Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مارسيل بروست أبدع فنا جديدا في الكتابة الروائية والقراءة

فرنسا تحتفل بالذكرى المئوية لرحيل رمزها الذي تتباهى به عالمياً حيال دانتي وثربانتس وشكسبير

مارسيل بروست الروائي صاحب ملحمة "البحث عن الزمن الضائع" (متحف بروست)

يفاجئنا مارسيل بروست حتى يومنا هذا، بأن السرعة المدوخة التي يهرول بها زمننا الراهن، لم تنل قيد أنملة، من قدرتنا على استطعام حلاوة البطء، بل لعلها زادت أحوال التذوق تعطشاً أو ارتشافاً، مصحوباً بتلك الرغبة في إغماض العينين للقبض على اللحظات المنفلتة، خالصة نقية من كل هذا الضجيج الفارغ. شعور كهذا سنظل ندين به لبروست، فلولاه لظننا أننا بتنا جزءاً من عالم رقمي، يتخذ من السيولة واللهاث والاستعراض المبتذل شعاراً له.

صاحب الرواية الواحدة

في بحثه عن "الزمن المفقود" استغرق بروست ما يقارب الأربعة عشر عاماً، كان يواصل خلالها الكتابة ليل نهار، بكدٍ لا يعرف الهوادة، حتى وقت وفاته بالتهاب رئوي في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) 1922 عن عمر يناهز الخمسين. ولو توخينا الدقة، وأنعمنا النظر في أعماله كافة، لاستنبطنا بأريحية تامة، أن روايته الأطول في تاريخ الأدب، استنفدت عمره بأكمله، فما جاء قبلها كان مجرد توطئة وإن اتخذ شكل أعمال قائمة بذاتها، وما اكتشف بعدها، ليس إلا بذوراً استنبتت من أجلها.

في عام 2018 أعلنت دار غاليمار عن نشر مجلد قصير بعنوان "الخمس والسبعون صفحة" كتبه بروست بين عامي 1907 و 1908، أي قبل وفاته بـ14 عاماً. كانت الإشاعات عن وجوده رائجة منذ عقود، لكن المخطوطة دُفنت ضمن وثائق تركها الناشر برنار دو فالوا الذي توفي عام 2018، للمكتبة الوطنية الفرنسية، المعروفة أيضاً باسم مكتبة فرانسوا ميتران. تحتوي الصفحات الخمس والسبعون على صيغ جنينية لبعض أهم موضوعات عمله الخالد، بما في ذلك الهوية اليهودية والرغبة الجنسية. وصف فالوا الصفحات الخمس والسبعين بأنها "دليل ثمين" لفهم "البحث عن الزمن المفقود" و"سجل إبداعه" الذي يتضمن ست حلقات، كان بروست سيعمل على تطويرها ليدرجها ضمن أعماله المنشورة.

لمرات كثيرة تكشف مراسلات بروست عن حكمه الجائر على تلك الكتابات المبكرة حتى أن قال عنها "هذه الصفحات ليست سوى زبد عقيم لحياة مضطربة ولكنها هدأت. علها تكون ذات يوم رائقة بما فيه الكفاية، لتتكرم ربات الفن بإنعام النظر في قدودهن في مرآتها، وكي نرى على صفحتها انعكاس ابتساماتهن ورقصاتهن". وأعرب عن امتعاضه من الغلطة الشبابية التي ارتكبها في كتابه "المسرات والأيام" الصادر عام 1886 وهو في سن الرابعة والعشرين، لكنها كانت "غلطة سعيدة" كما يقول القديس أوغسطينوس، إذ كان هذا الكتاب الرشيم الأول لسباعيته "البحث عن الزمن المفقود".

لقد كان المشروع البروستي بأكمله، انعكاساً لا مثيل له لطبيعة الزمن. كما يؤكد هذا الكنز الأدبي، الذي تظهر فيه بواكير ارتباط الأدب عند بروست بالتصوير والموسيقى، كثالوث لا يمكن فصم عناصره الثلاثة.  هكذا عمل بروست بقلق شديد على مشاهد ماضيه بهدف التقاط النسيج الغامض والمراوغ لزمن عاشه، وهو ما ألمح إليه ذات مرة: "أنا مثل شخص لديه نسيج كبير جداً على جدران غرفته واضطر إلى تقطيعه".

الفردوس المفقود

بغية فهم دوافع بروست للبحث عن فردوسه المفقود والذي لا سبيل إلى استعادته إلا باقتفاء أثره واقتناصه بين دفتي كتاب، كما أسفرت نتيجة بحثه، يجدر بنا التوقف عند افتتاح النص المؤلف من مليون ونصف مليون كلمة، على مشهد بروست القارئ المحموم الذي سقط في النوم من دون أن يعي وضعيته، ويعتقد وهو بين النوم واليقظة، أن عليه إلقاء الكتاب من يديه وإطفاء شمعته كي يخلد إلى النوم: "إذ إني ما كففت في نومي عن التفكير في ما قرأت منذ قليل، ولكن هذه الأفكار أخذت مجرى خاصاً بعض الشيء، فبدا لي أنني أنا نفسي، ما يتحدث عنه الكتاب". ما يعني أن فعل القراءة لم يتوقف حتى في سباته، وعيناه المغمضتان لا تزالان تلاحقان النص بالحماسة نفسها داخل الحلم.

وُلد بروست في العاشر من يوليو (تموز) 1871، في قرية أوتيل الباريسية أثناء العنف الذي أحاط باريس، وهو ما يتردد صداه في "البحث عن الزمن المفقود" من خلال الكثير من التغيرات الهائلة التي طرأت على بلده، وعلى الأخص تراجع الطبقة الأرستقراطية وصعود الطبقات الوسطى. والده، أدريان بروست، كتب مقالات وبعض الكتب الطبية. أما والدته؛ جين كليمنس، المنحدرة من أصول يهودية فهي من أثارت شغفه بالقراءة منذ أن كان طفلاً. لطالما استلقت جواره في حالات أرقه المتكررة، تحيطه بذراعيها بينما تقرأ له، إلى أن ينام أميرها الصغير، حتى بدا له عالم الخيال أكثر امتلاءً من أرض الواقع. بوسعنا أن نتتبعه جوار المدفأة في غرفة الطعام غائصاً في كنبة عليها مسند رأس مخرم، وغارقاً في كتابه. وأحياناً في سريره يعاود إشعال شمعته، حالما ينام الجميع معرضاً نفسه للعقاب إذا ما انكشف أمره، وللأرق الذي يمتد بمجرد انتهاء الكتاب لإيقاف هذا السباق المحموم بالعينين والصوت الصامت، غير متوقف إلا لكي يسترجع أنفاسه مع تنهيدة عميقة. أو أن نتتبعه أيضاً، مختلياً بنفسه في الحديقة العامة حيث يتناهى إليه قرع أجراس الكنيسة، خفيفاً ناعماً لا ليخاطبه وحده، بل ليخاطب الريف بأكمله والقرى كلها والفلاحين المعزولين في حقولهم، والذي لم يكن ليدفعه إلى رفع رأسه عن صفحة كتابه، بل يمر بالقرب منه حاملاً الزمن إلى بلاد بعيدة من دون أن يراه أحد أو أن يعرفه أو أن يزعجه.

يقول في كتابه "أيام القراءة": قد لا يكون في طفولتنا أيام عشناها بامتلاء غير تلك التي كنا نعتقد أننا تركناها من دون أن نعيشها، تلك التي قضيناها برفقة كتابنا المفضل". وعبر صفحات هذا الكتاب القصير نسبياً، يسرد بروست تفاصيل تلك الأوقات بطريقته المذهلة، وجمله الطويلة الأفعوانية التي ستصل إلى قمة نضجها في الزمن المفقود. يصف جمال شحيد النص البروستي قائلاً: "هل نستطيع ترجمة بروست إلى العربية ترجمةً ناصعة؟ أجرؤ على تأكيد ذلك، لا سيما أن فضاءه الروائي تقاطَع كثيراً مع الفضاء الشرقي. ومع ذلك اعترضتْني صعوباتٌ عدة في أثناء ترجمته. كنتُ أقع أحياناً على جمل طويلة تبلغ 35 سطراً، فأحار في البداية من أين أبدأ".

القراءة بالنسبة لبروست هي المحرض الذي تفتح مفاتيحه السحرية في أعماقنا، أبواب مساكن لم نعرف الدخول إليها. إنها الصداقة الصادقة المتحررة من كل ما يصنع القبح في الآخرين. مناخها هو الصمت الأنقى من أي كلام. يرى بروست أن بوسع القراءة أن تصبح وسيلة للشفاء، إذ تتولى عبر تشويق متكرر مسؤولية إعادة إدخال عقل كسول إلى عالم الروح، وهنا يقوم الكتاب بدور الطبيب النفسي إزاء بعض النوبات العصبية، مستدلاً بنماذج من الكتاب مثل إمرسون الذي قلما كان يشرع في الكتابة قبل أن يعيد قراءة بضع صفحات من أفلاطون، وكذلك دانتي الذي لم يكن الشاعر الوحيد الذي قاده فرجيل إلى عتبة الفردوس.

البطل المثالي لعصر العزلة

مع وصول "كوفيد 19"، وما ترتب عليه من إغلاق أبوابنا بإحكام، افتقرنا إلى مصادر الإلهاء المعتادة، ووجد البعض في القراءة المتأنية وسيلة للاستغراق في الخيال بعيداً من الواقع المفزع. في تلك اللحظة المصيرية برز بروست ليتصدر قائمة الأكثر مبيعاً، ولا عجب في ذلك، فمن غير قديس التأمل يمكن أن يكون البطل المثالي عصر العزلة؟

يقول الناقد الفرنسي جان إيف تادييه المشرف على نشر أعماله: "لطالما قيل إن لإنجلترا شكسبير ولألمانيا غوته ولإيطاليا دانتي، بينما فرنسا ليس لديها من يضارعهم، ولكن ما يدعو للظن بأن لها الآن وبأن لها غداً، مارسيل بروست نظراً لعدد الدراسات التي خُص بها".

في السنوات الأخيرة من حياته، كانت صاحبة المنزل ترغب في بيعه، وكان عليه أن يدفع الإيجار الذي تراكم عليه لثلاثة أعوام. وبسبب القلق الذي كان يعاني منه، كان يشرب كميات رهيبة من القهوة حتى يتجاوز العشرين فنجاناً أحياناً. ثم ازدادت الظروف سوءاً عندما اضطر إلى ترك بيته القديم ليسكن في شارع صاخب ضاعف من مرضه وخوفه من الموت. ولسوء حظه، كان جيرانه يؤرقونه ليلاً ونهاراً بصراخهم حتى أنه كان يعتقد أن هناك رجالاً ونساءً "يذبحون من الوريد إلى الوريد". لكنه ظل منكباً على نصه المترامي الأطراف، ونادراً ما كان يخرج من شرنقة غرفة نومه. يصفه أحد كتاب سيرته الذاتية وهم كثر، بأنه يكتب "من وضع شبه راقد، معلقاً في منتصف الطريق بين عوالم النوم واليقظة مستخدماً ركبتيه كمكتب".

مدينة تنتقل من سماء الخيال إلى أرض الواقع

في سن التاسعة، أصيب بروست بأول نوبة ربو خطيرة، وقضى عطلات طويلة في قرية إيليير الواردة في "الزمن المفقود" باسم كومبرايه. وعلى رغم أن كومبرايه مدينة خيالية اخترعها بروست، فهي تحمل آثار طفولته في إيليير. في عام 1971، بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد بروست، غيرت بلدة إيليير الصغيرة، في خطوة تسويقية رائعة، اسمها رسمياً إلى إيليير-كومبرايه. قد يكون هذا مثالاً فريداً لمدينة حقيقية استمدت اسمها من عمل خيالي، وكذلك أهل إيلير الذين أصبحوا بروستيين لدرجة أنهم يحاولون جميعاً أن يعيشوا مثل شخصيات روايته.

عام 2020، حصلت المكتبة الوطنية الفرنسية على مخطوط الرواية المعقدة، كان في حوزة الناشر برنار دو فالوا الذي تسلمه من ابنة أخت بروست، سوزي مانتي بروست، بغرض فرز جبال الورق التي تركها عمها. يوضح غيوم فاو، رئيس قسم المخطوطات المعاصرة في المكتبة: "لقد ألمح إليها فالوا في بعض تصريحاته، مما جعلنا نعرف بوجود هذه المخطوطة، لكنها لم تنشر قط". الكنز الذي كان مخفياً في يوم من الأيام عُهد به الآن إلى فريديريك بيليتير، أخصائي ترميم، يخطط للصق قطع من الورق الياباني البالغ الخفة على الصفحات التالفة. لكن عملية الاستعادة كما يصفها شاقة جداً، إذ يستغرق الأمر ما يصل إلى سبع ساعات لاستعادة صفحة واحدة. وهو ما تجتهد مكتبة فرنسا الوطنية، للاستفادة منه بعرض المخطوط بعد ترميمه بالكامل في الذكرى المئوية لوفاة بروست.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بهذه المناسبة أيضاً، افتتح معرض جديد في باريس لتقصي العملية الدقيقة التي أنتج من خلالها بروست روايته الضخمة، ويعرض ما يقرب من 350 مادة، بما في ذلك وثائق لم يسبق نشرها، ومخطوطات، وصور، ولوحات، وأشياء، وأزياء تتبع وتوضح العملية الإبداعية لبروست، في الوقت الذي كان يكتب فيه من أواخر القرن التاسع عشر حتى وفاته في عام 1922. كان بروست يفضل الكتابة بقلم حبر في السرير، وقضى السنوات الثلاث الأخيرة من حياته حبيس غرفة نومه، ينام بالنهار ويعمل طوال الليل. من بين أكثر المعروضات الاستثنائية في المعرض، العديد من الدفاتر التي ملأها بخط غير مقروء تقريباً، وعشرات الصفحات من المخطوطات المكتوبة بخط اليد، بالإضافة إلى مسودات الناشر المليئة بعلامات التحرير والتعليقات التوضيحية والمراجعات التي تكشف عن كاتب يتحرى الكمال. ولذلك حرص على تحرير أعماله ومراجعتها بنفسه، فقد كان يتوخى الدقة لدرجة الإعياء من أجل كلمة واحدة، وحتى الجملة الأولى الشهيرة من الجزء الأول من سباعيته، "كثيراً ما آويت إلى سريري في ساعة مبكرة" كتبها بروست، ثم فكر، وشطبها، ثم أعاد التفكير، وكتبها مرة أخرى ونهائية، لتستقر في ذهن قرائه إلى الأبد.

قبل موته بقليل، نهض بروست من فراشه ليلقي نظرة أخيرة على لوحته المفضلة؛ "منظر ديلفت" للرسام الهولندي فيرمير، على رغم هزاله الشديد وإدراكه أن مجرد نهوضه عن فراشه مخاطرة لا تحمد عقباها، لكنه أبى أن يرحل عن هذا العالم إلا بمشهد جميل يحمله معه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة