Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل تستطيع موسكو استعادة "روسيا الأميركية"؟

أصوات برلمانية تنادي باستعادة شبه جزيرة ألاسكا وواشنطن تطرح إعادة جزيرة "رانجل"

تعد ألاسكا أكبر ولاية في الولايات المتحدة الأميركية  (أ ف ب)

في توقيت شديد الحساسية عادت موسكو إلى إثارة قضية بيع الإمبراطورية الروسية شبه جزيرة ألاسكا إلى الولايات المتحدة، رداً على ما كتبه توماس دانس في صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية حول التبعية التاريخية لجزيرة فرانجل أو "رانجل" بحسب التسمية الغربية، للولايات المتحدة. جاء ذلك في توقيت لاحق لاحتدام الصراع بين روسيا وأوكرانيا أعقاب إعلان روسيا اعترافها بانفصال أربع من المناطق الأوكرانية السابقة، وانضمامها إلى روسيا في فبراير (شباط) وسبتمبر (أيلول) من العام الحالي، ولما أثارته النرويج من قلق الجانب الروسي حول ما وصفته موسكو بانتهاك أوسلو معاهدة باريس الموقعة بين البلدين عام 1920 حول ترسيم حدود المساحات البحرية والتعاون في بحر بارينتس، مما كان سبباً في توقف حركة شحن البضائع للمستوطنات الروسية في أرخبيل سفالبارد.

ولعل "إيقاظ الفتنة" وما واكبها من ارتباك في علاقات روسيا مع اثنتين من دول "الناتو" في مثل هذا التوقيت بالغ الحرج والحساسية، يمكن أن يعكس طابع "العمد" من جانب قوى بعينها داخلية وخارجية، بكل ما يستهدفه من احتمالات فتح جبهة إعلامية مضادة، لما سبق ورصدته مصادر غربية حول توجهات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في إطار ما وصفه عميد الدبلوماسية الأميركية الأسبق هنري كيسنجر بـ"الإيمان الصوفي لبوتين بالتاريخ". وكان الرئيس بوتين كشف في الذكرى 350 لميلاد بطرس الأعظم مؤسس روسيا الحديثة عن عزمه على "استعادة أراضي روسيا التاريخية ودعم أركانها"، الأمر الذي استفز كثيرين من خصومه وغرمائه من بلدان الجوارين، القريب والبعيد، خشية إيقاظه لما سبق وتردد حول الرغبة في استعادة الاتحاد السوفياتي السابق، واسترداد ما فقدته روسيا من أراض تنازلت عنها لعدد من جمهوريات ذلك الاتحاد، ومنها أوكرانيا وكزاخستان.

ومن هنا يتوقف مراقبون كثيرون في روسيا وخارجها عند ما يصدر من تصريحات رسمية وشبه رسمية حول احتمالات المطالبة باستعادة روسيا شبه جزيرة ألاسكا التي لطالما كانت تسمى "روسيا الأميركية"، بعد أن باعتها الإمبراطورية الروسية إلى الولايات المتحدة في عام 1867 مقابل ما يزيد قليلاً على سبعة ملايين دولار.

وكان فياتشيسلاف فولودين رئيس مجلس الدوما انتهز مناسبة ما يحتدم من جدل حول ما وصفه بانتهاك النرويج اتفاقيات التعاون مع روسيا، وكذلك محاولات عدد من الدوائر الغربية مصادرة أرصدة وممتلكات روسيا في الخارج لصالح إعادة بناء أوكرانيا، ليصدر تعليماته إلى اللجان المعنية في مجلس الدوما للنظر في احتمالات نقض هذه الاتفاقيات. وإذ توقف ليشير إلى تراجع النرويج عما فرضته من عراقيل تحول من خلالها دون حركة الشحنات الروسية، والتواصل مع مستوطنات روسيا في أرخبيل سفالبارد، تحول فولودين في تلميح يرقى إلى حد التصريح ليشير إلى "أن الولايات المتحدة يجب أن تتذكر أن لدى روسيا شيئاً لتعيده"، في إشارة إلى ألاسكا على سبيل المثال.

وجاء ما نشرته صحيفة "وول ستريت" الأميركية حول ضرورة استعادة الولايات المتحدة جزيرة "فرانجل" أو "رانجل" بحسب التسمية الأميركية، الواقعة غرب المحيط المتجمد الشمالي لتعيد إلى الأذهان قصة "استيلاء" روسيا على هذه الجزيرة عام 1824 لتقيم عليها لاحقاً قاعدة عسكرية جوية يمكن أن تهدد منها أراضي ألاسكا الواقعة في المساحة بين الحدود الشمالية لكندا، وحتى مضيق بيرينج الذي يفصلها عن غرب أراضي روسيا في الشرق الأقصى.

ولكل من الجزيرة وشبه الجزيرة قصة نرويها تباعاً، ونبدأ بما يحتدم من جدل حول التبعية التاريخية لجزيرة "فرانجل" التي أثارتها أخيراً صحيفة "وول ستريت جورنال". فما إن كشفت الصحيفة عن دعوتها السلطات الأميركية إلى استعادة هذه الجزيرة في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي حتى انتفض النائب فيدوت توموسوف عضو مجلس الدوما (البرلمان الروسي)، ليعلن رداً على دعوة توماس دانس، الذي تناول في عموده بصحيفة "وول ستريت جورنال" التبعية التاريخية لهذه الجزيرة إلى الولايات المتحدة، "أن روسيا مدعوة إلى ضرورة اتخاذ ما يلزم لإعادة شبه جزيرة ألاسكا إلى روسيا".

فماذا عن جزيرة "رانجل" أو"فرانجل" بحسب التسمية الروسية؟

ذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال" أن "الجزيرة، التي تقع على مسافة ثماني مناطق زمنية شرق موسكو، وتعد موطناً لبعض من أعظم عجائب الأرض الطبيعية، تنتمي إلى الولايات المتحدة". وأضافت أن "روسيا تسيطر على هذه الأراضي منذ عام 1924، وأن هناك قاعدة عسكرية روسية اعتبرتها تهديداً للسيادة الأميركية" في هذه المنطقة. واستطردت لتشير إلى أنه ومنذ وقت ليس ببعيد اعترضت القوات الجوية الأميركية القاذفات الروسية التي "هددت حدود ألاسكا". وقالت إن "جزيرة رانجل تلعب دوراً استراتيجيا". وخلصت الصحيفة الأميركية إلى دعوة الولايات المتحدة إلى ضرورة استعادة هذه الجزيرة من روسيا، بما قد يكفل الحيلولة دون ما تمثله من خطورة بالنسبة إلى شبه الجزيرة بخاصة، وللمنطقة عامة.

أما الأدبيات الروسية فتقول "إن فرانجل جزيرة روسية في المحيط المتجمد الشمالي بين بحر سيبيريا الشرقية وبحر تشوكشي، وسميت على اسم الملاح الروسي ورجل الدولة في القرن التاسع عشر فرديناند فرانجل".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأضافت أن "الرحالة الروس اكتشفوا وجود هذه الجزيرة منذ منتصف القرن السابع عشر. وفي عام 1924 أرسلت حكومة الاتحاد السوفياتي بعثة روسية على متن زورق حربي كان يحمل اسم (أكتوبر الأحمر) إلى جزيرة فرانجل، حيث رفعت البعثة العلم السوفياتي ليرفرف في سماء الجزيرة"، كما أشارت إلى أن "هذه الجزيرة تسجل أعلى كثافة من الدببة القطبية في المحيط الهادئ. وهناك أيضاً أكثر من 400 نوع من النباتات و100 نوع من الطيور المهاجرة".

وكان عضو مجلس الدوما فيدوت توموسوف قال في حديثه إلى موقع "Gazeta.ru"، "إن جزيرة رانجيل أرض روسية ولن نتخلى عن شبر واحد من أرضنا الأصلية". وأضاف "لن تتنازل روسيا عنها للولايات المتحدة تحت أي ظرف من الظروف"، معيداً إلى الأذهان ما نصت عليه التعديلات التي أقرها الاستفتاء الشعبي للدستور الروسي في يوليو (تموز) 2020، وتحظر التنازل أو التباحث حول التخلي عن أي جزء من أجزاء الدولة الروسية، مؤكداً أن ذلك "جريمة دولة".

وماذا عن شبه جزيرة ألاسكا؟

تقول الأدبيات الروسية إن "ألاسكا شبه جزيرة في شمال غربي أميركا الشمالية بين خليج بريستول لبحر بيرينغ والمحيط الهادئ. ويبلغ طولها نحو 700 كيلومتر، فيما يتراوح عرضها بين 10 و170 كيلومتراً". أما عن السكان الأصليين فترى أنهم في معظمهم من الهنود والإسكيمو والأليوتيين. ومضت لتشير إلى أن أسلافهم استوطنوا شبه الجزيرة قادمين من آسيا. وكانت مهنتهم الرئيسة هي صيد الأسماك والغزلان. وليس ثمة خلافات حول أن المستوطنين الروس ظهروا في ألاسكا منتصف القرن السابع عشر تقريباً، وربما قبل ذلك بقليل. وقالت مصادر روسية إن هؤلاء الروس كانوا ضمن أولئك الذين رافقوا بعثة المستكشف الروسي سيميون ديجنيف، الذي التف عام 1648 حول الطرف الشرقي من آسيا عن طريق البحر.

وبعيداً من تفاصيل ما نجم من خلافات بين ممثلي روسيا من الصناعيين وممثلي الشركات الروسية وأوائل النازحين الجدد من ممثلي الولايات المتحدة وبريطانيا، نشير إلى أن روسيا اضطرت في نهاية المطاف إلى عقد اتفاقيات معهم، مثلما حدث في عام 1824 مع الولايات المتحدة، وفي عام 1825 مع بريطانيا. وكان ذلك مقدمة لمتاعب كثيرة وخلافات بين الجانبين، سرعان ما أسفرت عن تنازلات أخرى من جانب الإمبراطورية الروسية التي اضطرت إلى "منح الأميركيين والبريطانيين الحق في التجارة من دون عوائق بالممتلكات الروسية في ألاسكا". وعلى رغم ما كانت الدولة الروسية تحصل عليه من مكاسب من تجارة الفراء من ألاسكا بداية القرن التاسع عشر فقد أدت زيادة المنافسة الأجنبية وتدهور العلاقات بين ممثلي "الشركة الروسية الأميركية" وتدهور الصناعات البحرية التقليدية وصعوبة التواصل مع المستعمرات البعيدة إلى تراجع هذه المكاسب، في الوقت الذي أسهم فيه النمو السريع للأعمال الأميركية في شمال المحيط الهادئ خلال الفترة من 1830 إلى 1850 في تراجع نفوذ روسيا وانحسار تعداد مواطنيها في هذه المنطقة، أمام تصاعد النشاط الاستيطاني التوسعي من جانب الحكومتين الأميركية والبريطانية، وذلك ما كان في صدارة أسباب إثارة قضية تنازل روسيا عن السيادة والتفكير في بيع شبه الجزيرة.

تقول المصادر إن الحاكم العام لشرق سيبيريا، الكونت نيكولاي مورافيوف-أمورسكي، كان أول من طرح مبادرة "بيع ألاسكا" في إطار "صفقة وهمية" تقوم على "الثقة المتبادلة الكاملة مع الأميركيين"، بحسب رواية المصادر الروسية. وتمضي هذه المصادر لتقول إن "احتمالات بيع ألاسكا لم تتراجع"، حيث سرعان ما عادت إلى صدارة اهتمامات القيادات الروسية أعقاب هزيمة روسيا في حرب القرم الأولى، وما كان تحتاج إليه عملية الحفاظ على هذه المنطقة النائية من الناحية الجيوسياسية من كلفة تفوق على حد تقدير المسؤولين الروس آنذاك إمكانات وقدرات الدولة، وذلك ما أسفر في نهاية الأمر عن وضع فكرة بيع ألاسكا حيز التنفيذ. وهو ما تحقق في 30 مارس (آذار) 1867 بتوقيع اتفاق واشنطن في شأن بيع ألاسكا بين روسيا والولايات المتحدة مقابل 7.2 مليون دولار من الذهب، وهو ما يعادل أقل بقليل من 11 مليون روبل.

في يونيو (حزيران) 1867 تبادلت الدولتان وثائق التصديق بما يقضي بتنازل روسيا للولايات المتحدة عن جميع الأراضي والجزر في أميركا الشمالية بمساحة إجمالية تبلغ 1519 كيلومتراً مربعاً، بما في ذلك شبه جزيرة ألاسكا بأكملها بما يعادل تقريباً نسبة 20 في المئة من مساحة الولايات المتحدة.

وتقول الأدبيات الروسية "إن القائم بالأعمال الروسي في واشنطن، البارون إدوارد ستيكل تسلم في صيف عام 1868 شيكاً بقيمة 7.2 مليون دولار من وزارة الخزانة في أميركا الشمالية، بما وضع حداً لأكبر صفقة في تاريخ العالم لبيع الممتلكات الإقليمية، وذلك ما استفادت منه الإمبراطورية الروسية لشراء ما كان مطلوباً لبناء خطوط السكك الحديدية بين كورسك-كييف وريازان-كوزلوف وموسكو-ريازان وغيرها".

ولم يمض كثير من الوقت حتى أعلنت السلطات الأميركية في نهاية القرن التاسع عشر عن اكتشاف رواسب كبيرة من الذهب في ألاسكا، ما كان في مقدمة تزايد مبررات التدافع نحو استيطان هذه البقاع، قبل أن تصبح ألاسكا في عام 1959 الولاية التاسعة والأربعين للولايات المتحدة لتشهد ما شهدته في القرن العشرين من اكتشاف لحقول النفط والغاز بكميات كبيرة. ومع احتدام أوار الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي بدأت واشنطن في نشر بعض قواعدها العسكرية في عدد من أرجاء هذه المساحات الهائلة على مقربة مباشرة من الحدود الشرقية للدولة السوفياتية. وها هي ذي "ألاسكا" أو "روسيا الأميركية" كما كانت تسمى لسنوات طويلة تعود ثانية لتكون "قضية خلافية" يحذر كثيرون من المراقبين على الصعيدين المحلي والإقليمي من مغبة احتدامها، لا سيما في مثل هذه الظروف الراهنة التي تحمل بين طياتها بذور انفجار ثمة من يتوقع أن يكون بداية "حرب عالمية ثالثة". 

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل