Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل تستحق "غارمات مصر" التبرع؟

فنانة شهيرة أثارت القضية بهجومها على "السجينات" والجهل بالقوانين والمبالغة في مستلزمات العروس متهمان رئيسان

انتشرت ظاهرة الغارمات في مصر وجمع التبرعات طوق نجاتهم حتى الآن (الصفحة الرسمية لمجلس الوزراء المصري على فيسبوك)

الغارمات في مصر قضية كان يعتقد الجميع أنها محسومة، فمن سيرضى بأن تقضي ربات البيوت عدة سنوات بالسجن، بسبب دين بمبلغ قد لا يتعدى 200 دولار أميركي، فقط لأنهن وقعن ضحية سلامة النية، وكل ما رغبن فيه هو سد احتياجات عائلاتهن، فقد جرى تقديم الأزمة بتلك البساطة التي تقترب من السطحية. ومن هنا انطلقت المبادرات المستمرة منذ أعوام للتبرع لسجينات ديون "أداء الواجب"، والواجب هنا في أغلب الأحوال هو شراء المستلزمات المنزلية لبناتهن المقبلات على الزواج.

تدريجياً بدأ الجمهور يستمع إلى آراء مختلفة، بعضها يتساءل عن جدوى التبرع لعائلة تشتري أجهزة منزلية فوق طاقتها من أجل التباهي أمام الأقارب والمعارف، بخاصة أن المبالغة في تجهيز الفتيات في مصر أمر شائع للغاية، ويزداد في المناطق الريفية والشعبية، حيث من المعتاد أن تقتني العروس أكثر من غسالة، وأكثر من جهاز تلفزيون، وعدد قطع هائلاً وغير منطقي من الملابس وأغطية السرير.

وفي حين يرحب المشاهير في الرياضة بالمشاركة في دعوات التبرع للغارمات لإخراجهن من السجون، إذ إن أغلبهن دخلن بسبب إيصالات أمانة بمبالغ بديون بسيطة في معظم الأوقات، خرجت الفنانة شيرين التي عرفت بدور الفتاة المدللة والمرفهة "لينا" في مسرحية "المتزوجون" مع سمير غانم في سبعينيات القرن الماضي، لتدلي برأي غير سائد ترفض فيه تماماً التبرع للغارمات، بسبب إقدامهن على التبذير وشراء مقتنيات ومستلزمات استهلاكية كثيرة بلا سبب، وكذلك مساهمتهن في تزويج بناتهن بشكل مبكر.

رأي غير مجامل وواقع معقد

المفارقة أن الفنانة التي لم تخش الصدام مع المجتمع ولا وابل الهجوم الذي لم ينقطع عبر السوشيال ميديا ممن يتهمونها بالانفصال عن الواقع والجحود والقسوة بحق فئة البسطاء، قالت كلماتها في حضرة نيفين القباج وزيرة التضامن الاجتماعي، التي ترعى كثيراً من المبادرات التي من شأنها أن تخفف عن كاهل الغارمات في السجون سواء بإيجاد طرق لإنقاذهن من المحنة وأيضاً البحث عن وسائل إدماجهن في المجتمع، ليتمكن من إيجاد مهنة تخلصهن من وصمة السجن، حيث جاء النقاش في ندوة على هامش مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط في دورته الـ38.

كما هو واضح فإن التركيز الأكبر على النساء المتورطات عن غير وعي في التوقيع على بياض، وبعضهن يكتفي بالبصمة من الأساس، نظراً إلى تدني مستوى تعليمهن، حيث يستغل التجار حاجتهن المادية ويقدمون لهن عرضاً، وهو إعطاؤهن المستلزمات بالقسط مع زيادة بنسبة معينة على السعر الأصلي، فيوافقن مضطرات وبعد تعثر السداد يجري تقديم المستندات الحاسمة والجازمة التي لا يوجد أمامها مفر من الإدانة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبحسب أحد العاملين في أحد تلك المحال التي تبيع أجهزة كهربائية منزلية وتقع في منطقة شعبية شديدة الكثافة، ويتمتع بإقبال كبير نظراً إلى قبوله بنظام التقسيط من دون وثائق ومستندات عدا بطاقة الهوية وضامن من المعارف، وهي تفاصيل سهلة للغاية، مقارنة بطرق الحصول على سلعة بالتقسيط أو قرض في المؤسسات المعتمدة، فإن إدارة المكان تشجع باستمرار الزبائن للشراء بتلك الطريقة، فالمكسب يكون أكبر، نظراً إلى ارتفاع سعر المنتج في حالة القسط الذي يشهد إقبالاً على أجهزة بعينها، وأبرزها شاشات التلفزيون والغسالات والثلاجات وغيرها.

ويؤكد الشاب الذي يدرس بالسنة النهائية بالجامعة ويعمل في مناوبات بشكل مؤقت لحين تخرجه، أن الشركة لديها فروع في أكثر من مكان، وأنهم ينذرون المتعثرين لعدة أشهر قبيل اتخاذ أي إجراء قانوني، ثم يبدؤون السيناريو المتكرر باللجوء إلى محامي المؤسسة.

ووفقاً لأكثر من مصدر فإن الإدارات في تلك المؤسسات بشكل عام تفضل أن يكون إيصال الأمانة باسم السيدة لا رب المنزل، لكي تكون ورقة ضغط في حالة عدم السداد، كون أغلب العائلات ستبذل قصارى جهدها لدفع المستحقات كي لا تصبح الأم أو الشقيقة الكبرى نزيلة أحد السجون على الرغم من أن المبالغ قد لا تتعدى 200 أو 300 دولار أميركي، لكنها بالنسبة إلى المدينين عقبة كبيرة.

سوق الاستدانة غير الرسمية

إذن فهو سوق استدانة موازية تشهد ازدهاراً ملحوظاً في المناطق الشعبية بعيداً من الحسابات البنكية والنظام المالي المعتاد، وهو بحسب النتيجة التي وصل إليها المجتمع يتمتع بعدم مأمونية بالمرة، ويحمل استغلالاً لمحدودي التعليم، ومن يجهلون أصول التعاملات الاقتصادية، إذ تتراكم الفوائد ومن ثم تزيد العقوبات، لكن هل اللوم يقع دوماً على عائلة العروس، وهل بالفعل جميع من يطلق عليه لفظ "غارم" الذي يعني بحسب المعجم الجامع "الذي يلتزم ما ضمنه وتكفل به" اشترى تجهيزات منزلية لم تكن أسرته بحاجة إليها فقط لمجرد التفاخر وتقليد الأهل والأقارب؟

 

قد يكون هذا الوضع ينطبق على فئة ليست هينة من الضحايا، لكن أيضاً هناك من جرى الإيقاع به، وهناك من خانته الظروف المعيشية وتقلبات الحياة، وهناك من لم يشتر سوى الضرورات فقط، لكنه فوجئ بتراكم الديون بسبب نظام التقسيط وتكرار تعثره، نظراً إلى تعرضه لطوارئ غير سعيدة في حياته فيجد أن إيصال الأمانة الذي وقعه بحسن نية تغذيها الأمية القانونية وقبلها الأمية التعليمية قد أصبح ورقة إدانة لا لبس فيها وبينهم "ر. محمود"، وهي ربة منزل أربعينية لم تسع أبداً إلا لشراء بعض الأساسات لبيتها حيث كانت متفائلة بعد أن أصبح نجلها الأكبر يعمل في وظيفة براتب معقول فاشترت أجهزة ضرورية للغاية مثل موقد الغاز والمروحة والغسالة، لكن بعد أشهر قليلة ترك ابنها العمل بعد إصابة تعرض لها، ووجدت نفسها في مهب الريح، بينما لديها طفل في الرابعة من عمره، لكنها كانت محظوظة وخرجت من السجن بعد فترة قصيرة بعد مساعدات حصلت عليها.

قصتها تشبه كثيرات وكثيرين، لكن لا يمكن إنكار أن المبالغة في الشراء هي العنوان الأعرض الذي يسيطر على حياة الغارمين في مصر، حيث تؤكد المحامية بالنقض والإدارية العليا ورئيس المؤسسة العربية لمكافحة العنف ضد المرأة وعضو المجلس القومي للمرأة صفاء عبدالبديع، أنه بحسب المقابلات التي أجرتها من خلال عملها فإن العدد الأكبر من المتضررات بالفعل تورطن في تلك الأزمة، بسبب تجهيز بناتهن للزفاف عن طريق شراء المستلزمات بالأجل.

وترى عبدالبديع أن تلك الظاهرة انتشرت بشكل لا يمكن الاستهانة به أبداً، مشيدة إلى تنبه الجهات الرسمية في الدولة مبكراً لتلك الحالات ومحاولة رعايتها وحل مشكلاتها، لافتة إلى أنه من حق الجهات المعنية الرسمية الإفراج عن بعض السجناء بشروط معينة طبقاً لنصوص القوانين الخاصة بتنظيم السجون.

حالات استثنائية

بالتالي كان النقاش الذي خلف تصريحات الفنانة شيرين حول عدم استحقاق هذه الفئة بالتبرع حاداً واستقطابياً، فبعض المعلقين يرون أن المظلومين هم الأكثر عدداً بحسب ما عايشوه هم، ومنهم من يرى من واقع تجربة شاهدها بعينه أيضاً أن هناك سوء تقدير للموقف، حيث يقدم البعض على هذا التصرف على الرغم من وجود عشرات النماذج السلبية أمامه، كما أن عدداً منهم يعتقدون أنهم إذا تعثروا ستقوم الجمعيات الأهلية بمساعدتهم وهو أمر قد يحدث أو لا يحدث بالطبع.

وتلك الحالة لا تنكر وجودها المحامية صفاء عبدالبديع، حيث تضيف أنه على الرغم من الأهمية الكبرى للمشاركة المجتمعية في هذا الصدد باعتبارها عملاً خيرياً، لكن في الوقت نفسه هناك جانب سلبي قد ينتج عن حل الأزمة عن طريق المساهمة في سداد الديون للإفراج عن المتعثرين، مشيرة إلى أن هناك من يحاول المبالغة في الشراء ظناً منه أنه سيفلت من الأزمة بالمساعدة.

لكنها مع ذلك تؤكد ندرة تلك الحالات، مشيرة إلى أن لكل قاعدة استثناءات، ومن يجازف بسمعته ومستقبل عائلته وحريته مستغلاً فكرة المساعدة ومتواكلاً عليها هم قلة قليلة للغاية، كما شددت عبدالبديع على أنه من غير الطبيعي أن نقاوم التبرعات بسبب هؤلاء، حيث توضح "التبرعات من الأساس لا تذهب إلا لمستحقيها إذ يجري الأمر وفقاً لتحريات وبحث دقيق للحالات، فالمساعدة ليست عشوائية كما أننا لو نظرنا بشكل اجتماعي إنساني، سنجد أن هناك شريحة كبيرة مضطرة لتوقيع تلك الشيكات، بسبب وقوعها تحت ضغط اقتصادي رهيب، بالتالي التعاطف والتضامن مع هذه الحالات أمر عادي، وأنا أشجع العمل الاجتماعي بشكل عام، لأن الأزمة الاقتصادية الحالية تستدعي هذا التكاتف لفك كرب المحتاجين".

ليست متطلبات الزواج فقط

تنتشر أيضاً بين الغارمين حالة أخرى، وهي حينما يرغب الشخص في الحصول على سيولة مالية، ولا يجد لديه متطلبات أو شروط الحصول على قرض بالطرق القانونية، فيقوم بشراء بعض المستلزمات بالتقسيط الشهري، ويدفع مقدماً طفيفاً ثم يأخذ المستلزمات التي تكون عادة أجهزة كهربائية ويبيعها عن طريق "الكاش" لغيره، ويحصل على المال الذي هو بحاجة إلى إنفاقه في شيء آخر كالعلاج مثلاً أو فك ضائقة ما، وتدور الدائرة ويجد نفسه مطالباً بسداد الشيكات بينما ليس لديه مدخرات ولا دخله الثابت يكفي للوفاء بالدين.

وهنا تعلق المحامية صفاء عبدالبديع بالتطرق إلى فكرة "الأمية القانونية" لدى البعض، مشيرة إلى أن كثيراً من المتعاملين يستهينون بالوثائق التي يوقعون عليها ولا يعلمون أن كتابة شيك من دون رصيد هو بحسب قانون العقوبات جريمة من ضمن جرائم خيانة الأمانة، وعقوبتها تكون السجن والغرامة في حال عدم السداد.

 

وبحسب تقرير صدر العام الماضي عن مؤسسة ملتقى الحوار للتنمية وحقوق الإنسان، فإن عدد الغارمات في السجون المصرية يقترب من 30 ألفاً، والغالبية العظمى منهن سبب تورطهن الأول هو ارتفاع متطلبات الزواج، إذ إن هناك حالة من التباهي لدى العائلات بأثاث الزواج، فتكون العروس على الأغلب صغيرة في السن ولا تعمل، ويكون مصدر دخل العائلة محدوداً، لكن وفقاً لشروط المقاييس المجتمعية فإنه لا مفر من الإفراط في شراء السلع بأعداد كبيرة.

واللافت أنه بالطبع هناك غارمون وليس غارمات فقط، لكن بنسبة أقل، وقد بدأت الدولة قبل سنوات حملة قوية لمساعدة نزلاء السجون الذين ينطبق عليهم تعبير غارم، عن طريق مبادرة "مصر بلا غارمين"، التي تهدف لفك كرب المسجونين لأسباب السالف ذكرها، وهي تعمل على مدار سنوات عن طريق تخصيص جانب من أموال صندوق تحيا مصر، وبالفعل ساعدت آلافاً من المستحقين.

التوعية وجهاً لوجه

بالمتابعة للوضع حتى من خلال آلاف التعليقات التي تكشف عن تجارب متنوعة يجري تداولها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فإن حملات التوعية المستمرة، التي يجب أن تكون قريبة وتعمل بشكل مباشر مع الفئات الأكثر تعرضاً لتلك المواقف، قد تكون مجدية كثيراً، بخاصة أن المتضررين عادة يكونون ضحايا الجهل بالقانون، وبما يمكن أن يترتب على توقيعهم على بياض لمجرد الثقة في التاجر أو البائع المجاور.

وهو ما تعقب عليه الناشطة الحقوقية صفاء عبدالبديع، حيث تقول إنه من واقع تجربتها فإن حملات التوعية في هذا الشأن بالفعل مباشرة، وتتمثل في مقابلات مع الناس في أمان عيشهم، حيث تتوجه إلى أكثر من فئة بينها الشباب والفتيات المقبلات على الزواج وأنصحهم بأن يتريثوا في قرار الإنجاب حتى يسددوا ديون تأسيس منزل الزوجية، وأيضاً للفئة الأكبر سناً وعائلات الأسر الكبيرة، حيث يجري إدماجهم في دورات لتعلم الحرف مجاناً لينخرطوا في مجال العمل والمساهمة في تخفيف العبء المادي، وتختتم كلامها بالقول "مع ذلك فهذا ليس كافياً، لأنه يجب على الإعلام المرئي باعتباره الأكثر تأثيراً أن يهتم بصورة أكثر تكثيفاً بتلك القضية، ليتحقق مبدأ التوعية الشاملة، ونرى نتيجة أسرع على الأرض".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات