ثمة أمر غريب في السياسة ببريطانيا. قبل استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي عام 2016، وقد اشتهر باسم "بريكست"، لم يكن أي من الأحزاب الممثلة في مجلس العموم البريطاني يدعو إلى ذلك الخروج، فيما كانت غالبية من الشعب البريطاني ترغب في تحقيقه.
بعدما أصبحت بريطانيا خارج الاتحاد، لم يطرح أي من الأحزاب في البرلمان فكرة إعادة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، رغم أن غالبية البريطانيين ترغب في تحقيقه، بحسب ما أظهره استطلاع حديث للرأي. وإذ نجحت الغالبية الشعبية في تحقيق هدفها بالضد من الأحزاب السياسية عام 2016، بعد ثلاث سنوات ونصف السنة من مأزق برلماني في شأنه حال دون توليه حسم قرار الخروج، فهل علينا أن نقر بأن غالبية الشعب سينجحون في تحقيق ما يرغبون في تحقيقه بالضد من رفض الأحزاب هذه المرة؟
أنا لا أعتقد بأنه من المبكر البدء بطرح هذا التساؤل. ورغم أنه قد يبدو من المبكر جداً إعطاء إجابة أكيدة عنه، لكن بإمكاننا أن نلاحظ أي توجه سيكون متضمناً في أي إجابة عنه.
أستمر في تبني رأيي الذي لا يستسيغه كثيرون، القائل إن إجراء الاستفتاء حول عضوية المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي جاء كتصرف صائب وديمقراطي. وشكل جزءاً من وعد انتخابي حمله البرنامج الانتخابي لحزب المحافظين، وقد اشتهر باسم "مانيفستو المحافظين" Conservative manifesto، عام 2015.
وبعد ذلك التاريخ، نجح حزب المحافظين في كسب الانتخابات العامة آنذاك. وببساطة، لم يتخذ رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون قراراً غير مسؤول لم يكن هدفه سوى إدارة العلاقات الداخلية في حزب المحافظين، بل جاءت اضطرابات حزب المحافظين نتيجة ضغوط ديمقراطية من خارج البرلمان، وقد ظهرت على شكل تهديد وجودي لحزب المحافظين من قبل "حزب استقلال المملكة المتحدة"، اختصاراً "يوكيب" Ukip.
يمكننا أن نجادل بأنه ربما كان حرياً برئيس الحكومة كاميرون أن يستجيب لتلك الضغوط بشكل مختلف، ولربما توجب عليه حينها ألا يطلق وعده بإجراء الاستفتاء في النصف الأول من عمر البرلمان في 2015، إضافة إلى تقييد شرعية الاستفتاء بضرورة حصول قرار الخروج على نسبة 60 في المئة وأكثر من التأييد الشعبي كي تعتبر نتائجه فاعلة، أو أن يضع شرطاً بأن نتائج الاستفتاء لن تكون مقبولة إذا لم تصوت لمصلحته كل المكونات الأربعة للمملكة المتحدة [أي اسكتلندا وويلز وإيرلندا الشمالية وإنجلترا]، أو أن يذهب إلى إجراء استفتاءين، واحد يتعلق بمبدأ الخروج، والثاني يتعلق بمضمون اتفاق الخروج بعد التفاوض عليه. في المقابل، كان من شأن فرض أي من هذه الشروط أن يترجم كمحاولة من كاميرون لتحدي الضغوط الداعية إلى منح الناس فرصة الإدلاء بآرائهم، ما كان ليؤدي إلى زيادة تلك الضغوط.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
برأيي، إن فاجعة "بريكست" حدثت في فترة ما بعد عملية التصويت. فمع الأخذ في الاعتبار الهامش الضئيل الذي أيد خيار الخروج، كان من المحق والديمقراطي أيضاً أن تجري عملية الخروج بشكل مخفف إلى درجة كبيرة. وفي غياب تكليف واضح في شأن عملية الخروج [أي مع عدم حصول المؤيدين للخروج على غالبية واسعة]، كان يجب أن يكون هدف التفاوض إرساء علاقة جديدة مع الاتحاد الأوروبي تفيد بأن بريطانيا ستكون خارج الكيان الأوروبي لكنها ستبقى قريبة جداً منه.
وبصورة أكثر تحديداً، لقد توجب ألا نبقى جزءاً من الهيكلية السياسية للاتحاد الأوروبي، وأن نرفض مبدأ حرية التنقل بين أبناء دول الاتحاد، لأنهما النقطتان الرئيستان اللتان اعترض عليهما الناس في شأن عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. بالتالي، فلو استمر رفضنا لأن نكون جزءاً من الدولة العظمى الأوروبية [بمعنى تلك التي يبدو الاتحاد الأوروبي كأنه يجسدها]، وكذلك الحال بالنسبة إلى حق بريطانيا في تقرير سياسات الهجرة الخاصة بها، لاغتبطت الغالبية العظمى من البريطانيين بأن يبقى اقتصادنا مندمجاً بقوة مع اقتصاد الاتحاد الأوروبي.
بالاسترجاع، كان لهذا الموقف أن يحظى بدعم محترم من قبل الاقتصاديين، في الأشهر التي تلت عملية الاستفتاء. لقد شارك بول تاكر الذي شغل حتى الأمس القريب منصب نائب حاكم مصرف إنجلترا، في كتابة دراسة عام 2016 يجادل فيها بأن السوق الأوروبية الموحدة كانت لتكون مجدية بشكل جيد، وتوفر عوائد كبيرة حتى من دون تطبيق مبدأ حرية التنقل للقوى العاملة في الاتحاد.
ثمة مفارقة مثيرة مفادها بأن رئيسة الحكومة السابقة تيريزا ماي سعت، تحديداً إلى التفاوض على ذلك الأمر، وكل ما كان عليها فعله هو أن تتظاهر، إرضاء لأعضاء حزب المحافظين، بأن يبدو اتفاق "بريكست" بمثابة خروج قاس أكثر مما هو عليه في الواقع. ولقد نجحت تيريزا ماي في ضمان حصول بريطانيا على صفقة رائعة، وأنا حتى اليوم ما زلت لا أصدق أن الاتحاد الأوروبي قد وافق عليها آنذاك. ومن خلال تلك الصفقة، كان يمكن لبريطانيا أن تبقي على الامتيازات كافة التي توفرها العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي، من غير أن تكون دولة عضواً فيه، ومن دون أن توافق لندن على العمل بمبدأ حرية التنقل للأفراد بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي.
استكمالاً، إن عضوية بريطانيا "الموقتة" في الاتحاد الجمركي الأوروبي كانت لتعني أن السلع البريطانية سيكون عليها أن تتوافق مع المعايير التي يفرضها الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي تسهر على تنفيذه "محكمة العدل الأوروبية". وكذلك فمن شأن العضوية الموقتة أن تعني أيضاً ألا تكون لدينا سياسات تجارية مستقلة عن الاتحاد الأوروبي، لكن السؤال هو كم من الناس كانوا يطالبون بتحقيق ذلك، في كل الأحوال؟
استطراداً، لقد كان حرياً بحزب العمال البريطاني المعارض أن يصوت لمصلحة الاتفاق الذي كانت تيريزا ماي قد ضمنته. وكذلك كان ذلك ليحقق الخروج المخفف من الاتحاد الأوروبي، لكن ربما من شأن ذلك أيضاً أن يدمر تماماً حزب المحافظين البريطاني. وكانت ماي لتتحول إلى رامسي ماكدونالد حزب المحافظين في زمانها لأنها كانت لتقود حكومة ائتلافية تتلقى الدعم فيها من أصوات حزب العمال. [حصل ذلك مع رامسي ماكدونالد في عشرينيات القرن الـ20]. لا أعتقد بأنها امتلكت الشجاعة لفعل ذلك. وتكمن العقدة في ذلك بأن [زعيم حزب العمال آنذاك] جيريمي كوربين كان رأس المعارضة في الوقت الخاطئ. في المقابل، كان ممتعاً لو جرت تلك المحاولة. وبالطبع أيضا، كان لذلك أن يؤدي إلى فوضى برلمانية عارمة. ولكن، إذا قيّمنا ما نتج من ذلك الوضع، فقد كان لتحقيق ذلك الأمر أن يصب في المصلحة الوطنية بشكل أفضل. وكذلك كنا لنحيا من دون وصول بوريس جونسون إلى سدة رئاسة الوزراء.
لكن كان ذلك بمثابة، "ماذا لو"، في قضية مر عليها الزمن. السؤال حالياً يتمحور حول ما سيجري لعلاقات بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي في المرحلة المقبلة. في الشهر المقبل، سيكون قد مر عامان منذ خروج المملكة المتحدة من سوق الاتحاد الأوروبي الموحدة في نهاية المرحلة الانتقالية [المحددة لتنفيذ "بريكست"]. لبعض الوقت، أخفت جائحة كورونا التبعات المباشرة لـ"بريكست"، لكن حالياً يبدو الضرر الذي لحق ببريطانيا من جرائها واضحاً.
لقد طرأ أيضاً تغيير على مواقف الرأي العام. ثمة 60 في المئة من البريطانيين يقولون حاضراً إن قرار "بريكست" خطأ، فيما يراه صواباً حوالى 40 في المئة، إذا استثنينا نسبة من يقولون إنهم "لا يعرفون". إن نسبة من يعتقدون بأنه علينا "إعادة الانضمام" إلى الاتحاد الأوروبي، ليست مرتفعة كثيراً، بل تقف عند مستوى 56 في المئة، لكنها مرتفعة وثابتة إلى درجة تجعل من غياب القادة السياسيين المستعدين لتبني قضية هؤلاء [الذين تضمهم نسبة الـ56 في المئة] أمراً مستغرباً.
حتى الآن، إن أبرز المدافعين عن فكرة إعادة التفاوض حول علاقة المملكة المتحدة مع الاتحاد الأوروبي يتمثل في المصدر المجهول المقرب من وزير المالية جيريمي هانت، إذ أدلى بحديث إلى صحيفة "صنداي تايمز" عن مسألة التفاوض لتطبيق صفقة مع أوروبا تشبه علاقة سويسرا بأوروبا. يبدو ذلك المصدر كأنه مقرب للغاية من وزير الخزانة، حتى إنه بدا كأن لديه نفس مواقف هانت الذي ذكر بشكل علني أنه "واثق" من أن "الغالبية العظمى من الحواجز التجارية" بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، سوف تزال.
لقد أجبر رئيس الوزراء (ريشي سوناك) على التبرؤ من الكلام المتراخي في شأن إعادة التفاوض لتحقيق عملية "بريكست" مخففة. لا بد من الإشارة إلى أن سويسرا توافق على مبدأ حرية انتقال الأشخاص بينها وبين الاتحاد الأوروبي، على رغم إجرائها في مرحلة سابقة استفتاء على رفض تلك المسألة.
في هذه الأثناء، يواصل زعيم حزب العمال المعارض السير كير ستارمر تخييب آمال كثيرين داخل حزبه ممن يناصرون وجود علاقة أقرب مع أوروبا، من خلال رفضه حتى تخيل أي شيء خارج شعاره "علينا أن نجعل بريكست ينجح". زعيم حزب العمال كان شديد الوضوح في مقابلة أجريت معه أخيراً رد فيها على سؤال عن مدى الدعم الذي تقدمه عملية إعادة انضمام بريطانيا إلى السوق الأوروبية الموحدة، إذ أجاب ستارمر بـ"كلا".
يكرر ستارمر باستمرار أن ليس هناك "من مبرر" للانضمام مجدداً إلى السوق الأوروبية الموحدة أو الوحدة الجمركية [مع أوروبا]، وهو أمر غير صحيح ببساطة. وما يقصده ستارمر من كلامه هذا، أن ليس من الحكمة السياسية أن يناقش هذا الموضوع، لأن الناخبين البريطانيين المؤيدين للاتحاد الأوروبي المهتمين بهذه القضية، سيصوتون لمصلحة حزب العمال (أو ضد حزب المحافظين) بغض النظر عن كل شيء. في المقابل، ثمة شريحة من الناخبين قد تعود إلى أحضان حزب المحافظين إذا اعتقدت بأن حزب العمال يسعى إلى "عكس مسار عملية بريكست".
واتصالاً بذلك، يعتقد النائب العمالي السابق توم هاريس، زعيم حملة الخروج من أوروبا في اسكتلندا، بأنه يمكن للبريطانيين الوثوق برئيس حزب العمال ستارمر حينما يورد أن صفقة "بريكست" لا يمكن إعادة النظر بها في حال شكل حزب العمال الحكومة [المقبلة]. ويذكر هاريس أنه بغض النظر عن مواقف ستارمر الخاصة، فإن المنطق الانتخابي يحتم عليه الثبات على موقفه هذا.
وبصورة تقريبية، يقف رأيي في هذه القضية على النقيض من موقف هاريس. فبغض النظر عن مستوى الثبات الذي ينوي ستارمر ممارسته بغية حماية هذا الموقف [إذا شكل حكومة برئاسته]، فإن المسار الطبيعي الذي تسلكه التطورات الحكومية سيؤدي إلى علاقة أقرب مع الاتحاد الأوروبي، إذ سيتخذ الوزراء في حزب العمال القرارات خطوة بخطوة، ويعملون على إعادة تموضع المملكة المتحدة كي تدور في فلك الاتحاد الأوروبي اقتصادياً.
حتى إن رئيس الوزراء الحالي ريشي سوناك ووزير ماليته هانت في الغالب قد يخضعان قليلاً لعوامل الجذب نحو الاتحاد الأوروبي. لعله توجد بعض المبالغة في الحديث عن علاقة بأوروبا مماثلة للعلاقة التي تقيمها سويسرا مع بروكسل، لكن هانت يؤيد بوضوح أن تكون المملكة المتحدة على علاقة منتظمة أو متوافقة مع أوروبا بدلاً من الاختلاف عنها. وكذلك فإن منطق سوناك البراغماتي في سبل حل قضية بروتوكول إيرلندا الشمالية، يبرز ميله إلى إيجاد التسويات بدلاً من الاختلافات في ذلك الملف.
وفيما ستجد أي حكومة لحزب العمال نفسها مدفوعة، ليس بسبب الخيارات الاقتصادية وحدها، لكن أيضاً بسبب الميل الذي تسانده القناعات الشخصية لدى معظم الوزراء فيها ونواب الحزب كافة الذين يؤيدون تلك الحكومة، نحو شيء يشبه الصفقة التي تفاوضت حولها تيريزا ماي، خصوصاً إذا واصل الرأي العام البريطاني حركته في الاتجاه الحالي.
لكن، يبقى هناك عامل كبير ناقص في الجدل القائم حول الندم حيال "بريكست"، إذ تشبه النقاشات البريطانية حول الموضوع النكتة التي تتحدث عن وسيط الزواج النمسوي الذي يعمل على تأمين موافقة أهل العريس النجار أن زواج نجلهم من ابنة الثري الكبير البارون روتشيلد، فيهنئ نفسه، "عظيم، إن نصف المهمة قد تم إنجازها".
في مسار مواز، إذا شكل حزب العمال حكومة فوجدت نفسها راغبة في إقامة علاقة أقرب مع السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي، ماذا سيكون الموقف الأوروبي من ذلك؟ أنا لا يمكنني الاعتقاد بأن تلك الشروط التي تصب في مصلحة المملكة المتحدة ستكون متاحة، مع بقائها خارج الاتحاد الاوروبي (وفق شروط الاتفاق الذي حصلت عليه رئيسة الوزراء ماي)، أو وفق شروط العضوية السابقة (حينما تمتعت بعضوية كاملة قبل "بريكست"). كذلك قد يجد رؤساء الوزراء البريطانيون المقبلون أن الزعامة الأوروبية مترددة حيال الدخول في مثل تلك التجربة مرة جديدة.
© The Independent