Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

القصف المؤدي إلى الهزيمة

لماذا سيعجز تفوق القوة الروسية في الجو عن تغيير المصير المحتوم للحرب في أوكرانيا

دمار إثر هجوم بطائرة مسيرة روسية في كييف بتاريخ 17 أكتوبر 2022 (رويترز)

ابتداءً من مطلع أكتوبر (تشرين الأول)، وإزاء الخسائر على أرض المعركة وغيرها من الإخفاقات الروسية في أوكرانيا، انتقل الرئيس فلاديمير بوتين إلى اعتماد استراتيجية عسكرية يفترض أن يكون لروسيا فيها أرجحية حاسمة، تتمثل في القوة الجوية. وفي معظم الحملات التي شنها جيشه ضمن هذه الاستراتيجية حتى الآن، أمر بوتين بسلسلة من الهجمات الصاروخية على عشرات المدن الأوكرانية وضد البنية التحتية الكهربائية في مختلف أنحاء أوكرانيا. وقد اضطر الأوكرانيون إلى الاحتماء في الأقبية والملاجئ، وخسرت البلاد قرابة 30 في المئة من قدرتها على توليد الطاقة الكهربائية، الأمر الذي تسبب في انقطاعات مديدة في الكهرباء أثرت على البيوت والمستشفيات وانعكست سلبياً أيضاً على عجلة الاقتصاد الأساسية. وطوال الأسابيع التالية لتلك الحملات، داومت روسيا على إرسال موجات من الطائرات المسيرة لمهاجمة أبنية السكن والمكاتب والأعمال في كييف ومدن أخرى. وفي الواقع، لم يكن لتلك الأمور سوى معنى واحد قوامه أن بوتين يذكر الحكومة الأوكرانية بقدرته على مهاجمة مراكز الكثافة السكانية في البلاد من دون أن يكون لأوكرانيا القدرة على الرد بالمثل. لم يكن بوسع أوكرانيا مجاراة تلك الحملة الجوية بقصف مضاد للمدن الروسية منذ أن تخلصت من صواريخها بعيدة المدى العائدة للحقبة السوفياتية، ولم تعد تملك سوى عدد قليل من الطائرات المخصصة للحرب البرية. وعلى ما يبدو، لم يشمل هدف بوتين سوى معاقبة المدنيين وإنهاكهم، على أمل إقناع قادتهم بطلب السلام [وفق الشروط الروسية].

في المقابل، إن هذه الاستراتيجية محكومة بالفشل. ففي مراحل سابقة من الحرب، لم يسهم التفوق الجوي الروسي المفترض سوى بقليل من التغيير في الزخم العام على أرض المعركة. وعلى رغم الأضرار الكبيرة التي تسببت بها غارات بوتين الجوية، إلا أنها فشلت في عرقلة التقدم الأوكراني في الشرق. وحين ضربت تلك الغارات [الروسية] أهدافاً مدنية، لم يؤد ذلك إلا إلى تقوية عزم الأوكرانيين.

وفي الحقيقة، تدعونا الحصيلة المتناقضة لحملات القصف الجوي الروسية إلى مزيد من التعمق في فهم دور القوة الجوية ضمن الحروب المعاصرة. وعلى مدى عقود، شكل قصف مناطق المدنيين، الذي يجعل الحرب أكثر بشاعة وانعدام أخلاق، إحدى الاستراتيجيات الشائعة التي استخدمتها الدول في تقويض معنويات سكان الدول التي تحاربها، وإجبار حكومات الأخيرة على الاستسلام. إن اجتياح بوتين لأوكرانيا، خصوصاً تصعيده الأخير، لا يختلف عن هذا الأمر، لكن وفق ما أظهرت لنا عشرات النزاعات طوال القرن الماضي، يبقى استخدام القوة الجوية ضد الأهداف المدنية محكوماً بالفشل على الدوام تقريباً. واليوم، إذ يحصل بلد مستهدف [بالقصف الجوي للمدنيين] كأوكرانيا، على معدات متطورة جداً [ضد القوة الجوية] تعمل من البر، فإن عيوب استراتيجية القصف الجوي تزداد وضوحاً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أسطورة تحطيم الروح المعنوية   

غالباً ما سعت الدول الحديثة التي تخوض الحرب إلى معاقبة مدنيي الدول العدوة. وبصورة عامة، يجري اللجوء إلى ذلك الأمر باعتباره طريقة سهلة وغير مكلفة لإجبار حكومات الأعداء على التنازل والتراجع، أو حتى على الاستسلام الكامل. ومن الممكن أن تتمثل الاستراتيجية الأكثر شيوعاً بعمليات القصف الجوي للأهداف المدنية إما مباشرة، عبر قصف المناطق السكنية، أو بطريقة غير مباشرة، عبر بالأضرار بالبنى التحتية الاقتصادية الضرورية لتوزيع الأغذية وتدفئة البيوت وإمداد الاقتصاد المدني بالطاقة الكهربائية [في الدول المستهدفة].

بدأت تلك الفكرة في الظهور أثناء الحرب العالمية الأولى حين أطلق القادة الألمان الذين سعوا بدأب إلى إخراج بريطانيا من الحرب، موجات الـ"زيبلين" zeppelins، مناطيد مناورة ضخمة محملة بالمتفجرات، لمهاجمة لندن ومدن بريطانية أخرى. وفيما بعد، أضافوا إلى ذلك غارات نفدتها قاذفات جوية من طراز "غوثا" تسببت في مقتل المئات من دون إحراز أي نتائج أكبر [من مناطيد زيبلين]. وفي نهاية المطاف، أوقف الألمان حملة معاقبة المدنيين في عام 1917. ثمة مؤيد آخر لاستراتيجية القصف الجوي، هو الجنرال الإيطالي غويليو دويت، وقد ألف كتباً عدة مؤثرة للغاية يزعم فيها أن الهجمات الجوية الضخمة على مدن العدو تجعل المدنيين ينتفضون ويطالبون حكوماتهم بالاستسلام، ما يؤمن النصر لمن ينفذ تلك الهجمات من دون الحاجة إلى معارك برية طاحنة. وفي ذلك الإطار، سارعت ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة إلى تعزيز وتوسيع قواهم الجوية خلال عشرينيات القرن الماضي وثلاثينياته، وبنوا جميعاً منهاجهم العسكري على افتراض أن الهجمات المباشرة وغير المباشرة على المدنيين تشكل عاملاً أساسياً يؤدي إلى الانتصار في الحروب الحديثة.

لقد لاقت استراتيجيات "كن قاسياً" [بمعنى المناداة بضرورة قصف المدنيين بهدف كسب الحرب] التي تبنتها تلك الحكومات، ترحيباً من قبل مواطنيها بسبب قدرتها على اجتراح نتائج دراماتيكية وتكتيكية سريعة بأكلاف عسكرية محدودة لمصلحة بلدهم، وتحقيق ما يعد انتقاماً من أفعال الطرف المعادي. في بعض الأحيان، حققت استراتيجية القصف الجوي نتائج بارزة في أرض المعركة، إذ يمكن الاستشهاد في هذا السياق بنجاح القوى الجوية البريطانية في قمع انتفاضة القبائل في العراق إبان عشرينيات القرن الماضي، والعون الذي قدمته الطائرات الألمانية لـ"جيش الوطنيين" التابع للجنرال فرانشيسكو فرانكو كي يسيطر على المناطق خلال الحرب الأهلية الإسبانية [في ثلاثينيات القرن الـ20، أثناء سيطرة النازية على ألمانيا]. في المقابل، ثمة ما جرى غالباً التغاضي عنه لدى مراجعة وتحليل هاتين الواقعتين، يتمثل في أن التحولات المتعلقة بالتوازن العسكري على الأرض هي من أدى الدور الحاسم في مسار الحرب، وليس معاقبة المدنيين.

 

لم يحدث أن يلجأ مواطنون يتعرضون للقصف من قبل دولة أجنبية إلى الثورة ضد حكومتهم

ووفق ما أظهرت نزاعات أخرى كثيرة في العالم، فإن مكاسب الاستراتيجيات الانتقامية تميل في العادة لأن تكون قصيرة الأمد. فكروا مثلاً بما حدث حينما قصفت القاذفات الألمانية لندن والمدن البريطانية الأخرى في 1941 و1942، حيث قتلت أكثر من 50 ألف شخص. وقد رفض رئيس الوزراء البريطاني آنذاك ونستون تشرشل، كالرئيس الأوكراني اليوم فولوديمير زيلينسكي، الاختباء في ملجأ ضد القنابل، فكان يجول بين الدمار ويقود شعبه بأفعال علنية واستعراضية ويحفز المجتمع بأسره على تقديم التضحيات المطلوبة لتحقيق الانتصار الحاسم. وبدلاً من أن تدمر المعنويات أدت الـ"بليتز" [الغارات الجوية الألمانية] إلى دفع البريطانيين لإطلاق هجوم مضاد، بدعم من حلفائهم الأميركيين والسوفيات، قاد في النهاية إلى هزيمة ألمانيا.

بالتالي، إن إنزال العقاب بالمناطق المدنية والسكنية لا يمثل عملاً غير أخلاقي وحسب، بل إنه أثبت من دون شك عدم جدواه كاستراتيجية تهدف إلى الضغط على العدو. وسواء أنزل ذلك العقاب جماعياً أو على نحو مخفف، بسرعة أو ببطء، وسواء أرفق باقتراحات دبلوماسية أم لم يرفق، فإن التاريخ يقول لنا إن ضرب المدنيين لن يسهم على الأرجح في حمل الدول على الاستسلام، أو إبرام صفقة تتخلى عبرها عملياً عن مناطق مهمة لاستمرارية حكومتها وهويتها الوطنية. كذلك لا يشير التاريخ إلى أي حالة أدت فيها حملات القصف الجوي إلى حمل المواطنين في البلد المقصوف على الثورة ضد حكوماتهم. وفي هذا الإطار، حاولت واشنطن مثلاً أثناء حروب رئيسة متعددة في النصف الثاني من القرن الـ20، إثارة انتفاضات شعبية ضد أنظمة معادية عبر مهاجمة البنى التحتية المدنية. وخلال الحرب الكورية [بين عامي 1950 و1953]، دمرت الولايات المتحدة 90 في المئة من بنية توليد الطاقة الكهربائية في كوريا الشمالية. وفي حرب فيتنام، قصف الأميركيون كل ما استطاعوا الوصول إليه من بنية كهربائية في فيتنام الشمالية. وفي "حرب الخليج"، أدت الغارات الجوية الأميركية إلى تعطيل 90 في المئة من قدرة توليد الطاقة الكهربائية في عراق صدام حسين، بيد أننا لم نشهد انتفاضات شعبية في أي من تلك النزاعات [ضد نظام حكم البلد المعني الذي تعرض للقصف الجوي]. ومن اللافت تماماً، أن الولايات المتحدة لم تضطر إلى مهاجمة شبكة توليد الطاقة الكهربائية ولا المراكز المدنية خلال اجتياحها العراق سنة 2003. وبدلاً من ذلك، ركزت على تنفيذ استراتيجية عسكرية فاعلة تمكنت عبرها بسهولة من إلحاق الهزيمة بالجيش العراقي وإطاحة ديكتاتورية صدام حسين خلال ستة أسابيع.

في سياق مغاير أثناء الحرب العالمية الثانية، بلغت آثار القصف الذي نفذه الحلفاء على ألمانيا واليابان مستويات أشد تطرفاً بكثير. وقد تعرضت المدن إلى قصف بالقنابل الحارقة والتدمير بحملات شنتها القوات الجوية الأميركية والبريطانية، فقتل أكثر من 300 ألف مدني ألماني و700 ألف مدني ياباني جراء استخدام أسلحة تقليدية بالقصف، مع تشريد ما يزيد على 20 في المئة من سكان البلدين المقصوفين. وحتى تلك المرحلة، لم تظهر ضغوط شعبية على نظامي ألمانيا واليابان تدعوهما إلى الاستسلام. ويمكن القول هنا إنه، إزاء تمكن الدول – الأمم الحديثة من الصمود أمام حملات القصف الجوي للأهداف المدنية، ليس أمامنا أسباب وجيهة كي نعتقد أن عمليات القصف العقابية التي تنفذها روسيا ضد الأهداف المدنية الأوكرانية، وقد جاءت أقل حدة نسبياً مما شهدته الحرب العالمية الثانية، ستحمل الأوكرانيين أو قادتهم على الاستسلام.

المطرقة تتطلب سنداناً  

على النقيض من ذلك [الاعتقاد أن قصف المدنيين وسيلة لكسب الحرب]، أثبتت حملات القصف الجوي فاعليتها وجدواها حينما استخدمت بغية تحقيق أهداف عسكرية، وليس معاقبة المدنيين. فمن حرب إلى أخرى، تمكنت للغارات الجوية المركزة على الجبهات التي تسحق القوى البرية للعدو وتضعفها لدرجة تتمكن معها قوات الطرف الذي ينفذ الغارات من السيطرة على نطاق النزاع [تمكنت] من أن تأتي بآليات متينة في تحقيق النصر حينما اقترنت بقوة برية فعالة. ففي سنة 1972، أجبرت الولايات المتحدة قوات فيتنام الشمالية على التوقف عن عدوان تقليدي، عبر تنسيق حملتها الجوية الكبرى المسماة "لاينباكر" مع هجوم نفذته قوات فيتنام الجنوبية على الأرض. وفي سنة 1991، نجحت الولايات المتحدة في إجبار صدام حسين على الانسحاب من الكويت حين نسقت أول حملة معاصرة من القصف الجوي الدقيق [باستخدام ذخائر دقيقة الإصابة كالقنابل الذكية] مع تحرك قوات برية على الأرض تشكلت من تحالف دولي. ويمكن لغياب القصف الجوي عن ميدان العمليات القتال، أن يحسم مصير القوات الصديقة في أرض المعركة. وقد اكتشفت الولايات المتحدة ذلك حينما منع الكونغرس استخدام القوى الجوية الأميركية في فيتنام سنة 1974، فسقطت مدينة سايغون إثر ذلك خلال السنة التالية. وقد تكرر ذلك الدرس في أفغانستان حين أوقفت الولايات المتحدة القصف الجوي في ميدان القتال، فانهار الجيش الأفغاني في صيف 2021.

بالتالي، يمكن استخلاص إن استخدام القصف الجوي المركز في الميدان بالتنسيق مع تحرك القوى الصديقة على الأرض، يتمتع بأرجحية منطقية واضحة. فحين تندلع الحروب وتستفحل يغدو تحقيق النصر هو الأمر الأهم. وفي الحرب، سرعان ما يكتشف القادة الناجحون، أحياناً بعد استنفاد استراتيجيات أقل كلفة، لكن أقل فاعلية أيضاً، أن الإنكار يمثل العامل الأساسي لفرض شروطهم بنجاح. ويعني ذلك الأمر أن القادة الناجحين يكتشفون بعد فترة من المن، أن ليس هناك خياراً واقعياً غير العمل المباشر على تقويض قدرة العدو في السيطرة على الأراضي والاحتفاظ بها. بكلام آخر، إن الدولة التي تفرض شروطها هي تلك التي تحقق نجاحاً على الأرض تتمكن عبره من منع عدوها من تحقيق أهدافه العسكرية [في ميدان القتال].

واستطراداً، ففي الحروب الواقعية يحقق عامل الإنكار غايته على أحسن وجه عبر استراتيجية "المطرقة والسندان"، حينما تعمل القوى الجوية والبرية مجتمعة في إيقاع العدو بـ"مصيدة 22" العسكرية Catch-22. وتوضيحاً، يعني ذلك أنه إذا حاول العدو تركيز قواه البرية بأعداد كبيرة بغية تشكيل حقول نارية كثيفة ومتداخلة كي يتحمل الهجمات البرية على نحو أفضل، تغدو قواه تلك آنذاك أضعف أمام الهجمات الجوية، إذ تستطيع أن تقطع القوات البرية إرباً عبر تكثيف غاراتها. وإذا عمد العدو إلى نشر قواته البرية في أنحاء مساحة واسعة بغية تخفيف فاعلية الغارات الجوية وتصعيب مهامها، فإنه يخاطر في جعل قواته متفرقة في مجموعات ضئيلة وهشة تسهل هزيمتها في أرض المعركة، فيتيح بذلك لقوات برية مناوئة أن تتفوق على وحداته المتفرقة، وتخترق بسهولة خطوطه الضعيفة، وتلتف على قوات العدو ووحداته المتباعدة.

واستكمالاً، لقد توجب على روسيا أن تفهم من حروبها السابقة بأن هناك حاجة إلى تضافر القوى الجوية والبرية. ويمكن التفكير هنا بنجاحاتها المفترضة في معاقبة المدنيين في الشيشان خلال تسعينيات القرن الـ20، أو حلب في خضم الحرب الأهلية السورية. فعلى رغم حقيقة أن القوات الروسية كلفت المدنيين في كلا الحالتين ثمناً باهظاً، لكن العنصر الأهم تمثل في الدرجة الأولى بميزان القوى على أرض الميدان. ففي الشيشان، قصفت روسيا المدنيين في مدينة غروزني سنة 1994، لكن قواتها البرية ما لبثت أن انهزمت أمام المتمردين، ثم نجح الجيش الروسي بإخضاع تلك الجمهورية عبر اجتياحها سنة 1999 بواسطة قوى برية أكبر عدداً. وفي حلب، شكلت قوات الرئيس السوري بشار الأسد مع قوات "حزب الله"، العنصر الذي حقق ذلك الفارق الكبير على الأرض، إذ سيطرت بسرعة على المناطق التي قصفها الروس من الجو. لو استثنينا تلك القوات البرية المجهزة جيداً لكان من شبه المؤكد أن تفشل الحملة الجوية الروسية.

 

 

من الأرض صعوداً

لقد شهدت السنوات الماضية تطورات كبيرة في مجال الأسلحة الدقيقة، وأدى الأمر على ما يبدو إلى تعزيز سلاح الجو وتقوية دوره. في المقابل، لم تثبت الأسلحة الدقيقة حتى اليوم أن قدرتها على إصابة أهداف سياسية واقتصادية في المناطق المدنية، تعطيها فاعلية أكبر في إخضاع الأعداء. فمنذ زمن طويل، أمكن تحقيق هذا الهدف عبر وابل من القذائف "الغبية". كذلك لم تقدم الأسلحة الدقيقة لاستراتيجية استهداف قيادة العدو، أي فاعلية إضافية، فقد منيت استراتيجيات كهذه بالفشل مراراً في حالات عدة، من بينها استهداف [حاكم ليبيا السابق] معمر القذافي سنة 1986، وصدام حسين في 1991، و1998، و2003 (الذي ألقت القبض عليه في نهاية المطاف قوات برية)، وقادة "حزب الله" سنة 2006.

إلى هذا، لا شيء يُعبئ القاعدة المدنية للأعداء أكثر من قتل قادتهم. وفي أبريل (نيسان) 1996، استخدمت روسيا صواريخ جو – أرض لاغتيال القائد الشيشاني دجوخار دوداييف، ثم ما لبثت أن شهدت ظهور قائد أكثر حيوية خلفه وتمكن من طرد القوات البرية الروسية من أراضي الجمهورية (الشيشان)، ولم تستطع روسيا إعادة سيطرتها إلا حينما اجتاحت الشيشان مرة أخرى بعد ثلاثة أعوام بقوات برية ضخمة. وثمة استثناءات في هذا السياق، غير أن هذه الاستثناءات لا تفعل إلا إثبات القاعدة [عن التآزر بين الضربات الجوية وعمل القوات البرية]، إذ نجح استهداف قادة تنظيم "القاعدة" في باكستان عبر الغارات الجوية بين سنتي 2001 و2010 في إضعاف التنظيم، لكن السبب الأساسي في ذلك يعود إلى ضآلة الدعم الشعبي المحلي في باكستان للتنظيم المذكور.

تملك كل بطارية من صواريخ هيمارس قوة قتالية توازي سرب كامل من طائرات "أف 16"

في سياق متصل، جاء ابتكار أسلحة الجو الدقيقة في الأصل كي يعزز استراتيجية "المطرقة والسندان". وحاضراً، تتيح الأسلحة الدقيقة للقوى الجوية تدمير حشود من قوات العدو البرية بسهولة أكثر من الماضي ومهاجمة نقاط وأهداف أصغر حجماً في الميدان، لكنها ذات قيمة أساسية أيضاً. وكان من النادر قبل اختراع هذه الأسلحة أن يتمكن سلاح الجو من تدمير الدبابات والشاحنات ومراكز القيادة والجسور التي تستخدم في إمداد القوات على الجبهة بالأسلحة والذخائر والمؤن، حتى لو استهدفت تلك النقاط الصغيرة المذكورة بآلاف القذائف. وحاضراً، باتت الأقمار الاصطناعية وأجهزة الاستشعار المتطورة، وغيرها من منصات القصف ذاتية الحركة أو التي يشغلها طاقم بشري، باتت قادرة على نحو موثوق، من تحديد تجمعات قوى العدو كي تجري الإغارة عليها وتدميرها.

ولم تتجل هذه الثورة في الأسلحة الدقيقة بأكثر مما فعلته على يد القوات المسلحة الأوكرانية. وحتى قبل وصول الأسلحة الدقيقة من الدول الغربية في مطلع الصيف، اكتسبت القوات الأوكرانية ثقة هائلة بفضل استبسال أفرادها في القتال، وقد حفزه أيضاً فشل استراتيجية الاجتياح الروسية. ومنذ ذلك الحين، تمكنت القوات الأوكرانية من استخدام تكتيكات "المطرقة والسندان" على نحو رائع لمصلحة كييف. ولم يقتصر الأمر في ذلك على صد الاختراق الروسي الأول، بل شمل دحر القوات الروسية حتى في مناطق الشرق حيث تتموضع في مواقع محصنة أكثر من سواها. ولقد كانت تلك التكتيكات فاعلة على نحو خاص في مواجهة القوات البرية الروسية الأفضل تحصيناً دفاعياً في مناطق شرق أوكرانيا. ولم تأت الانتصارات الأوكرانية في تلك المناطق بفضل تكتيك القصف الجوي، بل بفضل الأسلحة البرية المتطورة، كنظام صواريخ "هيمارس" HIMARS. وفي ذلك الصدد، ليس من المبالغة القول إن بطارية "هيمارس" واحدة، وقد قدمت الولايات المتحدة لأوكرانيا 16 بطارية منها وهناك 18 بطارية إضافية على الطريق، قوة وفاعلية جوية - أرضية توازي ما يملكه سرب من طائرات "أف 16". فبفضل مرونتها واتساع خيارات التنسيق في إطلاقها، من المستطاع استخدام تلك الصواريخ ضد القوات الروسية في أي منطقة تتمركز بها.

وعلى نحو لا يقل أهمية في هذا الإطار، أظهرت روسيا بوضوح عبر أدائها في الميدان أنها دخلت بالكاد عصر الأسلحة الدقيقة. لقد تفرج العالم على هزالة أداء قوة عظمى ذات ترسانة أسلحة ضخمة، لكن معظمها "قنابل غبية"، أمام جيش دولة أصغر قادر على امتلاك أسلحة دقيقة. وراح الجيش الروسي يخسر المناطق على نحو متواصل طوال أشهر عدة. وقد خسر خلال مارس (آذار) وأبريل (نيسان) ومايو (أيار) المواقع التي احتلها قرب كييف وعند الحدود مع بيلاروس. ومنذ مطلع الصيف، أخذ يخسر الأراضي التي سيطر عليها حديثاً في مناطق الشرق. وفي ذلك الإطار، ليس ثمة سبب حقيقي يجعلنا نستبعد هشاشة مواقع الجيش الروسي المتمركز بها في شرق أوكرانيا والقرم منذ ما قبل فبراير (شباط) 2022.

خسارة أوكرانيا، أو خسارة روسيا؟

أمام فشل حملة بوتين لمعاقبة المدنيين وتصاعد فاعلية الهجوم البري الأوكراني الذي تؤازره صواريخ "هيمارس"، شرع عديد من المحللين بمساءلة الشكل الذي قد تنتهي عليه الحرب، إذ يخبرنا التاريخ إنه حينما يقتنع طرف من أطراف الصراع باستحالة السيطرة على أهداف جغرافية محددة، فمن المرجح أن يتنازل عن تلك المناطق على نحو ضمني أو رسمياً، بدل الاستمرار في تكبد خسائر لا طائل منها، لكن هذا النوع من الإكراه الذي يتضمن إقرار الطرف المعني بعقم الحرب المديدة، نادراً ما يكون سهلاً أو يسيراً. ففي العادة، يتطلب حتى الإكراه الناجح وقتاً وكلفة لا تقل عما يتطلبه القتال لإنهاء الحرب. ينطبق هذا الدرس بسهولة على الحرب في أوكرانيا اليوم. وفي ظل الوقائع العسكرية الراهنة، فإن من يدعون الولايات المتحدة وحلفاءها إلى إقناع أوكرانيا بالقبول بصفقة تتعلق بمناطقها الشرقية، هم في الحقيقة يطلبون من الغرب إنقاذ روسيا، هذا الأمر غير واقعي لسببين. يتمثل السبب الأول بأن أوكرانيا لن توافق عليه، وينبغي لها ألا تفعل ذلك، إذ تملك قواتها الزخم والاندفاع، ولديها كل الأسباب لتوقع مزيد من المكاسب على الأرض، وسيكون من الغباء إجبارها على التخلي عما حققته من تقدم. ويأتي السبب الثاني من أن روسيا قد ترضى بصفقة على المدى القريب، لكنها قد تنتهكها بسهولة بعد أشهر أو سنوات. باختصار، كل اتفاق في شرق أوكرانيا لن يكون مضموناً إلا إذا دعم بآليات إنفاذ قوية. وقد يتضمن ذلك الأمر اتفاقات تقتضي احترام الحدود الدولية مع وجود طرف ثالث للمراقبة، وقوات عسكرية، وربما سيكون من الضروري تأمين الاستقرار لأي صيغة تنهي الحرب، سواء كانت تلك الصيغة مفاوضات أم شيء آخر.

وفي الأثناء يبقى أن الولايات المتحدة وحلف الناتو محقين في تعزيز الدعم لأوكرانيا وإمدادها بدفاعات جوية إضافية. من شأن هذه الخطوات تخفيف بعض الأذى الذي تلحقه الهجمات الروسية بالمدنيين، كذلك فإنها تحمل رسالة مفادها أن مهاجمة المراكز الحضرية لن تؤدي إلا إلى زيادة عزم الغرب وأوكرانيا. وفي نهاية المطاف، قد يتطلب إنهاء الحرب فيما لا يزال النظام الحالي ممسكاً بالسلطة في روسيا، إقامة حدود مدعمة عسكرياً بصورة كبيرة بغية منع روسيا من القيام بغزوات مستقبلية لأوكرانيا أو غيرها من بلدان أوروبا الشرقية. وعلى غرار ما كانه الحال مع "الستار الحديدي" إبان "الحرب الباردة"، ستعمل تلك الحدود المحصنة على تحقيق الهدف الأساسي المتمثل في منع الاختراقات من كلا الجانبين" وفي الاتجاهين. [بعيد الحرب العالمية الثانية، عمد الاتحاد السوفياتي ودول الكتلة الاشتراكية آنذاك في أوروبا الشرقية، إلى إحاطة نفسها بحواجز عسكرية وسياسية وأيديولوجية تمنع التواصل المباشر مع بيقة العالم. وعرفت تلك الحدود المادية والمعنوية باسم "الستار الحديدي"]. كذلك ستسهم الحدود المعسكرة في كبح أي هجوم قد يطلقه أحد الطرفين، وذلك من طريق حرمان روسيا والغرب من أي إمكانية لتنفيذ اختراقات جغرافية سريعة.

 

عبر لجوئه إلى الأسلحة النووية يقدم بوتين على الانتحار خوفاً من الموت

من جهة أخرى بحسب ما عبر عنه بوتين بوضوح نت خلال تصعيد خطابه الذي هدد فيه باللجوء إلى الأسلحة النووية، فإن هذا النزاع يتضمن أسلحة أخرى غير الأسلحة التقليدية. كثيرون في الغرب، من ضمنهم إدارة الرئيس بايدن، رفعوا الصوت عن حق محذرين من تنامي خطر الحرب النووية. في المقابل، من المرجح أن يكون مستشارو بوتين العسكريون قد شرحوا له أن اللجوء إلى الأسلحة النووية لن يغير كثيراً في خسارته للعبة في أوكرانيا. فمن شبه المؤكد أن يؤدي أي استخدام لسلاح نووي في أرض المعركة إلى تمدد آثاره وتبعاته لتشمل القوات العسكرية الروسية والمدنيين ممن يؤيدون روسيا في أوكرانيا. وبالتأكيد، سيسرع ذلك أيضاً انهيار مواقع الجيش الروسي في أوكرانيا ويضعف قدرة روسيا في الدفاع عن أراضيها في حال حدوث مزيد من التصعيد. ببساطة، من المستطاع استخلاص أن بوتين قد يلجأ الآن إلى المخاطرة بخسارة المواقع الروسية في شرق أوكرانيا، لكن لجوءه إلى السلاح النووي قد يحمله على المخاطرة بخسارة أجزاء كبيرة من روسيا نفسها. وباستعادة كلام للمستشار الألماني أوتو فون بسمارك، قد يعني ذلك الأمر الإقدام على الانتحار مخافة الموت [بين ستينيات القرن الـ19 وتسعينياته، حقق بسمارك الوحدة الألمانية وأنشأ منصب المستشارية فيها وكان أول من تولاه].

بالتأكيد، على رغم الأذى والموت الذي قد تتسبب فيه قنابلها بين صفوف المدنيين، لن يكون بوسع روسيا عكس إخفاقاتها الاستراتيجية التي تكشفت فعلاً في أوكرانيا. فمنذ أن خسر بوتين رهانه على قدرة الجيش الروسي على إلحاق الهزيمة بأوكرانيا واحتلالها كلها في الحملة الخاطفة أثناء شهري فبراير (شباط) ومارس (آذار) 2022، ومنذ أن جاء رد أوكرانيا والغرب عبر تأليف حلف قوي مضاد هدفه الدفاع عن تلك البلاد، غدت خيارات روسيا ضئيلة تقريباً. منذ أبريل (نيسان) 2022، راح كثيرون في الغرب، كذلك بوتين وغيره في روسيا، يشاهدون ببساطة العواقب المحتمة لمجموعة الحسابات الخاطئة الأولية التي اقترفها الروس وقادت إلى فشلهم الشامل.

بالتالي، قد يتمكن بوتين من معاقبة الأوكرانيين، بحسب ما ظهر في حملته الجوية، بيد أن افتقاره إلى استراتيجية "مطرقة وسندان"، لا يؤدي لسوى تسريع خسارته. وقد بات السؤال الوحيد المطروح اليوم هو هل سيقبل بوتين إنشاء ستار حديدي جديد يفصل روسيا عن أوروبا أم أنه سيتابع حتى النهاية، حرباً غير مجدية ويخاطر بخسارة أجزاء من روسيا؟

 

* روبيرت أ. بايب، مؤلف كتاب "القصف للنصر، القوة الجوية والإخضاع في الحرب"

Bombing to Win: Air Power and Coercion in War

وأستاذ في جامعة شيكاغو، حيث يرأس "مشروع شيكاغو البحثي حول الأمن والإرهاب".       

 

فورين أفيرز

سبتمبر (أيلول)/ أكتوبر (تشرين الأول) 2022

المزيد من تحلیل