Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

موسكو إلى أحضان آسيا الوسطى فهل تعيد ما فات؟

مشاركة بوتين في منتدى الأستانة تشير إلى تغير في توجهات روسيا نحو إعادة ضبط العلاقات ومواجهة مطامع أميركا

قمة أستانا التي جمعت بوتين مع نظرائه من رؤساء بلدان آسيا الوسطى واتفقوا فيها على تجاوز العراقيل أمام عودة العلاقات إلى طبيعتها (أ ف ب)

بعد سلسلة من التصريحات والتصريحات المضادة التي صدرت عن رؤساء عدد من بلدان آسيا الوسطى، وحملت بين طياتها ما هو أشبه بـ"عتاب الأصدقاء"، شد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الرحال إلى عاصمة كازاخستان أستانا، للمشاركة في قمة "روسيا – بلدان آسيا الوسطى"، في توقيت مواكب لانعقاد القمة السادسة لمؤتمر التفاعل وتدابير بناء الثقة في آسيا، وعلى رغم أن بوتين أجرى زيارات مماثلة للأستانة وغيرها من عواصم بلدان آسيا الوسطى، إلا أن هذه الزيارة اتسمت بمذاق خاص على ضوء ما سبق وصدر بحق بلاده من انتقادات سبق وأشارت "اندبندنت عربية" إليها في أكثر من تقرير.

وثمة شواهد تقول إن زيارة بوتين وما أدلى به من تصريحات خلالها تقول بتغير في توجهات موسكو يمكن أن تكون أقرب إلى تصحيح مسارات استراتيجيتها ليس فقط اتجاه هذه البلدان، بل واتجاه كل المنطقة بما يتسق ومتغيرات الأوضاع الجيوسياسية الإقليمية والدولية، وذلك ما كشفت عنه متغيرات في خطاب رؤساء هذه البلدان ومواقفها التي تجنح في بعض جوانبها، على رغم ذلك، نحو تعاون مباشر وغير مباشر مع الولايات المتحدة الأميركية، ومنه ما تمثل في مناورات عسكرية مشتركة جرت في طاجيكستان تحت إشراف القيادة الوسطى لقوات الولايات المتحدة، في توقيت بالغ الحرج يشهد مشاركة غير مباشرة من جانب هذه القوات في الحرب الروسية - الأوكرانية.

ومن اللافت في هذا الصدد أن ما أفصح عنه رئيسا كازاخستان وطاجيكستان، من انتقادات لأساليب تعامل موسكو مع رفاق الأمس واليوم في هذه المنطقة، جاء في أعقاب سلسلة من التحركات الأميركية التي سبق ونجحت في زعزعة استقرار الاتحاد السوفياتي السابق، وأسهمت بنهاية المطاف في "انهياره" عام 1991.

مواجهة أميركا

ويذكر التاريخ أن الولايات المتحدة لم تكتف بذلك الانهيار، بل ومضت إلى ما هو أبعد، بمحاولات لتقسيم روسيا من خلال تأجيج الحركات الانفصالية في شمال القوقاز، ومنطقة الأورال منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، لتنتقل لاحقاً إلى مسلسل الثورات الملونة، وكانت ثورات "الورود" في جورجيا عام 2003، و"الثورة البرتقالية" في أوكرانيا 2004، و"ثورة السوسن" في قيرغيزستان 2005، مقدمة لتحركات لاحقة شملت كلاً من أوزباكستان وقيرغيزستان وكازاخستان، وذلك كله ما أوجزه الرئيس الروسي في قوله "إنهم قسمونا، ثم عادوا ليؤججوا مشاعر العداء بين بعضنا بعضاً".

وقد يكون من المناسب في هذا الشأن تذكر القول الاستعماري القديم "فرق تسد"، لتوضيح ما تحرص الولايات المتحدة على ممارسته في هذه البقاع، من خلال ما جرى تشكيله من منظمات للمجتمع المدني وما منحته وتمنحه من منح دراسية، آتت أكلها في ما عاد إلى جمهوريات آسيا الوسطى من شباب جرى تدريبه وتثقيفه على النحو الذي كاد يعصف بكثير من علاقات روسيا مع بلدان هذه المنطقة، على غرار ما جرى إبان تلك الأحداث التي جرت في كازاخستان في مطلع يناير (كانون الثاني) الماضي.

وذلك ما كشف عن كثير من جوانبه، منتدى خبراء روسيا وبلدان آسيا الوسطى الذي نظمته كازاخستان في أعقاب القمة السادسة لمؤتمر "التفاعل وتدابير بناء الثقة في آسيا" أكتوبر (تشرين الأول)، في إطار الذكرى الثلاثين لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين روسيا وبلدان آسيا الوسطى، ففي هذا المنتدى بدا ما يشبه الإجماع حول ضرورة العمل من أجل تجاوز ما يطرأ على مسيرة التعاون المشترك من عقبات وعراقيل انطلاقاً من ضرورة تصحيح مسارات العلاقات واستجابة لمطالب "إعادة ضبط علاقات روسيا مع دول آسيا الوسطى"، على النحو الذي يمكن أن يكون بمثابة الاستجابة من جانب روسيا لما أبداه كل من رئيس كازاخستان وطاجيكستان من ملاحظات حول هذه العلاقات.

ويذكر المراقبون في هذا الصدد "صرخة" رئيس طاجيكستان إمام علي رحمان في كلمته التي ألقاها في قمة "روسيا -بلدان آسيا الوسطى"، حول أن بلاده تطالب بـ"معاملة أكثر احتراماً" من جانب المسؤولين الروس، وذلك ما عكسته كثير من كلمات ومواقف خبراء بلدان آسيا الوسطى في منتدى أستانا، ومنها ما قاله يركين توكوموف مدير المنتدى ممثلاً لكازاخستان، حول أن العالم يمر بتحولات عالمية تقتضي ضرورة سرعة التكيف معها، في إطار ما تبحث عنه شعوب المنطقة من مكان لائق لها في هذا العالم، وهي التي تشكل نسبة 60 في المئة من سكان العالم يعيشون في آسيا.

واستعرض الخبير الكازاخستاني مسيرة تعاون بلاده مع روسيا خلال الفترة القليلة الماضية، بما يؤكد أن موسكو تظل الشريك التجاري الأول لكازاخستان على رغم ما تفرضه سياسات العقوبات من قيود وعراقيل، ونقلت صحيفة "كومسمولسكايا برافدا" الروسية ما قاله الخبير الكازاخستاني فياتشيسلاف دودونوف حول أن الأشهر الثمانية الماضية من هذا العام شهدت زيادة في نمو نسبة التجارة بين البلدين حتى 4.4 في المئة، بينما ارتفعت نسبة صادرات السلع الكازاخستانية إلى روسيا حتى 8.6 في المئة، والواردات من روسيا بنسبة 2.6 في المئة.

استثمارات مشتركة

أما عن الاستثمارات المشتركة، فقال دودونوف إن بيانات النصف الأول من عام 2022 في شأن الاستثمار المتبادل تظهر "تقدماً أكثر وضوحاً"، مؤكداً زيادة نسبة الاستثمارات الروسية حتى 30 في المئة، بينما ارتفعت نسبة الاستثمارات الكازاخستانية حتى 24 في المئة. وخلص دودونوف إلى القول إنه بحسب نتائج النصف الأول من العام، فقد تجاوز حجم الاستثمارات المتراكمة من روسيا 22 مليار دولار، مما يؤكد حقيقة أن موسكو احتلت للمرة الأولى المركز الثالث بين المستثمرين الأجانب في كازاخستان، دون أية إشارة إلى الصين التي تظل في صدارة القوى المؤثرة اقتصادياً وسياسياً في كثير من سياسات بلدان آسيا الوسطى دون أية إعلانات زاعقة أو صارخة.

ولم تكن الإنجازات الاقتصادية الروسية مع بلدان آسيا الوسطى لتتحقق دون مناخ سياسي مناسب، ليس فقط مع كازاخستان، بل وأيضاً مع أوزباكستان التي سبق واستضافت قمة سمرقند، حيث كشفت عن أعلى مستويات المكاشفة والمصارحة بين البلدان المشاركة في القمة.

وذلك ما أكده أنفار ناصروف مدير المعهد الدولي لآسيا الوسطى في أوزباكستان، الذي قال في كلمته بمنتدى أستانا إن "البشرية تواجه في العصر الراهن تغيرات جيوسياسية خطيرة، ومنها ازدياد انعدام الثقة بين الدول، وتنامي العسكرة، وعنصر القوة في العلاقات الدولية، بما يفسر تحول قضايا ضمان السلام والاستقرار والنمو الاقتصادي لتصبح أكثر أهمية من أي وقت مضى"، وذلك ما قد يفسر أيضاً تزايد أهمية بلدان آسيا الوسطى على خريطة جدول الأعمال الإقليمي، وقد تجلى ذلك في ما تلتزم به الأوساط الدولية من مواقف موحدة لدول هذه المنطقة في إطار الأمم المتحدة ورابطة بلدان الكومنولث، ومنظمة شنغهاي للتعاون.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن اللافت في هذا الصدد وعلى غير ما كان متوقعاً، أن اليابان كانت من أوائل الدول التي اعترفت بواقع أن بلدان آسيا الوسطى صارت كياناً أقرب إلى الكيان الموحد، ودعت عام 2004 إلى اجتماع وزير خارجيتها مع نظرائه بهذه البلدان، في إطار ما سمته "5+1"، وهو ما أعقبته كوريا الجنوبية باجتماع مماثل جرى في الإطار ذاته "5+1"، في 2007، ثم الاتحاد الأوروبي 2007، ثم الولايات المتحدة 2015، قبل الهند في 2019.

وكان من الغريب أن تتخلف كل من الصين وروسيا عن مثل هذا الإطار في تعاملاتها مع بلدان آسيا الوسطى، حيث لم تعقد الصين مثل هذا الاجتماع إلا في 16 يوليو (تموز) 2020، قبل أن تتخذ موسكو مثل هذا القرار باجتماع لسيرجى لافروف وزير الخارجية الروسية مع نظرائه في بلدان آسيا الوسطى أكتوبر (تشرين الأول) 2020.

وعلى رغم ذلك فإن الصين وروسيا تظلان أهم الشركاء الاستراتيجيين لبلدان آسيا الوسطى من واقع القرب الجغرافي والتاريخ المشترك، والمصالح الاقتصادية التي تقف وراء كثير من الخطوات والقرارات بدعم من منظمات إقليمية ودولية في مقدمها "منظمة شنغهاي للتعاون".

 وفي هذا الصدد يتساءل كثيرون عن احتمالات المنافسة والصراع بين هذين القطبين في آسيا الوسطى، وهو ما يظل إلى حد كبير لغزاً يستعصي على الحل، إذ إن الواقع الراهن يحمل بين ثناياه كثيراً من مؤشرات المنافسة غير المعلنة، والتضارب في المصالح، لا سيما في ما يتعلق بالقضايا الجيوسياسية، ومنها ما يتعلق بعلاقات كل منهما مع بلدان آسيا الوسطى، وكذلك بالطريق البحري الشمالي.

ويبدو حرص العاصمتين موسكو وبكين واضحاً على التمسك بما يجمعهما بعيداً مما يمكن أن يكون سبباً في تفرقتهما، في مواجهة الولايات المتحدة التي لا تخفي مطامعها في المنطقة، وإن كان ذلك لم يمنع الصين من الوقوف على الحياد في عديد من مواقف روسيا ومنها ما يجرى اليوم من صراع مسلح على صعيد الأزمة الأوكرانية، بما في ذلك ما يتعلق بضم القرم، والمناطق "الأوكرانية السابقة" الأربع التي أعلنت في سبتمبر (أيلول) الماضي انضمامهما إلى روسيا.

تعاون اقتصادي

وبالعودة إلى منتدى أستانا نجده ركز أكثر على علاقات روسيا مع بلدان المنطقة لا سيما ما يتعلق منها بالتعاون الاقتصادي، ومن هذا المنظور، ومن واقع ما تضمنته وثائق المنتدى فإن "آسيا الوسطى المستقرة أصبحت واحدة من أهم مراكز النمو الاقتصادي، فقد نما الناتج المحلي الإجمالي لبلدان المنطقة بنسبة 25 في المئة خلال السنوات الأربع الماضية وتجاوز 300 مليار دولار، وذلك ما أصبح عاملاً إيجابياً بالنسبة إلى روسيا التي كانت ولا تزال مهتمة بالتنمية المستقرة للدول التي تربطها بها علاقات سياسية ودبلوماسية وتجارية واقتصادية وتاريخية وثقافية وثيقة"، على حد تصريحات المصادر الروسية في أكثر من موقع ومناسبة.

ففي هذا المنتدى الذي شارك فيه رئيس كازاخستان قاسم توكاييف واتسمت أعماله بكثير من المصارحة والمكاشفة، توقف ألكسي بورودافكين سفير روسيا في كازاخستان عند الأهمية القصوى التي يجب أن توليها هذه البلدان لدور الشباب، وضرورة الحيلولة دون انجرافهم نحو ما وصفه بـ" طريق المواجهة وتدمير العلاقات الودية"، نتيجة "غسيل المخ من قبل مضايقينا" على حد تعبيره، وأضاف أنه "إذا اعترفنا اليوم جميعاً بأن روسيا و كازاخستان يمكنهما تحقيق أفضل النتائج بالشراكة مع بعضهما بعضاً على أساس التكامل، فيجب إذاً نقل هذا الموقف الأكثر أهمية بالكامل إلى الجيل الجديد حتى تترسخ في ذهنه ضرورة استمرار التعاون متبادل المنفعة بين بلدينا وبالطبع ليس على حساب استقلال وسيادة كل منهما".

وكانت أحداث يناير الماضي في كازاخستان شهدت كثير من مظاهر العداء لروسيا واللغة الروسية والتاريخ المشترك للبلدين ما كان سبباً في كثير من المشكلات التي نجح الرئيسان بوتين وتوكاييف في احتواء تبعاتها.

وكانت موسكو أعربت عن مخاوفها من ضياع كثير من علاقاتها التاريخية مع كازاخستان التي تمثل الأهمية الأكبر على خريطة الأوضاع الجيوسياسية في المنطقة بما تمتلكه من ثروات اقتصادية وثقل سياسي يسانده موقعها الجغرافي وعلاقاتها الدولية.

وعلى ضوء ما أعرب عنه رئيس كازاخستان من انتقادات وملاحظات على هامش مشاركته في منتدى سان بطرسبورغ الاقتصادي في يونيو (حزيران) الماضي، تلتزم موسكو كثيراً من الحذر تجاه ما يصدر عن مسؤوليها من تصريحات ومواقف كانت ضمناً وراء عدد من ملاحظات رئيس طاجيكستان إمام علي رحمان في قمة أستانا التي جمعت بوتين مع نظرائه من رؤساء بلدان آسيا الوسطى. ومن اللافت في هذا الشأن أن رئيس كازاخستان توكاييف كان قد عاد للتلميح إلى كل هذه القضايا في كلمته التي شارك بها في المنتدى الأخير لخبراء روسيا وبلدان آسيا الوسطى، بقوله "إن شراكتنا يجب أن تقوم على أساس التقيد الصارم بالمبادئ الأساسية للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة"، وأضاف "أن القضايا العالقة الخاصة بترسيم الحدود بين الدول المتجاورة يجب حلها بالوسائل السلمية حصراً، بروح الصداقة والثقة وحسن الجوار منذ قرون"، في إشارة إلى ما سبق وصدر من تصريحات في وسائل الإعلام الروسية حول أحقية روسيا التاريخية في كثير من الأراضي الشمالية لكازاخستان الحالية، وذلك كله ما تضعه موسكو اليوم في صدارة سياساتها التي لا تغفل أيضاً ما يجري من منافسة غير معلنة مع الصين، في وقت تظل كثير من سياساتها تجاه مستقبل العلاقات مع روسيا يكتنفها غموض كبير.

المزيد من تقارير