Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رحلة مثيرة للجنيه المصري عمرها 75 عاما

5 محطات من "التعويم" أفقدت العملة المصرية أكثر من 600 في المئة من قيمتها

فاجأت الحكومة المصرية مواطنيها بثلاثة قرارات صادمة أولها رفع أسعار الفائدة بمقدار اثنين في المئة أعقبه هبوط الجنيه المصري إلى مستوى قياسي لم يصل إليه من قبل (أ ف ب/غيتي)

مسيرة مثيرة قطعها الجنيه المصري على مدى 75 عاماً لم تفلح معها أربع محاولات من التعويم حتى يطفو على سطح أسواق الصرف القوية الدولية، منذ المحاولة الأولى الكاملة للتعويم مع الوضع في الاعتبار فشل أولى المحاولات في سبعينيات القرن الماضي، حيث فقدت العملة المصرية أكثر من 600 في المئة من قيمتها مع آخر المحاولات، الخميس 27 أكتوبر (تشرين الأول).

بداية، مع صباح الخميس، استيقظ المصريون على حزمة من القرارات الاقتصادية اعتادوا عليها في السنوات الثماني الماضية، إلا أنها كانت الأكثر صدمة من قرارات عام 2016 أو حتى قرارات مارس (آذار) الاستثنائية عقب اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية.

وفاجأت الحكومة المصرية مواطنيها بثلاثة قرارات متتالية صادمة، وكان أولها رفع أسعار الفائدة بمقدار اثنين في المئة أعقبه هبوط الجنيه المصري إلى مستوى قياسي لم يصل إليه من قبل، ثم أتمت قراراتها بالإعلان عن اتفاقها مع مسؤولي صندوق النقد الدولي على برنامج إصلاح اقتصادي تحصل بموجبه على ثلاثة مليارات دولار لدعم احتياطيها النقدي في ظل شح العملة الصعبة.

وتأثير القرارات الثلاثة تتفاوت حدته بين طبقات وشرائح المجتمع المصري، فما يهم السواد الأعظم من المواطنين هو قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار الأميركي، بعد أن هبطت عملتهم الرسمية إلى 22.50 جنيه بعد دقائق معدودة من القرارات قبل أن تواصل الهبوط مع غروب الخميس لتتخطى حاجز 23 جنيهاً مقابل كل دولار.

ارتباط الجنيه بالدولار في أذهان المصريين

وثقافة المصريين المتأثرة بالعلاقة بين عملتهم المحلية والعملة الخضراء الأميركية لم تتغير منذ أكثر من 75 عاماً، فهم يطمئنون عندما تستقر العملة المحلية ويفزعون عندما تنهار، ولأن محافظ البنك المركزي المصري الجديد حسن عبدالله، ذلك المصرفي صاحب الخبرة المصرفية يعي جيداً ذلك، فقد لمح قبل خفض الحكومة المصرية عملتها بـ48 ساعة إلى ضرورة تغيير تلك الثقافة باستحداث مؤشر جديد للجنيه المصري يقيس قيمته أمام سلة من العملات الأجنبية من دون الاعتماد على العملة الأميركية فحسب من دون غيرها.

واستحداث مؤشر جديد للجنيه المصري لن يغير من الأمر الكثير، هكذا أكد المتخصصون والمحللون، إذ إنهم يعتبرون أن قوة العملة المصرية تحكمها ثلاثة عوامل أبرزها رصيد الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية وصلابة ميزان المدفوعات (ميزان تجاري للدول يمثل مقدار الفرق بين قيمة الصادرات وقيمة الواردات، فإذا كانت قيمة الأولى أكبر من قيمة الثانية يطلق عليه فائض الميزان بينما يسمى عجزاً إذا تخطت قيمة الثانية قيمة الأولى)، وأن النقد الأجنبي الذي يدخل حدود الدولة أكبر من النقد الأجنبي الخارج منها، بالتالي، فإن توافر النقد الأجنبي وانسيابية تدفقه يقللان من طلب الدولة على العملة الأجنبية، ومن ثم تعزيز قيمة العملة المحلية، ولا يمكن غض الطرف عن عوامل أخرى خارجية لكنها تبقى أقل تأثيراً، إذ إن قوة العملة الأجنبية نفسها العدو اللدود للجنيه المصري وهو الدولار الأميركي في هذه الحالة، ففي أنظمة سعر الصرف المرن تكون العملة المحلية عبارة عن مرآة لاقتصاد الدولة، تضعف بضعف هذا الاقتصاد وتقوى بقوته، وقيمة العملة هي حلقة من الحلقات التي تدور في فلك الاقتصاد، تؤثر وتتأثر بجميع المعطيات الاقتصادية والاجتماعية الأخرى.

الانفصال عن الجنيه الاسترليني

ورحلة الجنيه المصري المثيرة مع التعويم تمتد إلى أكثر من 75 عاماً تحديداً في عام 1947 عندما انفصل رسمياً عن الجنيه الاسترليني متحرراً بشخصية مستقلة، فقبل ذلك، كان خاضعاً للسيطرة البريطانية للحد الذي كان يطبع الجنيه المصري في البنك الأهلي المصري (أول بنك وطني مصري أسس عام 1898) تحت إشراف بنك لندن المركزي.

وعلمياً، تعويم سعر صرف الجنيه هو أسلوب في إدارة السياسة النقدية، وذلك يعني أن يترك البنك المركزي سعر صرف عملة ما ومعادلتها مع عملات أخرى يتحدد وفقاً لقوى العرض والطلب في السوق النقدية، وتختلف سياسات الحكومات حيال تعويم عملاتها تبعاً لمستوى تحرر اقتصادها الوطني وكفاية أدائه ومرونة جهازها الإنتاجي.

أنواع التعويم

وتضم سياسة التعويم نوعين، الأول هو "التعويم الحر" ويعني أن يترك البنك المركزي سعر صرف العملة يتغير ويتحدد بحرية مع الزمن بحسب قوى السوق والعرض والطلب، ويقتصر تدخل البنوك المركزية في هذه الحالة على التأثير في سرعة تغير سعر الصرف، وليس الحد من ذلك التغير، ويتم الاعتماد على هذا النوع من التعويم في الدول الرأسمالية الصناعية المتقدمة، مثل الدولار الأميركي والجنيه الاسترليني والفرنك السويسري، لكن لا يكون مجدياً أو يمكن الاعتماد عليه في حالة الجنيه المصري الذي يعاني أمراضاً مزمنة أبرزها عجز ميزان المدفوعات وتراجع رصيد الاحتياطي النقدي الأجنبي وزيادة الديون السيادية.

وأظهرت بيانات البنك المركزي المصري زيادة في قيمة الدين الخارجي لمصر بنحو 12.3 مليار دولار في الربع الأول من العام الحالي، مقارنة بما كان عليه في نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2021 بنسبة زيادة 8.5 في المئة، مسجلاً 157.8 مليار دولار في نهاية مارس الماضي، في مقابل نحو 145.5 مليار دولار في نهاية ديسمبر 2021 .

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

والنوع الثاني من التعويم هو "التعويم المدار"، ويقصد به ترك سعر الصرف يتحدد وفقاً للعرض والطلب مع تدخل البنك المركزي كلما دعت الحاجة إلى تعديل هذا السعر مقابل بقية العملات، وذلك استجابة لمجموعة من المؤشرات مثل مقدار الفجوة بين العرض والطلب في سوق الصرف، ومستويات أسعار الصرف الفورية والآجلة، والتطورات في أسواق سعر الصرف الموازية.

45 عاماً من التعويم

ومحاولات تعويم الجنيه المصري تمتد إلى أكثر من 45 عاماً، ولأن العوامل المؤثرة لا تتغير، فمع ارتفاع عجز ميزان المدفوعات آنذاك وارتفاع عجز الموازنة وزيادة الديون، لجأت الحكومة المصرية إلى صندوق النقد الدولي، فوقف نائب رئيس الوزراء المصري للشؤون المالية والاقتصادية عبدالمنعم القيسوني، في فترة حكم الرئيس الراحل أنور السادات، ليلقي خطاباً أمام مجلس الشعب المصري في يناير (كانون الثاني) عام 1977، معلناً عن حزمة من القرارات الصعبة أطلق عليها هو آنذاك (الحاسمة والضرورية) تهدف إلى خفض العجز في ميزان المدفوعات، ومن ثم استقرار سعر صرف الجنيه أمام الدولار، بالتالي، تقليل عجز الموازنة العامة، وذلك حتى تستطيع مصر إبرام اتفاق مع صندوق النقد والبنك الدوليين لتدبير موارد مالية كافية.

وتضمن خطاب القيسوني قرارات تهدف إلى رفع الدعم عن مجموعة من السلع الأساسية، وصلت إلى 30 سلعة ضرورية لحياة المصريين، مثل الخبز والسكر والأرز وزيت الطهي والشاي والبنزين واللحوم، وذلك بنسب وصلت إلى 50 في المئة تمهيداً لخفض قيمة الجنيه المصري أمام الدولار الأميركي بعد أن وصلت الديون السيادية في نهاية عام 1977 إلى 8.1 مليار دولار، بلغت مع نهاية حكم السادات 1981، 14.3 مليار دولار.

ومحاولات حكومة السادات باءت بالفشل بعد أن خرج آلاف المصريين إلى الشوارع رفضاً لتلك القرارات وهو ما أطلق عليها إعلامياً "انتفاضة الخبز"، في المقابل أطلق عليها السادات "ثورة الحرامية".

وأبرز تقرير صادر عن البنك الدولي في ديسمبر عام 1980 انخفاض سعر صرف الجنيه المصري أمام الدولار الأميركي بنسبة كبيرة بلغت 70 قرشاً للدولار تقريباً أو 1.43 دولار للجنيه.

مبارك والتعويم... الدولار يتجاوز الجنيه للمرة الأولى

ومرحلة جديدة للجنيه المصري لم تكن أفضل حالاً إذ بدأت مع تولي الرئيس الراحل حسني مبارك الحكم عقب اغتيال السادات في ظل ظروف اقتصادية سيئة، فبعد الاغتيال تراجعت مصادر تدفق النقد الأجنبي بصورة كبيرة، وضربت حال من الركود الاقتصاد المصري، الأمر الذي أثر في قيمة الصادرات المصرية، وارتفعت خدمة الديون بسبب المديونية الكبيرة التي مني بها الاقتصاد في نهاية عصر السادات، كما أن المنح التي كانت تقدمها الدول العربية لمصر توقفت بعد توقيع اتفاق السلام مع إسرائيل بنهاية عقد السبعينيات.

وأشار تقرير البنك الدولي بعنوان "الموقف الاقتصادي الحالي وبرنامج الإصلاح الاقتصادي لمصر" الصادر في 1986 إلى انهيار الجنيه المصري أمام الدولار لمستويات قياسية إلى 93 قرشاً لكل دولار نتيجة العجز الكبير في ميزان المدفوعات آنذاك حتى ارتفع من 1.7 مليار دولار بداية حكم مبارك إلى 2.5 مليار دولار عام 1986، ومع نقص تدفق النقد الأجنبي، كان لا بد من الاستدانة من جديد لتغطية هذا العجز، إذ بلغ إجمالي المديونية الخارجية بجميع أنواعها نحو 45 مليار دولار عام 1986 وتجاوز الدولار الأميركي الجنيه المصري للمرة الأولى في التاريخ في عام 1990 عندما انخفضت العملة المصرية بمقدار النصف تقريباً لتسجل 1.5 جنيه لكل دولار، ليبدأ فاصل جديد تاريخي بين العملتين.

وبعد مرور 26 عاماً على أولى محاولات التعويم، عادت الحكومة المصرية، في عام 2003، بعد أن تداعى جسد الاقتصاد المصري من جديد للأمراض المزمنة نفسها: عجز ميزان المدفوعات وتآكل الاحتياطي النقدي وزيادة الديون، ليقرر رئيس الوزراء الأسبق عاطف عبيد، في عهد مبارك، في 29 يناير 2003، تعويم الجنيه المصري وفك ارتباطه بالدولار الأميركي، وترك المعاملات المالية لسوق العرض والطلب، مبرراً قراره حينها أيضاً، بمحاولة خفض العجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات، وتحقيق توازن بين العرض والطلب في السوق النقدية، بزيادة المعروض من الدولار والعملات الأجنبية الأخرى وتحقيق توازن بين العرض والطلب بزيادة المعروض من الدولار والعملات الأجنبية الأخرى.

وصاحب التعويم الثاني هبوط تاريخي، إذ إن سعر الدولار، قبل يناير 2003، كان 3.70 جنيه، وزاد على أثر تعويم الجنيه إلى 5.35 جنيه، وخلال أشهر ارتفع سعر العملة الخضراء في السوق الرسمية من 5.86 جنيه في العام نفسه، ثم زاد إلى 6.19 في عام 2004، وبدأت في تلك الفترة تستفحل السوق السوداء (السوق الموازية لتبادل العملات) ليسجل بتلك الأسواق غير الرسمية سبعة جنيهات في منتصف 2003، وعلى رغم ارتفاع حصيلة الصادرات إلى 8.2 مليار دولار من 7.1 مليار دولار، فإنه في المقابل وصلت مستويات التضخم إلى معدلات قياسية مرتفعة من 2.9 في المئة عام 2003 إلى 17.3 في المئة، في العام التالي.

قرارات مارس الاستثنائية

وبعد 13 عاماً وفي خميس آخر، في الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2016، أعلنت حكومة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي تعويم الجنيه للمرة الثالثة مجدداً، في ظل تراجع رصيد الاحتياطي إلى أدنى مستوى تاريخي، عندما سجل في يوليو (تموز) 2016 نحو 15.53 مليار دولار، تزامناً مع مفاوضات مع صندوق النقد الدولي أيضاً، وخفض البنك المركزي المصري قيمة الجنيه بنحو 48 في المئة ليصعد من ثمانية جنيهات لكل دولار قبل القرار إلى 13 جنيهاً مقابل كل دولار.

واختلف اليوم ولم يتغير القرار، فبعد ست سنوات، عادت الحكومة المصرية إلى التعويم مجدداً في اجتماع استثنائي للبنك المركزي المصري، في 20 مارس 2022، وبالوتيرة نفسها، وبعد رفع أسعار الفائدة بمقدار واحد في المئة، هوت قيمة العملة المصرية بأكثر من 18 في المئة، ليسقط الجنيه من 15.5 جنيه لكل دولار مسجلاً 18.50 جنيه مقابل كل دولار بعد قرارات مارس الاستثنائية.

التعويم الخامس

والخميس الماضي كان التعويم الخامس في تاريخ مصر، وفي مساء خميس آخر، دخل الجنيه المصري محطة التعويم الخامسة في تاريخه بعد حصول القاهرة على قرض جديد من صندوق النقد الدولي بشكل مباشر، عندما هبط رصيد الاحتياطي النقدي الأجنبي إلى نحو 33 مليار دولار وارتفع عجز الميزان التجاري غير البترولي حتى مارس 2022 ليصل إلى نحو 37.7 مليار دولار، مقابل نحو 30.7 مليار دولار خلال الفترة المناظرة من العام السابق وفقاً لبيانات البنك المركزي المصري.

ويترقب المصريون ماذا يجري غداً بعد أن واصل الدولار الأميركي سطوته وهيمنته على الجنيه المصري، وهو ما يدفع أسعار السلع والمنتجات إلى الغليان وارتفاع مؤشرات التضخم وانخفاض القوة الشرائية للجنيه المصري.