Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أشجار وانغ كيبينغ أجساد بشرية بصلابتها وطراوتها

معرضه الباريسي الحالي فرصة لاكتشاف مسيرته الفنية الطويلة وآخر ثمارها

النحات الصيني وانغ كييبيغ في محترفه (خدمة المعرض)

نعرف وانغ كيبينغ أحد مؤسّسي الفن الصيني المعاصر، نظراً إلى الدور الرئيس الذي لعبه داخل الطلائع الفنية الصينية خلال سبعينيات القرن الماضي، وتحديداً داخل حركة "النجوم" المجيدة. لكن اختزال هذا النحات الرائع ومسيرته الفنية بالدور المذكور يتركنا خارج ما أنجزه مذّاك، وبات يحدّد قيمته وطبيعة عمله. إنجازات يمكننا اليوم رؤية ذروتها في المعرض الذي ينظّمه حالياً له "المتحف الوطني للفنون الآسيوية" في باريس.

لمن يجهل هذا الفنان، نشير إلى أنه ولد في بكين عام 1949، عشية إعلان "جمهورية الصين الشعبية"، وأعاقت الرقابة السياسية في صباه كل محاولاته الأدبية، مانعةً إياه من سد عطشه للتعبير كتابةً، الذي ورثه من ترعرعه داخل عائلة من المثقفين والكتّاب، وأجّجه في سن المراهقة القمع الذي عانى منه في معسكرات "إعادة التأهيل".

 

عصامي، مثل كل جيل "الثورة الثقافية" الذي ضحّى ماو تسي تونغ به، أحد قواد ثورة الطلاب، ممثِّل في مسرح الجيش، كاتب سيناريو لـ "التلفزيون المركزي"، اكتشف كيبينغ نفسه نحاتاً عن طريق الصدفة، في سنّ الثلاثين، حين أفرغ يوماً ما يعتمل داخله على قطعة خشب اقتلعها من كرسي. اكتشاف ستُشكّل كل منحوتة لاحقة لهذا الفنان تكراراً صامتاً ومبتهجاً له. "صمتٌ" هو تحديداً عنوان العمل الذي جلب له الشهرة عام 1979، حين أسّس مع حركة "النجوم" أول مجموعة طلائعية صينية، إلى جانب هوانغ روي وما ديشينغ، وذلك بعض سنوات قبل أن يتناول "شقيقه الصغير"، آي ويوي، من يده مشعل المعارضة.

"محاورة الخشب"

ويجب انتظار فرار كيبينغ إلى فرنسا عام 1984 كي تهدأ ثائرته. لكن على الرغم من تخلّصه أخيراً من سطوة الرقابة، في بلده المضيف، يحول جهله للغة الفرنسية دون تمكّنه من التعبير عن نفسه بواسطة الكلمات، فيختار "محاورة الخشب" داخل محترفه الذي كان يمضي معظم وقته فيه. هكذا، يفرض فن النحت نفسه عليه كفضاء لغةٍ شاملة يتوجّب ابتكارها.

ولوصف رحلة كيبينغ الفريدة لبلورة هذه اللغة، تجدر أولاً الإشارة إلى الجهد الذي بذله لتجاوز مغامرة "النجوم" المؤسِّسة، وإلى سعيه بموازاة ذلك إلى تحويل إرثه الصيني عبر استيعابه وهضمه بطريقة لا تعود تتجلى فيها آثاره داخل عمله. وفعلاً، بابتعاده عن أي حنين إلى مآثر الماضي، وبتحرره من المطالب السياسية التي طبعت بداياته، وبعدم رضوخه لإغراء استثمار الجانب الإكسوتيكي لأصوله الصينية، تمكّن هذا الفنان من بلوغ جوهر فنّ نحتي شخصي يتمتع، بفضل طبيعته ومادته الثابتة ــ الخشب ــ بقدرة نادرة على مسّ ومحاورة أكبر عدد من الناس.

ميزة عمل كيبينغ الأولى التي تتراءى فوراً في أعماله هي التصفية (épuration). وفي ذلك، اعتمد منذ البداية على الطبيعة كمرشد له: "الأشجار مثل أجساد بشرية، بأجزاء صلبة مثل العظام، وأجزاء طريّة مثل اللحم. وسواء كانت متينة ومقاوِمة أو هشّة، يتوجّب احترام مميزاتها وعدم معاكستها". ومن تلاحمه على هذا النحو مع الخشب، استخلص تلك الأشكال المصفّاة والجوهرية التي تؤسِّس لريبرتوار من العلامات التي توحي تارةً بالأنوثة وطوراً بحضور حيواني شهواني، وتخلِّف في المتأمّل فيها مشاعر مختلفة تتراوح بين رغبة وألم، خلود وتناهي.

 

أما كيف يبلغ كيبينغ ذلك الجانب الحسّي والدقيق للغاية في منحوتاته، فعن طريق عدة مراحل من العمل على سطوحها، أبرزها مرحلة الصقل الذي يمحو أي أثر للأدوات المستخدمة في فعل النحت، ويبرّز عروق الخشب وشقوقه وعُقَده، ومرحلة الحرق الماهر لهذه الأعمال بغية الحصول على لون فريد لها. وفي هذا السياق، يستخدِم الفنان موقد اللحام (chalumeau) "بلمسات صغيرة، كما لو أنه ريشة رسم". من هنا تلك الرغبة المستشعَرة أمامها في ملامسة حوافِها التي باتت ملساء وناعمة مثل بشرة.

رحلة طويلة

لكن ماذا عن المنحوتات الـ 21 التي تتوزع حالياً داخل صالات "المتحف الوطني للفنون الآسيوية" في باريس؟ لإنجازها، تطلّب الأمر من كيبينغ ثلاث سنوات من العمل الدؤوب داخل محترفه الفسيح الذي يقع في حوض سابق لبناء السفن في مقاطعة فانديه، ويوفّر له إمكانية إنجاز أعمالٍ ضخمة. ومع أنه اختار، منذ استقراره في فرنسا، العمل على خشب محلي فقط، إلا أن تلقّيه خلال فترة الاحتباس عرضاً مغرياً وغير متوقع لشراء كمية من خشب الماهوغني (acajou) النادر والثمين، جعله ينتهز هذه الفرصة للعمل على مادة لا يعرفها إلا من خلال سمعتها: "هذا الخشب الثمين القادم من عالمٍ آخر قام برحلة طويلة ومحفوفة بالمخاطر، وبعد أن تاه عدة مرات، كما لو أنه كان يعلم أنه مُنتظَر، انتهى به المطاف في محترفي، مثل هدية من السماء".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وللمرة الأولى، وصلت قطع الخشب إلى محترف الفنان جافة ومقطّعة ومقشَّرة، بأشكال مسطّحة وشبه منحرفة، مثل صفحة بيضاء، بينما اعتاد كيبينغ نحت الخشب انطلاقاً من أشكاله الطبيعية. وسواء بكثافتها أو بحجمها، أجبرته هذه القطع على ابتكار إصغاء جديد وحركات جديدة: "كنت تالهاً، مثل نجّار في مواجهة كومة من الحجارة الكبيرة. كان عليّ أن أبذل قوة كبيرة، لكن ما لبث هذا الجهد أن أثمر حالة إثارة شديدة".

أجبرته قسوة هذا الخشب أيضاً على العمل بصبر كبير لتحرير الأشكال المنشودة والارتقاء بها. وفي تصارعه اليومي مع هذه المادة الجديدة عليه، اضطر إلى أن يكون أكثر بساطة وجوهرية. هكذا تمكّن من الإيحاء بثدي، بعنقِ امرأة رقيق، أو بطائر على وشك الهبوط أو التحليق، وفقاً لمنحنيات منحوتاته. فعلى غرار الخطّاط الذي كان، أسّس لحوارٍ حاذق بين الحجم والخط، وبين الفارغ والممتلئ، وأجرى أيضاً تعديلاً على عمله التظليلي بتقنية الحرق، جعل المادة الخام الوردية الباهتة تكشف عن احمرار داكن وتسمو بعروق الخشب. أما جهد الصقل النهائي فيفسّر قدرة هذه المنحوتات على التقاط الضوء، "كما لو أن خشبها صار من اليشم أو البرونز".

والنتيجة؟ أعمال باهرة تعكس رؤية سامية لانسجامٍ مع الطبيعة، ضمن احترام الفلسفة الطاوية. رؤية تعبّر النساء والطيور فيها بالتناوب عن الحسية والخصوبة، ويحضر كلّ من المؤنث والمذكّر على حدة أو في التحام كامل بالآخر.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة