على غير العادة لم يثر إعلان فوز الكاتبة الفرنسية آني إيرنو قبل أيام بجائزة نوبل الأدبية لهذا العام أي نوع من الضجيج أو حتى من الثناء الصاخب على عكس ما حدث بالنسبة إلى هذه الجائزة مرات كثيرة خلال السنوات الأخيرة. ففي نهاية الأمر لا يعرف كثر من المتابعين في العالم غير الفرانكوفوني هذه الكاتبة وليست لهم تجاهها لا مواقف سلبية ولا أخرى إيجابية. كثر منهم سيتعرفون على أدبها انطلاقاً من هذه المناسبة وقد يحبونها أو لا يحبونها لكنها في الحالتين ستكون قد دخلت سجل الخلود بعد أن كانت بالكاد معروفة، حتى وإن كان البعض قد تململ لكون الفائزة هذه المرة أيضاً فرنسية ما عزز ترتيب فرنسا كأكثر الدول فوزاً بالجائزة في تاريخها، ولكن بعد كل شيء كان التململ واهناً وخجولاً أمام الثناء على كون الفائز فائزة هذه المرة أيضاً. وذلكم ما يحدث عادة حين تفوز كاتبة امرأة بتلك الجائزة الكبيرة. حدث حين فازت مارتا هيللر وإلفريدي جينيكي وآليس مونرو، وغيرهن في السنوات الأخيرة. ففي الحقيقة يحب الجمهور العريض أن تفوز النساء بالجوائز الكبرى ويهرع إلى التعرف على إنجازاتهن الأدبية وغالباً ما سيحبها.
أمور غريبة في دهاليز نوبل
لكن الأمور لم تجر على مثل هذا الهدوء والترقب الإيجابي دائماً في العالم النوبلي وحسبنا هنا أن نتوقف عند ثلاث دورات أخيرة كثر فيها اللغط بل الاحتجاج بعد إعلان اسم الفائز أو نتيجة التداولات. مرة حين أعطيت نوبل الأدبية للمسرحي الإيطالي داريو فو ومرة قبل حين يوم حجبت لسبب غامض أثار الحيرة إذ أعلن أن حجب الجائزة يتعلق بقضية تحرش جنسي (!)، ثم خصوصاً مرة حين منحت الجائزة إلى مغني الروك وشاعره الأميركي بوب ديلان، وهذا ما نتوقف عنده هنا. وكان ذلك انطلاقاً من سؤال بسيط هو: ما الذي جاء بصاحب "أوتيل كاليفورنيا" و"هاي مستر طامبورين مان" و"بلوينغ إن ذا ويند" لكي يفعله في ذلك الصرح الأدبي الكبير الذي كان عصياً على عباقرة أدب من طينة مارسيل بروست وغراهام غرين وبخاصة خورخي لويس بورخيس وجورج آمادو من الذين رحلوا وفي نفسهم غصة من نوبل، ولا يزال ينتظرها كبار باتوا يخشون أن يرحلوا عن عالمنا من دونها مثل إسماعيل كاداريه وإيان ماكوين وغيرهما من كبار الكبار الذين تستعاد أسماؤهم بأمل خلال الأيام السابقة على إعلان اسم الفائز أوائل أكتوبر من كل عام ثم ينطفئ الأمل، أجل ما الذي يفعله المغني الكبير هنا؟
سؤال حائر من المغني
والحقيقة أن السؤال الأكثر غرابة في هذا السياق أتى من ديلان نفسه. وكان سؤالاً هادئاً لم يعبر بوضوح فور إعلان فوزه بل لاحقاً بعد ذلك بشهور وتحديداً في الخامس من يونيو (حزيران) عام 2017 وهو اليوم الذي يسبق بخمسة أيام الموعد النهائي الذي يتوجب أن يوصل الفائز قبله إلى لجنة نوبل في العاصمة السويدية ستوكهولم خطاباً يعلن فيه قبوله تلقي الجائزة. ويومها استجابة منه لتلك التقاليد ولكن تماشياً منه في الوقت نفسه مع حيرته إزاء الأمر كله وربما لتأكيد فحوى ما سيقوله في خطابه، لم يرسل المغني التروبادور خطاباً مكتوباً بل شريطاً صوتياً مسجلاً يستغرق الاستماع إليه 30 دقيقة ويتمازج فيه ما يريد قوله مع عزف موسيقي بديع معلناً فيه كم أنه منذ إعلان ذلك الفوز لم يتوقف لحظة عن التساؤل بكل تواضع ولكن أيضاً بدهشة و"ربما بشيء من الاستنكار أيضاً" حول العلاقة بين أغانيه والأدب. لقد ذكر ديلان بأنه لم يكن الوحيد وما كان يمكن له على أي حال أن يكون الوحيد الذي طرح على نفسه هذا السؤال. فقبل تسجيله ذلك الخطاب كان ديلان قد عرف بالضجيج الذي ساد يوم أعلنت لجنة نوبل أنه هو الفائز بجائزة لجنة نوبل الأدبية لعام 2016.
"إذا كنتم تريدون أميركياً"
ففي ذلك اليوم بالذات استبدت الدهشة، مصحوبة غالباً بأقصى درجات الاستنكار بكثر تساءلوا قائلين: "صحيح أن بوب ديلان أصدر بعض الكتب مثل مذكراته المعنونة ’مدونات’، كما أصدر مجموعة شعرية بعنوان ’تارانتولا’ ولكن أين هي من كتب فيليب روث"، وكان لا يزال حياً ويعتبر أكبر روائي أميركي معاصر، أو بول أوستر أو بول ديليللو "إذا كنتم تريدون فائزاً أميركياً!"؟ وراح المحتجون الذين سيقول ديلان دائماً إنهم أبداً لم يستثيروا غضبه بل رآهم على حق، راحوا يعددون كثراً من كتاب وكاتبات يمكن لهم أن "ينوبلوا" بكل بساطة، ولكن في المقابل كان هناك من بين المعلقين كثر دافعوا عن القرار وأثنوا على اختيار اللجنة لديلان، التي وبحسب بعض الصحافيين ومن بينهم أصحاب أسماء كبيرة في النقد، عرفت كيف تكون حديثة ومعاصرة وجريئة باتخاذها هذا القرار التاريخي الذي يلقي أضواء محقة على هذا اللاعب الكبير بالكلمات والشاعر الجوال الذي تكون لجنة نوبل بهذا قد وضعته في مصاف هوميروس واعتبرته وريثاً معاصراً له".
حالات غضب قصوى
"قد يكون هذا منطقياً في وجه من وجوهه، قال المعارضون ومنهم الفيلسوف الفرنسي آلان فينكلكروت الذي أبدى خشيته بحسب ما ذكرت مجلة "لير" الأدبية الفرنسية من أن "فن المنوعات بات في طريقه لأن يستعمر الساحة الثقافية لاغياً في طريقه بقية ما تبقى من صنوف الأدب الحقيقي"، لكن هذا الكلام الفرنسي الهادئ مر من دون أن يلفت أحداً في مناخ ارتباك عام لم يخل من كتابات وصفت أعضاء لجنة نوبل الأدبية بأنهم "باتوا عاجزين عن قراءة كتاب واحد"، وأنهم لم يعودوا أكثر من مجموعة من "الهبيين الخرفين". ولقد وصل الأمر إلى ذروة السخرية حين تساءل مقال في صحيفة "التلغراف" البريطانية ودائماً بحسب ما ذكرت مجلة "لير" نقلاً عنها، تساءل كاتبه إذا "لم يكن قد بات علينا أن نتوقع أن يكون الفائز بهذه الجائزة في المرة المقبلة دونالد ترمب" وكان حينها قد وصل لتوه إلى سدة الرئاسة الأميركية "فبعد كل شيء ها هو يغرق العالم بتغريدات لا تخلو من أبعاد شعرية" زايد كاتب المقال متفكهاً. ونعرف طبعاً أن ترمب لم يعط الجائزة نفسها وإن كان قد شجعه ذكره في هذا السياق على أن يفكر لاحقاً بجائزة نوبل للسلام، لا سيما بعد مصافحته الودية الشهيرة مع زعيم كوريا الشمالية. ترمب لم يفز بنوبل الأدبية ولكن ونستون تشرشل فاز بها ذات عام قبل عقود، من دون أن يتوقع له أحد ذلك الفوز باستثناء "التلغراف" نفسها التي كانت من أشد المرحبين حينها بفوزه! وهو فاز بها ليس عن عمل أدبي له. فهو أصدر حقاً روايات ونصوصاً أدبية لكن أهل نوبل لم يكونوا من السخف بحيث ينوبلوه عليها، ففعلوا على كتابه الذي تضمن مذكراته عن الحرب! ونعرف أن احتجاجات كثيرة انطلقت يومها لكنها كانت خجولة إلى حد كبير.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
درس في الانحناء أمام العاصفة
لكن الاحتجاجات ضد فوز ديلان كانت أقوى وتشجعت طبعاً بموقف المغني نفسه الذي بقدر ما أثار الفوز استغرابه، لفته مقدار الكراهية التي جوبه بها ذلك الفوز، لا سيما بأقلام إنجليزية راحت تتهكم عليه، فجابهها بذكاء مؤيداً ما عبرت عنه قائلاً إن "أشعارنا كتبت لتسمع مغناة لا لتقرأ، وهذا يجعلني أحس بأنني متطفل". والحقيقة أن هذا الموقف المتواضع قد لعب دوراً أساسياً في التخفيف تدريجياً من حدة الهجوم عليه وعلى الذين منحوه أعظم جائزة في العالم ولم يكن في وسعهم أن يتراجعوا عن ذلك ولو حتى بناء على ما تضمنته مطالبة المغني نفسه المضمرة بذلك. ففي نهاية الأمر، كان من الواضح أن بوب ديلان إن لم يكن قد استحق فعلاً جائزة ضن بها على الكبار، استحق الاحترام والتقدير لقوة أعصابه التي جعلته يقود نوعاً من انحناء أمام العاصفة جعل تلك العاصفة تنسى ويبقى منها ذكرى تلك "الخطوة الشجاعة" التي خطتها لجنة نوبل منذ ذلك الحين وسوف تتبعها خطوات أخرى قد لا تتسم لا بنفس القدر من الشجاعة ولا بنفس القدر من المنطق الغريب.