Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

باسم فرات الشاعر الرحالة يجوب العالم بكاميرا الكلمات

ديوانه الجديد"مرح في الأساطير" يسترجع أوهام الماضي على عتبة المنفى 

صورة طبيعية بكاميرا الشاعر باسم فرات (صفحة الشاعرعلى فيسبوك)

"مرح في الأساطير" (مركز ليفانت للدراسات الثقافية والنشر - الإسكندرية 2022)، هو الديوان الـ 10 للشاعر العراقي باسم فرات، وقد فاز عن مخطوطه بجائزة حلمي سالم في دورتها الثالثة. وباسم فرات إضافة إلى كونه شاعراً هو رحالة ومصور فوتوغرافي، إذ زار 39 بلداً وأصدر العديد من الكتب في "أدب الرحلة" ومنها "لؤلؤة واحدة وألف تل... رحلات بلاد أعالي النيل" و"مسافر مقيم... عامان في أعماق الأكوادور" و"الحلم البوليفاري... رحلة كولومبيا الكبرى".

ولقد ظل باسم فرات مسكوناً بحب السفر منذ شبابه الباكر حتى تمكن من تحقيق حلمه بهذا التطواف الواسع فى البلاد العربية والغربية وبلاد الشرق الأقصى، وانعكس كل ذلك على شعره عموماً منذ "مبكراً في صباح بعيد" و"أشهد الهديل" و "خريف المآذن "، وصولاً إلى "فأس تطعن الصباح"، وهذا ما نراه أيضاً في "مرح في الأساطير" من حيث اتساع بنية المكان الذي لا يقتصر على البعد الجغرافي بل يشمل العادات والأساطير ويحول ما هو جغرافي إلى دال سردي بحيث لا يغدو وصف المكان محايداً. ويتكرر دال "الأساطير" الذي ظهر في العنوان بشكل لافت داخل العديد من القصائد، ومنها قصيدة "شعوب تمرح في الأساطير" التي يقول فيها: "خلف محطة قطار / عثرت على وقت مهجور / كان يخبىء شعوباً تمرح في الأساطير / غمرتني طبولهم بالرقص / في ضرباتهم يتصارع الأسى وماض سحيق / وعلى وجوههم تطفو حكايات بحارة / وتاريخ تجهله الكتب".

أجواء أسطورية

تحيلنا دوال من قبيل الأساطير والطبول والرقص إلى الأجواء الأفريقية التي يصرح بها فى نهاية المقطع الثاني من القصيدة، وينبغي أن يلفتنا هذا الماضي السحيق الذي لايزال فاعلاً ومؤثراً في حياة الأفريقي على عكس ما يقوله التاريخ الرسمي كما يظهر فى السطر الأخير، ولا ينبغي أن نستوحي من ذلك انحياز الشاعر لسطوة الأسلاف وديمومة أساطيرهم ومعتقداتهم، ففي قصيدة "صباحات الكهوف" يتحدث عن قبائل التلال التي وقعت فريسة لأرواح الأسلاف مما جعل ممارسة السحر طقساً يومياً. "أحرق كاهن القرية خصلة من شعر ابنته / وتحت تمثال سلفه العظيم / أهرق من إصبعه دماً".

وفي المقابل يؤمن الشاعر بالإلهامات الشعرية وبأسلافه من سلالة الجن الذين كبلوا قلبه بالشعر وروحه بالسؤال، ولم يرث منهم إلا دموعهم بوصفها الأثر الوحيد الذي تبقى معه. وتنتقل هذه الأجواء القبائلية الأسطورية من قصيدة إلى أخرى فنراه في قصيدة "قرابين القبل" يتحدث عن نشأته في قبيلة برية. "هذه القبيلة التي تخرج عن بكرة أبيها لاصطياد الجمال/ ويملأون الضفاف موسيقى / ويحصدون أحلاماً تفضح الصمت".

غواية الرحيل

تمثل الرحلة ثيمة رئيسة في هذا الديوان، سواء كانت زمنية يعود فيها الشاعر إلى طفولته أو يستشرف فيها المستقبل، أو مكانية عبر البحار أو الانتقالات البرية، ففي قصيدة "الند" يعود إلى طفولته الباكرة التي فقد فيها والده حقيقة لا مجازاً حين يقول:  "في الثانية من عمري أصبحت رجلاً/ وقبل بلوغي الثالثة غزا الشيب أيامي / لم أستعد شيئاً من طفولتي حتى الخامسة عشرة / حينها كان شيب الأيام / يسخر من طفولة وافدة عرضاً".

نحن أمام طفولة هاربة أو أجهضت في مهدها بفقد الأب ثم الأم حتى غزا الشيب أيامه ساخراً من طفولته التي لاتأتي إلا عرضاً حين يتذكر أنه عمل "خبازاً"، ولم ير صباحاته إلا أمام التنانير، والشاعر وسط كل هذا حريص على تسجيل تواريخ أحداث حياته كما يبدو من عنوان قصيدة "العاشر من تموز 1969"، فعلى رغم أن تموز هو إله الخصب في الحضارة العراقية القديمة، فإن الأشجار في تموز 1969 لم نعد نسمع سوى بكائها كما اتشحت السماء بالدم والسواد، وذلك بعد أن صوب الجبناء رصاصاتهم نحو خاصرة الأب ثم نشروا موته في البحيرات العظمى.

وهكذا يظل هذا الماضي الأليم حاضراً وساحباً خياله إلى حاضر الشاعر الذي يقول فى موضع آخر بحس المتجول في أرجاء العالم، "خريطة العالم أمامي / وفي يدي حرائق لماض تتجول في مستقبلنا / هذا حاضري سأروضه وأغريه بالمن والسلوى". ومن المعروف أن المن والسلوى حلوى عراقية مشهورة. وهكذا يستحضر الشاعر خصوصية المكان من دون تخل عن رؤيته الذاتية المتفردة التي تظهر من قوله في قصيدة "نجاة"، "الخطوة المتفردة / سؤال ينجب عدداً لا يحصى من الأجوبة"، وهي الرؤية التي تجمع جزر العالم كلها في يده على النقيض من البحارة الذين يتمسكون بالصواري والبوصلة في محاولة للنجاة والاهتداء.

قصيدة المنفى

جرب كثير من الشعراء العراقيين المنفى الاضطراري حتى أصبحنا أمام ما يسمى بـ "قصيدة المنفى"، وهذا ما نجده عند باسم فرات الذي أصبح المنفى لصيقاً به حين يقول، "منفاي يصب كأساً متبوعة بكؤوس / حتى يفيض الكون بالخمرة والسؤال / منفاي لصيق بي حتى حين".

ولعل قصيدة "شتاء المنفى" تكون معبرة عن هذا الإحساس ببرودة المنفى في مقابل دفء المكان الأول كما في قوله، "هذا الشتاء يمر بطيئاً بنعاسه / جديداً على دليل الطيور إلى التويج مثلي / من زجاج نافذة محكمة الإغلاق / أهمس لعصافير تزيح البرد عن مناقيرها / وأنا أعبث بالبرد فى راحتي". ويصف الشاعر هذه المنافي بأنها "مدن الإعلانات الضوئية" التي تبدو بغداد، حيث الدفء والأهل، على النقيض منها، فحين تسأله زائرته عن بغداد يفتح قميصه لتندفع " كتب / وحمامات / وألف ليلة وثلاث ليال".

لكن لبغداد وجهاً آخر هو وجه الحروب الدائمة والطغاة الذين هرب الشعراء منهم واضطروا إلى الرحيل لتلك المنافي القاصية، لكنهم يظلون على حنينهم إليها، فحين يسير الشاعر مع رفيقين عراقيين فوق نهر النيل، كان يهدر في قلوبهم نهران آخران هما دجلة والفرات، وتشير أرواحهم إلى بغداد.

قصيدة القناع

شاعت قصيدة القناع فى ستينيات القرن الماضي شيوعاً كبيراً، ونراها هنا عند فرات في قصيدة "المتنبي" الذي يقول على لسانه، "أنا سيد اللغة / قصيدتي سيف بتار / وحصانى على ريح يستقر / مبتغاي مملكة / لا تاريخ بيني وبين الفشل / فلماذا يقود جيوشه ضدي؟" تتمثل القصيدة روح المتنبي واعتزازه بشعره مستوحية قوله "أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي / وأسمعت كلماتي من به صمم"، ولهذا فهو كما تصفه القصيدة "سيد اللغة" وقصيدته "سيف بتار"، كما نرى تناصاً بين قوله "على قلق كأن الريح تحتي"، وقول فرات "وحصاني على ريح يستقر". وفى السطرين الأخيرين تظهر المفارقة التي تتمثل في جيوش الفشل التي تهاجمه على رغم كل ما يتمتع به من قدرات، لكن الشاعر عموماً لا يستسلم للفشل ولا للحزن فيقول فرات:  "لا تفتح النافذة / كي لا يدخل الحزن / ويسرق صباح الخير من أفواهنا / دعه ينقر حتى يشيخ / حتى يتسربل بأرذل العمر / وإذا مات / فإكرام الميت دفنه".

 

ولا شك في أننا نلاحظ هذه المجازات القائمة على الاستعارة وتشخيص الحزن، وهي سمة بارزة فى الديوان على نحو ما نلاحظ فى هذا التتابع من تشخيص المعنويات والجمادات. "الصمت جدار يتمدد في أنفاسي / يتسابق اليأس والطمأنينة / لا جبال تسرق السهل الفسيح من النهر".

القصيدة السردية

كان من مكتسبات القصيدة الحديثة اعتمادها على ما يعرف بتداخل الأنواع الأدبية والفنية واستفادتها من تقنيات الرواية والمسرح والسينما، وقد اتضح هذا في بعض قصائد هذا الديوان إذ نجد ما يسمى بالقصيدة السردية في قصيدة "انتصار الطرائد" التي تحكي عن صيادين دخلوا إحدى الغابات لملء جرابهم بالطرائد، وبعد أن توغلوا فى الغابة ونأت خطواتهم: "كانت الطرائد كلها تقف عند البوابة الوحيدة / وقد أحكموا إغلاقها / وهم يهتفون: الآن، الآن فقط تبادلنا الأدوار".

ومن الوارد تماماً تفسير هذه القصيدة على أكثر من مستوى، إذ تمثل انتقام الضحايا من صائديهم أياً كانت طبيعة هؤلاء الضحايا وطبيعة الصائدين، كما يوظف الشاعر دلالات الوصف ليعبر عن مستويات أكثر عمقا، ففي قصيدة "عرق الفلاح" يصف الحقل الذي خلا من الفراشات والأنهار والغيوم، وفي النهاية يرى أن النبع الذي لا يجف هو النبع الذي ينضح من عرق الفلاح.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة