من موازناتهم الكافرة".

وحقناً لسجال كل عام وخلاف هل يجوز النظر إلى شجرة الكريسماس والاستمتاع بأجوائها المبهجة، أقام أحد المراكز التجارية الكبرى في القاهرة شجرة كريسماس فاخرة فيها من الزينة كثير ومن الأجراس الذهبية والفضية ومن الكرات اللامعة كل الألوان، لكنها مصممة على هيئة مئذنة مسجد، وقفت الشجرة المئذنة ولسان حالها يقول "إذا كنت تراني شجرة وتكفرني فأنا مئذنة، وإن كنت تراني مئذنة وتتعجب من وجودي في أعياد الميلاد فأنا شجرة وهذه أجراسي وزينتي، وذلك إلى أن تحسموا أمركم من الشجرة والعيد والتهنئة والاحتفال".

الاحتفال بمكوناته من تحليل وتحريم وسجال وعراك يحتفي هذا العام بمكون إضافي طاغ، ألا وهو الظروف الاقتصادية بالغة الصعوبة التي يمر بها الجميع في مصر.

الأوضاع الاقتصادية الصعبة وهبوط الجنيه المدوي وغلاء الأسعار الفاحش وقلق المصريين العارم جميعها لم تنل من قدرة الملايين الموسمية على الانخراط في سجال "هل تهنئة المسيحي بالعيد حلال؟" و"هل شجرة الكريسماس حرام؟"، وهو ما اعتبره بعضهم دليلاً قاطعاً بأن المصريين بخير وأن الإنهاك الاقتصادي لم يؤثر سلباً في إدمان السجال وهوس التحريم.

المزيد من تحقيقات ومطولات