"أم بديلة" تحتضن أطفالاً متخلى عنهم تعاملهم كأمهم الحقيقية، تربيهم وتعتني بهم وتنتظر عودتهم من المدرسة، والشيء نفسه بالنسبة إلى "الخالة" التي تعوض غياب هذه الأم.
إنها حياة أسرية دافئة "شبه عادية" تسعى إلى تحقيقها قرى الأطفال المسعفين (SOS) التي تضم أطفالاً متخلى عنهم محرومين من الدفء العائلي ويبلغ عددها الإجمالي خمس قرى في المغرب.
تأسست أول قرية للأطفال عام 1985 في منطقة أيت أورير بإشراف الجمعية المغربية لقرى الأطفال (SOS)، بينما أسس هذا المشروع الإنساني المعروف في كل بقاع العالم فاعل الخير النمسوي هيرمان غمينر عام 1949.
عالم بديل
يقوم المبدأ العام الذي يوحد هذه القرى الخمسة الموجودة في كل من آيت أورير وإمزورن ودار بوعزة والجديدة وأغادير على فكرة "الأم الرمزية" أو "الأم البديلة" التي تحتضن وتعتني بعدد من الأطفال داخل بيت مستقل لتشكل هذه البيوت قرية من قرى الأطفال المسعفين.
إلى جانب الأم "البديلة" يعتبر الأطفال الموجودون داخل كل منزل في القرية إخوة وأخوات للطفل المحتضن، أما مساعدة الأم البديلة التي تعوض غيابها فتلقب بـ"الخالة"، وأما مدير القرية فهو بمثابة الأب أو العم.
تفيد إحصاءات الجمعية المغربية لقرى الأطفال المسعفين بأنه إلى حدود عام 2020، أي خلال مسار 35 عاماً من الخدمة والعمل في الميدان تم التكفل بأكثر من 2200 طفل.
ووفق الإحصاءات فإن 84 في المئة من الشباب الذين عاشوا في قرى الأطفال المسعفين صار معظمهم "مستقلين" في حياتهم، كما أن 91 أماً بديلة تدربت في هذه القرى خلال العام ذاته ويشتغل أكثر من 170 مهنياً في العمل الاجتماعي داخل قرى الأطفال.
"الأسرة المستقبل"
يمول الاتحاد الأوروبي برنامج "التحرك من أجل تحسين الحماية الاجتماعية في المغرب" الذي أعلن عنه رسمياً قبل أيام في مقر جمعية "قرى الأطفال" في منطقة دار بوعزة بضواحي الدار البيضاء.
ويروم هذا البرنامج إلى دعم برامج الجمعية و"الرفع من عدد الأطفال المستفيدين من الرعاية الاجتماعية داخل قرى الأطفال المسعفين التي تستقبل سنوياً ما بين 50 و60 طفلاً متخلى عنه".
في السياق تعتزم الجمعية من خلال برنامج يدعى "الأسرة المستقبل" مرافقة الأمهات الوحيدات من مطلقات وأرامل وأمهات عازبات وتشجيعهن على الاحتفاظ بأبنائهن وتكليفهن برعاية أطفال آخرين، مستفيدات في ذلك من دعم مادي لمواجهة أعباء الحياة اليومية.
تقول المديرة الوطنية لجمعية "قرى الأطفال" في المغرب بياتريس بيلواد إن الهدف الأساس من هذه البرامج والمشاريع هو الحفاظ على نواة الأسرة، حيث يعيش الطفل المحروم والمتخلى عنه في كنف أسرة طبيعية من أم وإخوة وأخوات، وتضيف أن خلق أجواء أسرية تفاعلية حقيقية من شأنه أن يعوض الطفل عما عاناه من أحاسيس سلبية تتعلق بالحرمان من الدفء واللمة العائلية مثل سائر الأطفال وهو ما يجعله لا يشعر بنقص عاطفي وينطلق في حياته كأي طفل آخر.
مشاعر الأم
تعمل فوزية أماً بديلة في إحدى قرى الأطفال المسعفين، لكنها تقول إنها لا تعتبر نفسها كذلك، بل أماً حقيقية لأطفالها الثمانية الذين يعيشون معها تحت سقف المنزل.
وتكمل فوزية وهي أرملة في نهاية عقدها الرابع أنها تنهض في الصباح الباكر لتوقظ الأطفال الثمانية في القرية للذهاب إلى مدارسهم فمنهم من يدرس في الابتدائي ومنهم من يتابع دراسته في مستوى الإعدادي، وتابعت أنه "في الزوال يعودون إلى البيت داخل القرية التي تضم 11 منزلاً آخر ليجدوا وجبة الغذاء جاهزة، وفي المساء أحاول متابعة ما يقومون به من مراجعة للدروس أو يخرجون إلى اللهو في ملعب القرية".
وفق الأم البديلة فإنها بمرور الزمن لم تعد تشعر بأنها موظفة في القرية للاعتناء بأطفال متخلى عنهم بقدر ما صارت تحس بأنها أم بالفعل لهؤلاء الصغار مثل أطفالها تماماً، مبرزة أن هذه القرى تقدم خدمات جليلة إلى هذه الشريحة من الأطفال وحتى إلى الأمهات اللائي يعملن فيها مقابل تعويض مالي يعينهن على العيش بكرامة.
شروط الأم البديلة
تشترط قرى الأطفال المسعفين في الأم البديلة أن يتراوح عمرها بين الـ30 والـ40 سنة وأن تكون إما عازبة أو مطلقة أو أرملة وأن لا تكون متزوجة بهدف التفرغ الكامل للأطفال المتخلى عنهم الذين يأوون إلى هذه الفضاءات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقول أحد المسؤولين عن الموارد البشرية في قرية للأطفال المسعفين بالمغرب إن من شروط توظيف "الأم البديلة" أن تكون ذات شخصية ديناميكية وحركية وأن لا تكون متذمرة أو تحمل طاقة سلبية لأنه يتعين عليها منح الأمل والتفاؤل للأطفال وليس العكس، وأردف أن تجربة سابقة في التعامل مع الأطفال ضرورية في قبول تشغيل أم بديلة وأيضاً أن تتكيف مع العمل داخل جماعة وأن تكون محبة للأطفال، حنونة وعطوفة، كما يشترط فيها أن تكون متعلمة لأن الطفل ربما يحتاج إليها في مراجعة دروسه.
أما بخصوص الأطفال الذين يقبلون داخل قرى الأطفال المسعفين، فيوضح المسؤول نفسه "يشترط فيهم أن يكون سنهم عند ولوج القرية أقل من سبع سنوات وأن يقيم الطفل في البيت إلى مستوى الإعدادية وبمجرد وصوله إلى الثانوي يغادر القرية صوب "دار الطالب"، لكن يحق له زيارة بيت أمه البديلة وإخوانه البدلاء أيام العطل المدرسية.
مشاعر الطفل
يتذكر محسن، شاب في الـ22 من عمره تخرج في جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء ويعمل مساعداً لأحد الموثقين، كيف أنه "عاش في قرية الأطفال المسعفين (دار بوعزة) أكثر سنوات حياته وبعد الباكالوريا لم يعد يقطن هناك لأنها في الأصل مخصصة لصغار السن، غير أنه واظب على زيارة أمه البديلة التي منحته الحنان الكافي والرعاية اللازمة مثل أمه الحقيقية لو كانت موجودة".
وتابع الشاب أنه يعتزم رد الجميل لتلك الأم البديلة لأنها بالنسبة إليه كانت مصدر إلهام بفضل قوة شخصيتها ولأنها كانت وراء تحفيزه وتشجيعه في أصعب الأوقات على تحقيق نجاحه الدراسي"، مضيفاً أنه أيضاً لن يتخلى عن إخوانه الذين كبروا معه وتفرقت بهم سبل الحياة عندما غادروا القرية.
وبخصوص المشكلات التي يواجهها الطفل في قرية المسعفين، أفاد الشاب نفسه بأنه لم تكن هناك مشكلات بقدر ما كان الطفل يسأل عن أمه الحقيقية من تكون ووالده الحقيقي من يكون.
يرى محسن أن "الطفل يطرح هذه الأسئلة فقط من باب الفضول المشروع الذي ينتاب كل طفل في سن صغيرة"، مبرزاً أن "القرية لا تخفي منذ البداية عن الطفل كون أمه التي ترعاه ليست أمه الحقيقية وذلك من باب الشفافية وعدم إصابة الطفل بالصدمة عندما يكبر ويعلم بالحقيقة".
قطب الطفل
يعلق الباحث الاجتماعي في الشأن الأسري عمر السماط على الموضوع بالقول إن تجربة قرى الأطفال المسعفين تضطلع بأدوار اجتماعية كبيرة على مستوى نواة الأسرة بالتركيز على قطبين رئيسين هما الأم والطفل بشكل خاص، ويشرح أن عملية التنشئة الأسرية والتربوية في مثل هذه القرى ترتكز على إيجاد أم تعوض الأم الحقيقية وتمتلك جميع المواصفات التي للأم المربية الحنون، بالتالي فإن الطفل يشب بدءاً من سن السادسة وأقل على التعامل مع هذه الأم.
ووفق الباحث فإن من المهم أن يجد الطفل رعاية معينة من طرف أم ترافق كل حركاته وسكناته وإلى جانبه أطفال آخرون يعتبرهم مثل إخوته وأخواته، مبرزاً أن هذا الوضع من شأنه أن يقلل لديه تلك المخاوف والعقد النفسية التي تنشأ بسبب عدم معرفته بوالديه الحقيقيين.
واستطرد السماط أن مثل هذه المراكز تلعب دوراً أيضاً في محاربة التسرب أو الهدر المدرسي لأن الطفل في قرية الأطفال المسعفين مطالب بالذهاب إلى المدرسة، بالتالي لو ترك للشارع لانقطع حتماً عن مقاعد الدراسة وانحرف وتشرد وصار عنصراً سلبياً في المجتمع.
قطب الأم
أما بخصوص القطب الثاني وهو الأم، فيقول الباحث إن قرى الأطفال تمنحها فرصة استعادة دورها ومكانتها كأم داخل مؤسسة الأسرة بالنظر إلى أن المشتغلة كأم بديلة في هذه المراكز تكون إما أرملة أو مطلقة، ويوضح أن "الأم البديلة في وقت تمارس دور الأم طواعية وتربي أطفالاً آخرين مثل أطفالها، فهي تحصن نفسها أيضاً من التشرد والتسول لأنها تؤدي وظيفة تتقاضى عليها راتباً يمنحها في الأقل الحد الأدنى من الحياة الكريمة".
وفي ما يتعلق بالعراقيل التي تقف أمام تطور عمل هذه القرى وعدم انتشارها بالنظر إلى أن عددها لا يتجاوز الخمس في المغرب كله، قال السماط إن "الأمر قد يعود إلى الجانب التمويلي، بخاصة أن هذه القرى تتطلب تمويلات ضخمة لإنشاء المنازل وإيجاد الموارد البشرية من أمهات وكوادر وأطباء نفسيين، مما يعوق عملها في أحيان كثيرة".