Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حلم أميركا بنشر الديمقراطية يصطدم بـ"التشويه الداخلي"

يقول توماس فريدمان إن تركيزه منصب على كيفية الحفاظ على الديمقراطية الأميركية نفسها قبل التفكير بالصراعات الدولية

أفرز اقتحام الكونغرس عام 2021 استقطاباً سياسياً حاداً وتساؤلات حول قوة الديمقراطية الأميركية (أ.ف.ب)

من صراعات أفغانستان المتشابكة إلى العراق المنقسم، صدرت أميركا نفسها كقوة عظمى لا تعين حلفاءها على النصر فحسب، بل تتبنى نشر الديمقراطية وتعتبرها أولوية نضال مسلح كلفها مليارات الدولارات، والآلاف من الجنود القتلى، وكان سمة بارزة في حقبة ما بعد الحرب الباردة، التي كانت الولايات المتحدة القوة المهيمنة فيها، بفضل اقتصادها المتين وقوتها العسكرية المتنامية، إضافة إلى انكفاء موسكو كقوة متحدية للنظام العالمي الذي أرسته واشنطن.

وما إن تولى جورج دبليو بوش الرئاسة عام 2001 حتى انتعشت الشعارات الداعية إلى ديمقراطية عابرة للقارات، تنطلق من مقاطعة كولومبيا حيث تستقر مطابخ القرار الأميركي ولا تتوقف عند أصغر بلدة أفغانية، إلا أن تلك الشعارات اليوم لا يبدو أنها تلقى صدى في الأوساط الأميركية، فعلى رغم أن العالم كله يتابع كل كبيرة وصغيرة في السياسة والاقتصاد في الداخل الأميركي، وعلى رغم أن الولايات المتحدة تتدخل بطرق مباشرة وغير مباشرة في أدق تفاصيل غالب دول العالم، فإن اهتمام الأميركيين يبدو منصباً ومنكباً على الداخل وأبعد ما يكون عن السياسة الخارجية.

إقبال الشارع الأميركي على سياسة الانكفاء والتركيز على هموم الداخل تجلى أخيراً في أهم القضايا التي شغلت الناخبين في الانتخابات النصفية التي تمثلت في الاقتصاد والتضخم والإجهاض، إلا أنه ليس وليد اللحظة، إذ يرى مراقبون أن فوز دونالد ترمب بالرهان الرئاسي عام 2016 وهو القادم من خارج الأسوار التقليدية للديمقراطية الأميركية يعبر عن رغبة الأميركيين في التركيز على الداخل، ويشير إلى أنهم وجدوا في نجم تلفزيون الواقع الذي رفع شعار "أميركا أولاً" أساساً لسياسته الخارجية، وفتح النار على أسلافه الذين أقحموا الولايات المتحدة في حروب لا طائل منها، منقذاً لبلادهم.

ولكن وبعد أربع سنوات مثيرة قضاها الرئيس الجمهوري في المكتب البيضاوي، جاء خصمه الرئيس جو بايدن ليحيي شعار إنقاذ الديمقراطية من الأعداء، ويدعو بعد أشهر قليلة من تنصيبه قادة أكثر من 100 دولة إلى قمة "من أجل الديمقراطية"، إلا أن أجندة الاجتماع لم تسلم من الانتقاد، فمجلة "فورين بوليسي" شككت في جدوى هذه القمة التي لم يكن هدفها واضحاً، وتساءلت "هل من المفترض أن تسفر القمة عن نتائج ملموسة والتزامات جديدة أم إنها مجرد حلقة نقاش يصدر عنها تصريحات براقة؟".

إلا أن اللافت في حملة بايدن لحماية القيم الديمقراطية أمران، الأول أن إدارته لم تتوان عن الانكفاء من مناطق نفوذ تقليدية لطالما سعت أميركا لنشر الديمقراطية فيها، وذلك تجسد جلياً في تصديق إدارته على الانسحاب من أفغانستان الذي ترك البلاد لقمة سائغة لمقاتلي "طالبان"، وأحرج واشنطن في إهدارها عشرين عاماً في صرف الموارد والتضحية بالأرواح من دون تحقيق هدفها في إرساء حكم ديمقراطي. أما الثاني فهو تشديد الرئيس الأميركي على أن أعداء دعوته لحماية الديمقراطية ليسوا فقط بناة سور الصين العظيم، ولا الجالسين وراء مكاتب الكرملين، بل أميركيون لا يسأمون من التشكيك في نزاهة نظامهم الانتخابي، ووصل بهم السخط في الـ6 من يناير (كانون الثاني) 2021، إلى اقتحام مبنى الكونغرس، بينما تصادق القلعة العتيقة على رئيس جديد للبلاد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هاجس الديمقراطية المشوهة

وبعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وسحب القوات القتالية من العراق، كان واضحاً أن إدارة بايدن ليست منجذبة للنضال العملي من أجل الديمقراطية في الشرق الأوسط، وفيما عدا قمة الديمقراطيات العام الماضي، لم تتخذ واشنطن خطوات تدل على أن تصدير الديمقراطية أولوية لها، بل تحولت البوصلة ما بعد مشهد الـ6 من يناير إلى الداخل لمناقشة هموم الديمقراطية الأميركية نفسها، بعد تزايد استخدام مصطلح الديمقراطية المعيبة أو المشوهة، وتبنى الديمقراطيون بكثافة شعار إما الديمقراطية التي نحن وحدنا قادرون على حمايتها وإما الاستسلام لنموذج حكم جديد يبشر به أنصار "اجعلوا أميركا عظيمة من جديد" أو"MAGA"  الذين يقودهم دونالد ترمب.

وفي ضوء هذا الانقسام، اعتبرت "فورين بوليسي" أن الولايات المتحدة ليست أفضل مكان لاحتضان قمة للدفاع عن الديمقراطية، فأميركا وفق تقرير صادر عن "فريدوم هاوس" (منظمة بحثية غير ربحية تمولها الحكومة الأميركية) هبطت إلى مستوى الديمقراطيات المعيبة إلى جانب بنما ورومانيا وكوريا الجنوبية، ولم تفعل شيئاً لتصويب ذلك الوضع، فأحد الحزبين الرئيسين في البلاد ما زال يرفض القبول بنتائج انتخابات الرئاسة 2020.

 ويتفق مع توصيف التقرير للديمقراطية الأميركية الأستاذان في جامعة هارفرد أليكس كيسار وأركون فانغ، اللذان يحذران من أن الديمقراطية الأميركية في مأزق لم تشهده منذ الحرب الأهلية. ويشير الباحثان إلى أن الخطر ليس كامناً في طبيعة النظام السياسي نفسه، قائلين، "إذا كنت تؤمن بالديمقراطية كنظام يكون فيه لكل ناخب صوت في الطريقة التي تحكم بها البلاد، فلن تصمم نظام انتخابات وحوكمة مثل ذلك الموجود في الولايات المتحدة"، لكن السبب على حد رأيهما في كون الديمقراطية الأميركية في منزلق خطر قد يؤدي إلى اضطرابات سياسية واجتماعية وحكم الأقلية، هو تلاشي إيمان كل الأطراف السياسية بالقيم الديمقراطية.

ويعتبر كيسار وفانغ إجماع اللاعبين السياسيين على أهمية القيم الديمقراطية ضرورياً للنظام السياسي الأميركي، لكونه بني على التسويات بين المختلفين لاستيعاب كل وجهات النظر حول شكل الدولة، ومن يملك السلطة داخل نظام واحد يتعايش في الأقل معه الجميع، لكن الباحثين يحذران من أن انهيار هذا القبول للمبادئ الديمقراطية بسبب "الحزب الجمهوري الساعي إلى السلطة بأي ثمن" يمكن أن يؤدي بالحلول الوسط نفسها التي صممت لحماية صوت الأقليات لتصبح معيبة، مؤدية إلى تفرد فئة واحدة بالسلطة.

الديمقراطية في سياق عالمي

 لكن وعلى رغم الإحساس المتزايد في واشنطن من عدم جدوى أي مساع لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط، فإن الإدارة الأميركية لم تتخل تماماً عن توظيف خطاب الديمقراطية في المسرح الدولي، فمنذ اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية، حاول الرئيس بايدن تصويرها على أنها معركة عالمية بين الديمقراطية والأوتوقراطية. وقال خلال زيارته بولندا في مارس (آذار) الماضي إن أوكرانيا تقف على "الخطوط الأمامية" في "النضال الدائم من أجل الديمقراطية والحرية".

وقال مايكل هيرش الكاتب في مجلة "فورين بوليسي" في معرض انتقاده استراتيجية واشنطن، إن "غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأوكرانيا بدا مبرراً مثالياً" لحملة الرئيس بايدن ضد موسكو باسم حماية الديمقراطية العالمية، إلا أنه وعلى رغم نجاح أوكرانيا على الأرض ضد الجيش الروسي، فإن جهود البيت الأبيض في الأشهر التي تلت لتصوير الصراع على أنه معركة بين الديمقراطية والأوتوقراطية لم تكن مجدية، بحسب هيرش، لأنه ما عدا شركاء واشنطن الغربيين وحلفائها التقليديين كاليابان فإن باقي دول العالم ليست على وفاق تام مع تصوير الصراع بهذه الطريقة.

وشخص هيرش مشكلتين لفشل الجهود الأميركية في حشد العالم ضد روسيا من بوابة الدفاع عن الديمقراطية، الأولى أن معظم البلدان التي تخاطبها واشنطن ليست ديمقراطية أو أن نظامها الديمقراطي معيب لدرجة أنها لم تتأثر بالخطاب الأميركي. أما الثانية فهي أن كثيراً من دول العالم تعتقد أن الولايات المتحدة تحاضر حول الديمقراطية على رغم أنها بحاجة أولاً إلى أن تعالج وضع نظامها السياسي المحطم.

وتجلت المتاعب الأميركية في محاولة إدارة بايدن ضم رابطة دول جنوب شرقي آسيا "آسيان" إلى صفها ضد روسيا، إذ أقر كورت كامبل، كبير مستشاري بايدن في البيت الأبيض في شؤون شرق آسيا، بوجود اختلاف في وجهات النظر، من دون أن يتطرق مباشرة إلى قضية ضعف الديمقراطية في المنطقة. وأكدت معظم دول "آسيان" عدم انحيازها في الصراع بين روسيا والغرب، ومنها إندونيسيا، العضو البارز في الرابطة التي لم تذعن للضغوط الغربية ودعت بوتين إلى قمة مجموعة العشرين في نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي. وتنضم إلى دول "آسيان" دول أخرى في الشرق الأوسط وجنوب آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا، غير مقتنعة بعزل روسيا التي تعتبر مصدراً رئيساً لإمدادات النفط والغاز عن النظام العالمي.

ومن هذا المنطلق، يدعو مراقبون الرئيس الأميركي إلى إعادة التفكير في مقاربته إذا كان يريد حشد مزيد من الحلفاء في جهوده لعزل روسيا، مشيرين إلى أن القضية الحقيقية التي يتم اختبارها ليست الديمقراطية في حد ذاتها، بل هي قضية يمكن لمعظم البلدان أن تتفهمها وهي سيادة الحدود بموجب قواعد ما بعد الحرب العالمية الثانية التي يدعمها القانون الدولي الذي أقرته الأمم المتحدة.

ويرى بروس جينتلسون، مستشار السياسة الخارجية السابق لنائب الرئيس السابق آل غور، الصراع الأوكراني بأنه أشبه بحرب الخليج 1990، فهو متمحور حول سيادة الحدود وعدم استخدام القوة لتغييرها، وهي المبادئ التي حظي على أساسها الرئيس بوش الأب بإجماع دولي واسع ضد صدام حسين. وقال جينتلسون إنه يكن احتراماً كبيراً للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على قيادته الحربية، إلا أن أوكرانيا نفسها معروفة منذ فترة طويلة بأنها "ديمقراطية مشكوك فيها، وواحدة من أكثر دول العالم فساداً".

توماس فريدمان وما بعد الثنائية

الحديث عن استبدال ثنائية الديمقراطية مقابل الأوتوقراطية بدا متجلياً في لقاء أخير للكاتب توماس فريدمان المقرب من دوائر صنع القرار في واشنطن، الذي قال إن قراءة طبيعة القيادة الأميركية في المستقبل يجب أن تبدأ من فهم هشاشة العالم، وسرعة انتقال الفوضى من بلد إلى آخر، سواء أكان بفعل فيروس في ووهان أو فيروس مالي في مكان آخر على حد وصفه.

وشدد فريدمان في لقاء نظمته مؤسسة كارنيغي للسلام العالمي على أن القوة الأميركية أصبحت أكثر أهمية من أي وقت مضى للدفاع عن القيم الليبرالية الأساسية التي ولدت من رحم الحرب العالمية الثانية، مشيراً إلى أنه وحتى وإن كانت أميركا لا تنفذ مهمتها دائماً بحكمة وكفاءة، إلا أن أكبر مشكلة في العالم ليست القوة الأميركية المفرطة، بل على العكس تماماً، قد يكون انكفاء هذه القوة هو المشكلة الكبرى.

لكن فريدمان رفض تأطير الحرب الروسية - الأوكرانية كصراع بين الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية، موضحاً بأن تركيزه الحالي منصب على وضع الديمقراطية الأميركية نفسها، وكيفية الحفاظ عليها. أضاف "يصعب عليَّ التفكير في نوع هذا الصراع العالمي ولدينا هذا الصراع الداخلي في بلادنا". وقال الكاتب الأميركي إنه يميل إلى التفكير في ثنائية الاستقرار مقابل انعدامه أكثر من مقاربة الديمقراطية مقابل الأوتوقراطية، بسبب التحول الذي شهده العالم في أوائل القرن الحادي والعشرين المتمثل في انحسار رغبة القوى العظمى لمساعدة الدول الصغيرة في تنميتها أو إدارة شؤونها.

 واسترسل الكاتب في "نيويورك تايمز" في شرح فكرته قائلاً "بنهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 كانت أول 50 عاماً بعد الحرب وقتاً رائعاً للبلدان الصغيرة الضعيفة"، لوجود قوتين عظميين تتنافسان على كسب صوت هذه الدول عبر المساعدات الخارجية، مستشهداً بسوريا "التي خسرت ثلاث حروب مع إسرائيل، وتمكنت من بناء جيشها مجاناً ثلاث مرات"، على حد تعبيره.

لكن ومع تنامي خطر التغير المناخي، وزيادة عدد السكان، وانضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية، يقول فريدمان لم تعد القوى العظمى راغبة في إنفاق أموالها لدعم البلدان الضعيفة، لأن ما ستحصل عليه في نهاية المطاف هو فاتورة نفقات كما حدث لأميركا في أفغانستان، مشيراً إلى أن هذا التحول في تفكير القوى العظمى أقلق الدول الضعيفة، ولوحظ تأثيره في دول بالقرب من أميركا مثل غواتيمالا وهندوراس والسلفادور، وعلى دول أخرى في الشرق الأوسط وأفريقيا، التي دفعت المعاناة شعوبها إلى الهجرة إلى الولايات المتحدة وأوروبا، وفي أسوأ الأحوال، تعاني بعض دولها التفكك.

ويستذكر فريدمان زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للبنان بعد انفجار مرفأ بيروت في عام 2020 بوصفها لحظة مفصلية لفهم هذا التحول، عندما استقبل ماكرون بعريضة موقعة من نحو 50 ألف شخص يطلبون منه إعادة الانتداب الفرنسي. وقال الكاتب الأميركي "لم يشهد العالم موقفاً من قبل تكون فيه القوى العظمى غير مستعدة للتدخل وإنقاذ الدول الضعيفة التي فشلت في الحكم الذاتي، الأمر الذي ينذر على حد رأيه بالصعوبة التي ستواجه أميركا في إدارة العالم في المستقبل". أضاف "ما تعلمناه من الربيع العربي هو أن عكس الأوتوقراطية لم يكن الديمقراطية، بل الفوضى، وإدارة هذه الفوضى يمكن أن تكون تحدياً حقيقياً".

المزيد من تحقيقات ومطولات