Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عن أفول الخطاب الأيديولوجي العربي قومياً واشتراكياً

استنفد كتاب القرن الماضي طاقاتهم من دون أن تتحقق نهضة في الثقافة والمجتمع    

لوحة للرسام الفرنسي فليكس فاللنتون (صفحة الرسام على فيسبوك)

كان القرن الـ 20 عربياً أيديولوجياً بامتياز، استحوذت على بداياته أفكار الاشتراكية الإنسانوية الطوباوية، فيما اتسمت ثلاثينياته وأربعينياته بالتوجهات الليبرالية التنويرية، وهذه بدورها أخلت الساحة للأيديولوجيات القومية الرومانسية التي ما لبثت هي الأخرى أن تراجعت إزاء أيديولوجيا النقد الثقافي الذي أسس للأفكار العقلانية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

ولو تأمل الكاتب العربي عميقاً في حصيلة القرن الماضي من التقدم نحو الأهداف والمبادئ التي تكبد من أجلها قدراً كبيراً من القهر والمعاناة، لهالته فداحة الهوة بين الواقع العربي وبين ما طرحه من أفكار وأيديولوجيات وما حلم به من مُثل، ظلت شعارات بائسة لم يقيض لها أن تتحول مرة إلى واقع وحقيقة، وقد يصل به إحساس الإحباط والعجز والانكسار إلى حد اليأس والقنوط مما آلت إليه أيديولوجياته، مما بان واضحاً في كتابات نهاية القرن الماضي وبدايات هذا القرن، إذ غلب الشك في المسلمات العقائدية والأيديولوجية التي تم تداولها طويلاً. أليس هذا ما انتهى إليه الكاتب القومي العربي فيما هو يشهد تهافت أيديولوجياته ومقولاته وتساقطها على أرض الواقع والممارسة، حتى إن من القوميين العرب من عاد بعد عمر مديد في الدعوة القومية والوحدوية قانطاً خائباً، وذهب به الشك إلى طرح مشروعية الهوية القومية العربية في موازاة الهويات القطرية والعشائرية، وصولاً إلى كل مقوم للوجود العربي من "الأمة" إلى "الوطن" إلى "المجتمع " و"الشعب"؟

إيديولوجيا عبثية

وما انتهى إليه الكاتب الاشتراكي لا يقل انكساراً ومأسوية عما وصل إليه الكاتب القومي، إذ بعد قرابة قرن من التبشير بالاشتراكية ودعاوى التحول التاريخي الحتمي نحو "المجتمع الاشتراكي بقيادة الطبقة العاملة وحزبها الشيوعي"، يكتشف الكاتب الاشتراكي أنه إنما كان ضحية أيديولوجيا عبثية غلفت بكل مفردات "التحليل العلمي الملموس " و "الفكر العلمي" المنبئ بـ "انتصار الاشتراكية المظفر" وانهيار الرأسمالية المؤكد، فما جرى في الواقع كان النقيض التام لتصوراته، حتى بات يرى في كل تلك المقولات عبئاً تاريخياً لا يدري كيف يتخلص منه أو يبرره على الأقل، ولم يستطع الكاتب العلماني أن يخرج من نخبويته ليتوغل في نسيج المجتمع، فظل بعد أكثر من قرن ونصف القرن على انطلاقة الفكر العلماني الخجولة يراوح في موقف اعتذاري دفاعي يكرر صيغه القديمة في فصل الدين عن الدولة وفصل الإيمان عن السياسة. ولم ينج الكاتب الديمقراطي من الحرج الذي يعانيه الكاتب القومي أو الاشتراكي أو العلماني، فالديمقراطية في مضامينها الجذرية وخلفياتها الليبرالية لا تزال مثار حذر وخشية الأنظمة والجماهير على السواء، وهو ما يفسر الشيوع الواسع للكتابات التبريرية في الديمقراطية الذي ميز الخطاب السياسي العربي منذ الثمانينيات من القرن الماضي.

 كذلك بات الكاتب الأصولي الذي طرح خطابه بديلاً للجميع في مأزق هو الأكثر حرجاً، فما أخرجه من جعبته من دعوى العنف والقطيعة مع الآخر وتكفير الدولة والمجتمع على السواء لم يؤد إلا إلى مزيد من التراجع والانهيار في كل مجال.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هكذا استنفد كاتب القرن الماضي، سواء القومي أو الاشتراكي أو العلماني أو الأصولي، كل طاقاته من دون أن تتحقق أية نهضة ذات شأن في الثقافة والمجتمع العربيين، ويبدو في العقود الأولى من هذا القرن وكأن الكاتب العربي أصيب بالضياع وفقدان البوصلة، فبينما يعتريه الشك في الأفكار والمبادئ والمسلمات التي استنفدته في القرن الماضي، يستمر في التقوقع وراءها ولا يعرف كيف يخرج منها إلى عالم هذا القرن الذي حمل معه رؤى وتطلعات تهدد بتقويض كل الأفكار السائدة، لذلك هو حائر متأرجح بين الولاء للماضي الأيديولوجي واستعادة مقولاته المستنفدة، وبين الانخراط في الراهن بكل ثقله وهمومه وتحدياته، ولا يمكن تجاوز هذين التأرجح والحيرة من دون فك الارتباط مع ذلك الماضي الذي سيطر على عقل القرن الماضي، والذي ثبت فشله في حل كل الإشكالات التاريخية العربية، من إشكال الحرية إلى إشكال السلطة إلى إشكال التقدم والتنمية والعقلانية، فوقائع وأرقام بدايات هذا القرن تشير إلى عمق أزمة العالم العربي على كل المستويات.

العجز الإقتصادي

وعلى الصعيد الاقتصادي هناك عجز حتى عن تأمين الغذاء والعمل للإنسان العربي، وهناك تراكم متصاعد في الديون الخارجية وانفاق هائل على السلع الاستهلاكية والأسلحة غير المجدية يترافقان مع استشراء الفقر والبطالة. وعلى الصعيد الاجتماعي يشهد العالم العربي هبوطاً في القيم الوطنية والأخلاقية حتى أصبح الفساد الظاهرة الأكثر استشراء في السياسة والاقتصاد والإدارة والعلاقات الاجتماعية، بينما تزداد الفجوات الطبقية عمقاً واتساعاً.

 وعلى الصعيد الثقافي تستمر الفجوة الكبيرة بين العرب والعالم المتقدم، حتى أن ما يصدره العرب من الكتب والأبحاث يبقى دون ما تصدره دولة أوروبية واحدة بأشواط، بينما يقع العالم العربي في آخر البلدان التي تستخدم الإنترنت في العالم.

وعلى الصعيد السياسي يعاني العالم العربي من تكلس النخب السياسية وغياب نظام المؤسسات وتداول السلطة وتدهور حقوق الإنسان والانتهاك المتواصل للقيم الديمقراطية حتى في أبسط أشكالها.

وفي هذه الوقائع والمؤشرات دلالة كافية على إخفاق أو ضآلة الدور الذي اضطلع به الكاتب العربي طوال القرن الماضي، وفشل خطابه في إنجاز المشروع النهضوي العربي المنشود، وضرورة القطع مع ذلك الخطاب وتجاوز الحال التي أوصله إليها، مما يتطلب من الكاتب العربي الآتي:

المنظومات المفهومية

إعادة صوغ منظوماته المفهومية من مفهوم الدولة والسلطة والفرد وموقعه منهما، إلى مفهوم القومية والوحدة العربية، والتعامل معهما من خلال رؤية جديدة غير تلك الرومانسية المبتذلة، إلى مفهوم المقدس ومكانة الإنسان ودوره ومساحته المعرفية إزاءه، إلى مفهوم التاريخ وهل هو صيرورة وتجدد أم هو تراكم وثبات؟ إلى مفهوم النهضة وهل هي خلق وإبداع وابتكار أم هي ترداد وتكرار واستعادة؟ إلى مفاهيم العقل والأيديولوجيا والسياسة والحكم والديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان، إلى الدين والعقيدة والأخلاق.

ثمة مأزق فكري عربي راهن على الكاتب العربي أن يمتلك الشجاعة لتجاوزه، ويتمثل في غلبة النصية الجامدة وسيطرة النقل على العقل والاتباع على الإبداع، فقد ظل الكاتب العربي في الغالب رهين المرجعيات الماضوية والسلفية، وكان خروجه عليها عابراً ومكلفاً بحيث لا يلبث أن ينكفئ إلى كنفها موفقاً ملفقاً طالباً الأمان، وإن تحديد دور هذه المرجعيات وموقعها وتأكيد دور العقل وحريته في التفكير والاختلاف والابداع باعتباره المرجعية المركزية والأولية، هو الدور الراهن الذي يجب أن يضطلع به الكاتب العربي في مواجهة تحديات التقدم والتطور والحداثة.

 

إن الكاتب العربي مدعو إزاء المأزق النهضوي العربي الراهن إلى استئناف الإشكال المركزي الموؤد الذي باشره النهضويون التنويريون العرب، وأعني إشكال التمدن والحرية، التمدن بمعناه الحضاري الحداثي الشامل، والحرية بمعناها الإنساني المطلق والرحب.

إن الأخذ بهذه الإشكالات والمضي فيها إلى النهاية من دون عوائق وقيود هما في رأيي بداية الخروج من الضياع والانكسار والمسارات الخائبة، والاندفاع بثقة في عالم هذا القرن وبأيديولوجيات عقلانية غير مهددة بالأفول وتراكم الخيبات.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة