Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مراد وهبة يطرح سؤال العلمانية والدين في القرن الراهن

يؤكد الحاجة إلى لاهوت جديد ويرى أن التنوير مؤسس على الأفكار التي تمنع تحول النسبي إلى مطلق

لوحة للرسام الإسباني خوسيه مانويل موريللو (صفحة الرسام - فيسبوك)

تظل قضية العلمانية من القضايا الرئيسة في فكر الفيلسوف المصري مراد وهبة (1926)، بل لعلها تكون القضية الوحيدة التي نذر حياته لها، الأمر الذي جعله يرى العالم منقسماً بين تيارين متصارعين، سواء في الماضي أو الحاضر: "الأصولية" التي تدعي امتلاك الحقيقة الكاملة وما يترتب على ذلك من تكفير المخالف لها وتعريضه للقتل، و"العلمانية" التي تقوم على نسبية الحقيقة والإعلاء من منزلة العقل، بما يعني أنها -بتعريفه لها- "التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق". ويرجع مراد وهبة، وفق ما ورد في كتابه "رؤيتي للقرن الحادي والعشرين" (الهيئة العامة لقصور الثقافة) بهذه الأصولية إلى أبي حامد الغزالي الذي كفر فلاسفة المسلمين من أمثال الفارابي والكندي وابن سينا، بسبب اطلاعهم على التراث الفلسفي اليوناني وتأثرهم به، باعتبار أن هذه الفلسفة اليونانية -في رأي الغزالي- شرك وضلال، وقد أجمل كل ذلك في كتابه الشهير "تهافت الفلاسفة". ويأتي ابن تيمية في القرن الثالث عشر لتبلغ هذه الأصولية ذروتها حين يؤكد في "مجموع الفتاوى"، "وجوب قتل الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله". وهو ما تم إحياؤه في العصر الحديث على يد أبي الأعلى المودودي وسيد قطب في كتابيه "معالم في الطريق"، وخصوصاً "المستقبل لهذا الدين" الذي يدعو فيه إلى "ضرورة القضاء على الغرب"، بمراحل تطوره من الثورة الصناعية إلى عصر التنوير والعلمانية. فهو يرى في كل ذلك بعداً عن قيم الدين الروحية وإغراقاً في المادية. ومن هنا يرى وهبة ضرورة الخروج على منطق الأصولية عموماً، بغض النظر عن الدين الذي تتقنع به، حيث إن الأصوليات عامة "متفرغة للتنقيب عن غير المؤمن من أجل قتله بعد اتهامه بالكفر"، كما أنها ترفض إعمال العقل في النصوص الدينية، وترى ذلك -كما يقول ابن تيمية- "رجساً من عمل الشيطان".

هيمنة الأصولية

 

ومع شيوع هذه الأصوليات الرافضة لإعمال العقل في النص الديني وقتل من يجرؤ على القيام بذلك الفعل العقلي، يشيع الإرهاب ويصبح كوكبياً مع بداية القرن الحادي والعشرين التي جاءت مصحوبة بشعار "العودة إلى الدين" كرد فعل ضد الحداثة العلمانية. وكانت وسائل الإعلام الكوكبية كفيلة بدفع الأصوليات إلى موضع الصدارة وتأكيد هيمنتها. وأكثر من ذلك نرى بعض المفكرين الغربيين متعاطفين مع أساسات هذه الرؤية، مثل دور كايم الذي يؤكد أن "أي مجتمع جدير بأن يكون كذلك لن يكون له معنى من غير المقدس، وإذا كان المقدس هو جوهر الدين فالدين إذاً يكون هو أساس المجتمع". ولا أظن أن أحداً -حتى غلاة العلمانيين- يرفض أن يكون الدين أساس المجتمع، لكن المرفوض هو هيمنة المتمسكين بظاهر النص واعتبار رؤيتهم هي الدين نفسه وتكفير من يخالفهم، ويلفتنا مراد إلى الواقع المصري الذي تلاحمت فيه "الرأسمالية الطفيلية المتمثلة في شركات توظيف الأموال وفي مقدمتها (شركة الريان)" مع الأصولية الإسلامية. وكان الريان في حينها سلطة تماثل سلطة الدولة "إن إشكالية الأصولية تتمثل في التعامل مع النسبي -رؤيتها الخاصة- على أنه مطلق أو الحقيقة الكاملة التي ينبغي على الآخر الإيمان بها"، وأنها تختزل "أبعاد الزمان الثلاثة في بعد واحد هو الماضي ثم ترقى بالماضي إلى مستوى المطلق".

رؤية مغايرة

 

لعل العقلية الأصولية عقلية ماضوية بامتياز. وفي مواجهة كل ذلك يطرح مراد وهبة رؤيته المغايرة، مؤكداً أن مسؤولية الفيلسوف تكمن في "المطالبة بتغيير وضع قائم مأزوم باستدعاء وضع قادم لإزالة الأزمة"، ومستدعياً قول سارتر إن "الفيلسوف الذي يعاصر نظاماً قهرياً -سواء أكان دينياً أم سياسياً- من دون أن يدينه هو مسؤول عما يفرزه من ظلم". وكذلك قول جون لوك إن "الله لم يفوض أحداً في أن يفرض على أي إنسان ديناً معيناً"، ورؤية كانط للتنوير على أنه "الجرأة في إعمال العقل، بالتالي الجرأة في إقصاء الأوصياء على العقل الذين يقتلعون عقل الإنسان من جذوره، ويضعون بدلاً منه عقلاً مزيفاً قابلاً للخضوع لما يبدونه من آراء". والتنوير بهذا المعنى مؤسس على العلمانية التي تمنع تحول النسبي إلى مطلق. على أن أهم ما يشير إليه وهبة هو رفضه مقولة هنتنغتون عن "صراع الحضارات". فهو يرى أننا نعيش داخل حضارة واحدة وبهذا تسقط ذريعة أن العلمانية مستوردة من المجتمعات الغربية. إن الأمر المرفوض عنده هو أن نلبس "قشرة الحضارة" بتعبيرات نزار قباني – بينما "الروح جاهلية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 أي إن "استيراد التكنولوجيا ليس كافياً لإزالة التخلف من الثقافة، إذ من اللازم أن تكون الثقافة علمية، ومن هنا لا يحق لأحد أن يحكم بالحق الإلهي في المجتمع العلماني". ولا يرى كذلك أن الديمقراطية دليل كاف في ذاتها على وجود مجتمع علماني، فليس من المهم تداول السلطة بل هوية هذه السلطة التي تصل إلى الحكم بالآليات الديمقراطية، والمثل الشهير على ذلك هو وصول هتلر إلى الحكم بالديمقراطية ثم انقلابه عليها. إن الديمقراطية كآلية ينبغي أن تكون نتيجة لقيم التنوير ورسوخ المجتمع العلماني.

علم جديد

من خلال ما سبق يؤكد وهبة أننا في حاجة إلى علم لاهوت جديد في كل مرحلة تاريخية ولا بد لهذا العلم أن يتأسس على قبول التعدد الكامن في تعدد الأديان، ومن ثم قبول النسبية -الرؤية- التي تشير إلى ما وراءها من مطلق وبتأسيس كل هذا، "يتوارى الصراع بين الأديان ويتوارى إقصاء كل دين للآخر". وفى هذا يقول ديتريش بونهوفر "إن الإيمان بالدين يلزم منه التكيف مع النمط العلماني والدخول في علاقة عضوية معه".

باستثناء الأصوليين السلفيين لا يرى غالب المفكرين المسلمين تناقضاً بين الإسلام والعلمانية، فقد ذهب رئيس "المؤتمر العالمي للأديان من أجل السلام"، غالب بن شيخ إلى أن "ليس ثمة تناقض بين الإسلام والعلمانية، ولا أدل على ذلك من أن ليس فيه ثمة إشارة إلى العلوم السياسية أو إلى سلطة دينية". وقد كانت مقولات ابن رشد عما بين الحكمة والشريعة من اتصال وضرورة إعمال التأويل المجازي في النص الديني واستبعاد المعنى الحرفي في حالة تناقض العقل مع ظاهر النص، ممهدة للمصالحة بين العلمانية والإسلام.

القضية الفلسطينية

جعل وهبة إحياء تراث ابن رشد قضية حياته، فهو يرى أن قيمة ابن رشد تكمن في قدرته على ردم الهوة بين العالم الإسلامي والعالم الغربي. ولهذا يدعو إلى تأسيس رشدية عربية لمواجهة الأصوليات يكون التأويل المجازي لظاهر النص أساسها. ومن ثم فإن هذا "يمنع العقل من توهم قدرته على امتلاك الحقيقة"، ولن يكون هناك موضع للإجماع مع تعدد التأويلات.

لا خلاف مع كل ما سبق، لكن الخلاف يأتي حين يتحدث وهبة عن القضية الفلسطينية فيرى أنها كانت محكومة دائماً -وهذا من وجهة نظره سر أزمتها- "بملاك الحقيقة المطلقة وهم هنا الأصوليون الفلسطينيون والعرب الذين ارتأوا أن تدمير إسرائيل ميسور بحكم ما توهموه من عقيدة دينية ترفض ما عداها من عقائد أخرى، إلى حد القتل لكي تريح وتستريح". ولا أدري كيف يتناسى وهبة حقيقة أن عنصرية إسرائيل وتأسيسها على أساس ديني -صدقاً أو كذباً- كانت أهم الأسباب لنمو الأصوليات الإسلامية، بما يعني أنها رد فعل للأصولية اليهودية. ويذهب أبعد من ذلك حين يقرر أن مانعي التطبيع "إخوان مسلمون"، وهو بذلك يمنحهم وحدهم شرف معاداة الكيان الصهيوني. فهناك ما يقترب من الإجماع الشعبي العربي على رفض تهويد الأراضي الفلسطينية وطرد أصحابها. ويبقى القول إن الصراع ليس دينياً، بل هو صراع بين محتلين وأصحاب أرض. إن تحرير الصراع من بعده الديني يدعم رؤية مراد وهبة العلمانية. وفي النهاية يقول نحن في انتظار من يستدعي روح كوبنهاغن وكسر المحرمات التي من بينها "عدم الاعتراف بإسرائيل كدولة بالتالي التحريض على إبادتها". والحق أن أحداً لم يقل بإبادتها أو إلقائها في البحر، بل ظل مطروحاً حل الدولتين أو دولة واحدة علمانية بعلم واحد ونشيد وطني واحد، كما يرى محمود درويش مثلاً، ولكن هل توافق إسرائيل؟

اقرأ المزيد

المزيد من كتب