Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تغير المناخ وارتفاع منسوب البحار يتهددان الأمن الغذائي في مصر

فيما تستعد مصر لاستضافة قمة الأمم المتحدة للمناخ "كوب 27"، يبدو جلياً التأثير المتفاقم الذي يطرحه الاحترار العالمي في منطقة دلتا النيل

الثروات الزراعية والسمكية يتهددها تغير المناخ وارتفاع منسوب البحر في مصر (غيتي)

سبق أن رأى سيد أبو العز محاصيله الزراعية تهلك أمام عينيه نتيجة مياه البحر المالحة التي وصلت إليها. وبينما يسير هذا المزارع في دلتا النيل بين أشجار المانغو المرصوفة على أرضه غير البعيدة من البحر الأبيض المتوسط، يخشى أن تطاوله هذه المصيبة مجدداً على رغم إنفاق ما يعادل عشرات الآلاف من الدولارات للحؤول دون ذلك.

وإذ راح ينظر نحو البحر قال أبو العز والقلق يعتريه، "إذا ارتفع منسوب المياه ستموت الأشجار".

هنا، لطالما كان وقع تغير المناخ جلياً بالنسبة إلى المزارعين، إذ يتبدى في الملح الزاحف الذي يأكل جذور محاصيلهم ويحرق حقولهم، جاعلاً منها مساحات قاحلة غير صالحة للزراعة. في الواقع، ينفق هؤلاء ثروات طائلة كي يجلبوا شاحنات محملة بالتراب علّهم يرفعون مزروعاتهم فوق مستوى الملح الذي يجد طريقه إلى التربة نتيجة ارتفاع منسوب مياه البحر. ولكنهم يقولون إن المشكلة لا تنفك تزداد سوءاً وتتفاقم للأسف.

سائقو الحافلات يشهدون على هذه التغيرات أيضاً، وكيف يتدفق البحر بسهولة إلى الأراضي. الآن، في كل شتاء تغمر مياهه أجزاء من الطريق السريع الدولي الحيوي الذي يمتد على طول الساحل المصري، كما يقول سائقون على الطريق.

معلوم أن الدلتا تغطي قرابة 240 كيلومتراً مربعاً، بدءاً من شمال العاصمة المصرية القاهرة حيث يتدفق نهر النيل. شكلت فروع الأنهار أرضاً خصبة غنية من طريق ترسب الطمي أثناء شق طريقها إلى البحر. ومنذ العصور الضاربة في القدم، كانت المنطقة بمثابة سلة غذاء للإمبراطوريات.

تكتظ المنطقة بالسكان، حاضنة نحو 40 في المئة من سكان مصر البالغ عددهم 104 ملايين نسمة، فضلاً عن أنها تمثل نصف اقتصاد البلاد، وفق "وكالة الغذاء" التابعة لمنظمة "الأمم المتحدة".

المزارع والثروة السمكية اللتان تمتدان على طول فرعي النيل، فرع رشيد في الغرب ونظيره دمياط في الشرق، تسهمان في توفير الغذاء للبلاد والمنتجات للتصدير إلى الخارج.

ولكن هذه الثروات كلها يتهددها تغير المناخ وارتفاع منسوب البحر.

تقع ربع مساحة الدلتا عند مستوى سطح البحر أو دونه. أما الزيادة في منسوب المياه التي تتراوح ما بين 0.5 و1 متر (أي 1.6 إلى 3.2 قدم) والمتوقعة بحلول 2100 وفق أحد أسوأ السيناريوهات التي تطرحها لجنة مدعومة من "الأمم المتحدة"- فستقود إلى تحويل الخط الساحلي [انكماشه] نحو الداخل كيلومترات عدة، من ثم تغمر المياه مناطق كبيرة تصير مساحات جرداء أطبق الملح على خناقها. يتحدث عن هذا المشهد المؤسف تقرير صدر أخيراً عن مجموعة دولية من العلماء تولى الإشراف عليها "مركز بحوث المناخ والغلاف الجوي" التابع لـ"معهد قبرص"، و"معهد ماكس بلانك للكيمياء" كلاهما.

جورج زيتيس، الذي شارك في كتابة التقرير المذكور، قال إن هذا [السيناريو المتوقع] "ربما يستتبع تحديات خطيرة تواجهها البنية التحتية الساحلية والزراعة، ويمكن أن يؤدي إلى تملح طبقات المياه الجوفية الساحلية، بما في ذلك دلتا النيل المكتظة بالسكان والمزروعات".

يرد في السيناريو الأكثر ترجيحاً الذي خلصت إليه اللجنة أن البحر سيرتفع بمقدار 0.3 إلى 0.6 متر بحلول 2100. هكذا، ستصير آلاف الأفدنة غير صالحة للزراعة أو حتى السكن.

عبر أجيال عدة، قال المزارعون والمقيمون الآخرون إنهم استشعروا آثار تغير المناخ طوال سنوات، لا سيما في ارتفاع مستويات سطح البحر. لقد شهدوا تآكلاً أكبر للشواطئ، وتلوثت المياه الجوفية بالملح. يُشار إلى أن المياه المالحة تتسلل إلى الأراضي مع تزايد الضغط نتيجة ارتفاع منسوب مياه البحر، فيما تراجع الضغط المضاد الذي يتأتى من المياه العذبة.

محمد عبد المنعم، كبير المستشارين في "شؤون الأراضي وتغير المناخ في "منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة" (الفاو) التابعة لـ"الأمم المتحدة"، ذكر أن تسرب المياه المالحة يشكل التهديد الأكثر تحدياً بالنسبة إلى الدلتا.

"ويترتب على ذلك انخفاض في الإنتاجية، وهلاك المحاصيل في حالات كثيرة، وانعدام الأمن الغذائي تالياً"، وفق عبد المنعم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أما حمدي صلاح، مزارع يبلغ من العمر 26 سنة عند مشارف بلدة رشيد في غرب الدلتا، فيقول إن تغيرات كبيرة دخلت على الممارسات الزراعية. لقد اعتادوا في السابق أن يزرعوا مجموعة متنوعة من المحاصيل: الطماطم، والباذنجان، والقرع، وغيرها من خضروات. والآن، يزرعون في الغالب المانغو والحمضيات، التي تعتبر أقل هشاشة أمام الملح.

"لقد جربنا أن نزرع محاصيل أخرى من قبيل التفاح، بيد أن المياه المالحة قتلت جذورها أيضاً"، قال صلاح.

تمتهن عائلة أبو العز الزراعة في رشيد منذ أجيال عدة، حيث يعتني وشقيقاه بمزرعتين من المانغو والحمضيات، تبلغ مساحة كل منهما خمسة أفدنة.

قبل عقد من الزمن، عمد هؤلاء المزارعون إلى مد أراضيهم الزراعية بكمية إضافية من التراب كي يرتفع أحد الحقلين بمقدار متر واحد (3.3 قدم) عن مستواه والحقل الثاني بمقدار مترين (6.6 قدم)، سعياً منهم إلى مواجهة ارتفاع منسوب المياه المالحة في مزرعتيهم. وقد بلغت التكلفة وفق صابر أبو العز، شقيق سيد، نحو مليوني جنيه [مصري] (ما يساوي 88 ألفاً و481 جنيهاً استرلينياً) بحسب الأسعار في يومنا الحاضر.

رفع مستوى التربة، مدعوماً بشبكة تدفق المياه سطحياً فوق الأرض التي بنتها الحكومة المصرية بهدف خفض نسبة الملح في التربة، منح المزارعين بعض الوقت.

"كانت العملية مكلفة ولكن تعذر علينا التصرف بأي شكل آخر"، قال سيد الذي يبلغ من العمر 36 سنة وأب لولدين.

علاوة على جلب أطنان من التراب، يزرع كثيرون نباتات في أحواض مرتفعة ويستخدمون ما تيسر لهم من أسمدة طبيعية أو كيماوية معقولة التكلفة كي يتصدوا لزحف الملح.

أما عدم الاستعانة بهذه التدابير، فسرعان ما يحول هذه الأراضي إلى مناطق مقفرة. وعلى الجانب الآخر من النهر من بلدة رشيد، تغطي صفائح من الملح الجاف مساحات كانت سابقاً أراضي زراعية بمحاذاة بلدة موتوبس.

بعد ظهر أحد أيام سبتمبر (أيلول)، جلس ستة مزارعين على مقربة من آلة تضخ المياه من قناة ري إلى أحواض مرتفعة في مزرعة مانغو في موتوباس. كانت الأشجار بدأت تبرعم وتزهر للتو، وربما يكون العام المقبل أول حصاد لها.

أحد هؤلاء المزارعين، ويدعى عوف الزغبي، قال إنه للمرة الثالثة يحاول أن يزرع المانغو. لقد حال الملح دون نجاح محاولته السابقة.

"ترى الشجرة تموت أمام ناظريك"، بأسى قال المزارع البالغ من العمر 47 سنة، متذكراً كيف أنه اضطر إلى استخراج البذور واحدة تلو الأخرى من الغلاف الخشبي الذي يغطيها. وتقع حقوله على بعد ثلاثة كيلومترات من البحر الأبيض المتوسط.

هذه المرة، يحدو الزغبي أمل في أن تنجو أشجاره بفضل الأراضي الزراعية التي عملوا على رفع مستواها حديثاً وشبكة تدفق المياه السطحي التي أنشأتها الحكومة، بالإضافة إلى الأسمدة الكيماوية الباهظة الكلفة. لا تحضر في خاطر المزارع أي فكرة عن الخطوات المحتملة التي سيتخذها في حال هلك المحصول مرة أخرى. ويخشى من أن عدم تقديم الحكومة المصرية مساعدات أخرى، سيحمل الآلاف من المزارعين على هجر أراضيهم.

 

 

في الحقيقة، لطالما كانت منطقة الدلتا مكشوفة على البحر القريب منها، ولكن المزارعين يقولون إن ملوحة المياه بقيت تحت السيطرة من طريق إمدادات المياه العذبة وتراكم الطمي الذي يخلفه نهر النيل.

حتى بعدما كتب بناء السد العالي في أسوان منذ ما يربو على 50 عاماً نهاية فيضانات النيل الموسمية المدمرة، ما زالت المياه العذبة تصل إلى الحقول عبر القنوات. ولكن حجمها انخفض بدوره أيضاً، إذ ارتأت الحكومة المصرية ترشيد استخدام المياه في الزراعة مراعاة للزيادة السكانية في البلاد. هكذا، لم تعد كمية المياه العذبة كافية لتنظيف الملح الذي يجتاح الأراضي.

على طول الساحل على الجانب الشرقي من الدلتا، رُفعت حواجز خرسانية على أطراف مدينة بورسعيد كي تصد الأمواج العاتية عن اليابسة.

يتذكر المهندس المتقاعد عبد الوهاب رمضان ذو الـ61 سنة، أنهم كانوا يمضون إجازات الصيف على الشواطئ الرملية البيضاء هنا منذ 30 عاماً. والآن، يلعب أحفاده إلى جانب قواطع الأمواج الضخمة في المياه الضحلة الموحلة.

"ندرك أنه إجراء [رفع الحواجز الإسمنتية] ضروري، ولكن تتوافر طرق حماية أفضل من هذه الحواجز القبيحة"، قال رمضان.

في الواقع، لا تتعدى هذه [الحواجز الخرسانية] كونها أنصاف حلول أو تدابير موقتة فحسب، إذ لم تكن كافية لدرء الأمواج التي غمرت المطاعم والمقاهي المصطفة على جانب الشاطئ في مدينة رأس البر في فصول الشتاء الأخيرة. الآن، يؤثر الكثير منها غلق أبوابه خلال الشتاء.

"في العام الماضي، أمضينا أسبوعاً كاملاً في إصلاح المكان، ولكن مع الأسف غمرته المياه مرة أخرى"، قال عبدالله غريب، الذي يدير مقهى على الشاطئ. كذلك لحقت به الأضرار بفعل وصول المياه خلال العامين الماضيين. والعام الحالي، سبق أن عبر البحر الخطين الأولين من قواطع الأمواج في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.

وتندرج الحواجز الإسمنتية وشبكات تدفق المياه فوق سطح الأرض ضمن جهود تبذلها الحكومة المصرية من أجل حماية الدلتا من آثار تغير المناخ.

وزير الري والموارد المائية المصري السابق، محمد عبد العاطي، ذكر في يناير (كانون الثاني)، أن حكومة بلاده أقامت حواجز خرسانية على مسافة 120 كيلومتراً على طول ساحل البحر المتوسط، بهدف إيواء 17 مليون شخص. أي ما يعادل حوالى نصف ساحل الدلتا ومدينة الإسكندرية.

يمتد ساحل البحر المتوسط المصري برمته على مسافة 990 كيلومتراً (نحو 615 ميلاً). وقال عبد العاطي إنهم يعملون أيضاً على بناء نظام إنذار للتنبيه إلى أي تغيرات مناخية ربما تطرأ، من قبيل ارتفاع مستوى سطح البحر.

في الوقت نفسه، تحاول السلطات المصرية وضع حد لممارسات تتسبب بدرجة عالية من التلوث، مثل صناعة الطوب وتقليد الزراعة القديم، وحرق قش الأرز، الذي يغلف سماء الدلتا بالدخان سنوياً بعد الحصاد.

ولكن يسود اعتقاد بين المصريين أن هذه خطوة صغيرة في معالجة مشكلة عالمية كبيرة.

"على رغم أن مصر تسهم بنسبة 0.6 في المئة فقط في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية، إلا أنها واحدة من أكثر (البلاد) عرضة للتأثيرات الخطيرة التي يطرحها تغير المناخ، ويبقى قطاع الزراعة وإنتاج الغذاء الأكثر تضرراً"، قال عبد المنعم الخبير في "الفاو".

(أ ب)

اقرأ المزيد

المزيد من بيئة