Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ستيفن كرين رمى الحلم الأميركي في مهب الريح ورحل مبكرا

"ماغي فتاة من الشارع" للكاتب النيويوركي على خطى إميل زولا ولكن...

ستيفن كرين (1871 – 1900) (موقع صندوق الشعر الأميركي)

لم يعش الكاتب الأميركي ستيفن كرين سوى 29 عاماً، إذ ما أطل عليه القرن العشرون حتى رحل عن عالمنا وفي جعبته كما كان يقول لمن حوله عشرات المشاريع التي يتطلع إلى تحقيقها. ومع ذلك فإن ما حققه بالفعل خلال تلك السنوات القليلة التي عاشها يكاد يكفي حياة طويلة لكاتب جعل الكتابة غايته ونيويورك ميدانه. ومهما يكن من أمر فإن كرين كان يصف نفسه بأنه نيويوركي بأكثر مما هو أميركي. وفي زمنه كان وصف المرء نفسه في ارتباطه مع تلك المدينة يعني نوعاً من ارتباط بأوروبا. ومن هنا ردت إليه أوروبا "التحية" فتلقفت أعماله وراحت تترجمها بحماس كان من العدوى بحيث إنه اجتذب له قراء أوروبيين كثراً، بل كانوا أكثر من قرائه الأميركيين. ولقد كان تتويج ذلك بالإشارة إلى أنه واحد من الروائيين الذين تأثروا بنزعة إميل زولا الطبيعية كاتباً على منوال صاحب "آل روغون - ماكار" الفرنسي، ولكن مع فارق أساسي يكمن في أنه إذا كان زولا قد أنهى رواياته غالباً ببصيص أمل في مجيء التقدم الاجتماعي كحل لمشكلات الشخصيات التي يرسم صورها في رواياته الأساسية ولا سيما إذا كانت تستحق تلك النهاية، فإن نهايات شخصيات كرين ولا سيما الأكثر استحقاقاً للغد المشرق كانت دائماً يائسة، وربما كنوع من الاستباق للنهاية البائسة والمبكرة التي كانت من نصيبه هو الآخر. ولئن كان كرين قد أصدر خلال حياته القصيرة نحو دزينة من روايات وكتب تحقيقات صحافية ومجموعات قصصية وكتب حتى أشعاراً نالت شهرة واسعة، فإن أشهر أعماله تبقى روايته "ماغي... فتاة من الشارع" التي صدرت عام 1896.

حكاية عائلية

تبدأ حكاية "ماغي... فتاة من الشارع" بجيمي، الصبي الذي نتعرف إليه صغيراً في المرحلة الأولى، فيطالعنا وهو يحاول بمفرده محاربة عصابة من الأولاد من حي معارض شعبي، ولكن في لحظة ما يكاد الفتيان يسحقونه فينقذه منهم صديقه بيت، ليعود جيمي كعادته في كل مرة إلى المنزل ونعود معه كي نتعرف إلى أخته ماغي وشقيقه الصغير تومي، ولكن كذلك إلى والده المتوحش السكير على الدوام كما سنفهم بسرعة، إضافة إلى أمه ماري. ولسوف نشهد نحن القراء حالة الرعب التي يعيشها الصغار جراء وحشية تعامل الوالدين، وهما من المهاجرين الإيرلنديين، معهم. وإذ تمر السنوات يموت تومي ووالده بينما يتحول جيمي إلى شاب ساخر وعدواني ومتهتك، لكنه مع ذلك يحصل على وظيفة كعضو في فريق الإطفاء في الحي، وهو منذ تلك اللحظة يمضي حياته كما يحلو له غير آبه بأي شيء أو أي شخص باستثناء عربات الإطفاء التي ستدمره. أما ماغي فتنطلق في العمل في مصنع للقمصان وكلها أمل في أن تعيش حياة أفضل، لكن محاولاتها لتحسين حياتها تبدأ بالانهيار بسبب الغضب المتواصل الذي تجابهها به والدتها وهي في حالة سكر شديد متواصل. وتبدأ ماغي في مواعدة بيت صديق جيمي القديم وجارهم في الحي، وهو يعمل الآن نادلاً. ويبدو أنه رفيق جيد للغاية، وجيد إلى درجة أنها تقتنع، كما يقتنع هو، بأنه سيساعدها على الهروب من الحياة البائسة التي تعيشها. وهو على أية حال يصحبها إلى المسارح والمتاحف منمياً لديها إحساساً جيداً بالحياة، ولكن سرعان ما يبدي جيمي وأمهما ماري تبرمهما بالصحبة القائمة بين الشابين وبالجيران إذ يلوكون سمعة ماغي. وتندلع في البيت معركة عنيفة حين يتهم جيمي وماري الصبية بالعهر، وإذ يصل بيت ويتدخل مدافعاً عن صديقته تكون النتيجة أن تطرد الفتاة من البيت وتهيم على وجهها في الشوارع. حتى وإن كان بيت سيصر على أن تبقى في رفقته فإنه سرعان ما سيتخلى عنها تحت ضغط امرأة من معارفهما، تقنعه بأن ماغي ليست أكثر من "مخلوقة شاحبة لا روح فيها". وهنا إذ ترتعب ماغي أمام فكرة أن تبقى وحيدة مهجورة تحاول العودة إلى البيت صاغرة، لكن أمها تعود إلى طردها من جديد فيما أخوها يبدي أقصى درجات اللامبالاة تجاهها.

نهاية على ضفة نهر

وهكذا في مشهد لاحق، تطالعنا في أحد الأزقة فتاة ليل سيتبين لنا مع تفرسنا فيها أنها ليست سوى ماغي وقد باتت الشوارع مأواها والليل عالمها كعاهرة، بالتالي ها هي ذي ماغي تتجول في الشوارع حيث باتت مهنتها ومأواها، وتنتقل إلى أحياء ستكون أسوأ وأسوأ تدريجاً حتى تصل ذات حين إلى النهر، وإلى ذلك النهر يتبعها ذات لحظة رجل بشع رث الثياب متجهم الوجه. ونفهم بسرعة أن نهاية ماغي ستكون على يديه لكننا لن نتابع هذا المشهد كما يحدث. كل ما في الأمر هنا أننا ننتقل إلى المشهد التالي، المشهد ما قبل الختامي الذي نرى فيه بيت يظهر وهو يشرب في صالون مع ست نساء رائعات مفعمات بـ"الذكاء والجرأة" كما تصفهن نيللي، المرأة التي كانت هي من نصحت بيت بالتخلي عن ماغي. ويحدث ذات لحظة أن يحدس بيت بما انتهت إليه حياة تلك المرأة التي أحبها يوماً ولكنه أسهم في دمارها، ويغمى عليه، وعندها يقوم شخص ما وربما تكون نيللي نفسها، بالاستيلاء على ما في جيوبه من مال تاركة إياه لمصيره. أما في الفصل الأخير فإن جيمي يخبر أمه بكل بساطة أن ماغي قد ماتت. وإذ يتجمع الجيران لاستطلاع ما يقال تصرخ الأم معبرة عن سخرية الأقدار "... وإنني سأسامحها على أية حال فقد كانت طفلتي بعد كل شيء!".

نسف الحلم الأميركي

الحقيقة أن ستيفن كرين قد عرف في هذه الرواية التي تمكنت من أن "تنسف" الحلم الأميركي باكراً، عرف كيف يجعل من روايته سجلاً حافلاً بموبقات وشرور كان كثر من الأميركيين يعتقدون أنهم تركوها وراءهم في أوروبا بمعنى أن "هذا لا يمكن أن يحدث عندنا". وللوصول إلى أقصى درجات اللؤم في هذا المجال تقصد الكاتب، وهو بدوره إيرلندي الأصل يتحدر من أول الإيرلنديين الذين هاجروا إلى أميركا، أن يجعل شخصيات روايته هذه من الفئة الاجتماعية نفسها بعد أن كان عدد لا بأس به من كتاب يحصرون الشرور والموبقات إما في الأقليات العرقية الأخرى أو في المهاجرين حديثاً إلى ذلك العالم الجديد، الذي كان ينتقل في تلك العقود بالذات من مجتمع الزراعة إلى مجتمع الصناعة. وهكذا لئن كان كرين قد ملأ روايته بكل ضروب الأنانية والتفاوتات الطبقية والتمييز الجنسي والنفاق الاجتماعي وغيرها من تلك الأمور التي كان الحلم الأميركي قد أخبر الأميركيين "الأقحاح" أنهم في منأى عنها، فإنه جعل منها صورة لتلك الحتمية التاريخية من دون أن يزعم أنه يعظ، أو حتى يريد أن يكون واعظاً في مجتمعات كان يدرك أن كل وعظ فيها سيذهب أدراج الرياح.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الموت الأوروبي

وعلى أية حال فإن ستيفن كرين (1871 – 1900) لم يعش كفاية ليشهد كيف ستنهار طبقات أميركية بأسرها كما انهارت بطلة روايته. وكان كرين واحداً من 14 ولداً لقسيس ومناضلة ضد إدمان الكحول. ولقد جعله هذا الانتماء يترعرع في مناخ ديني متشبع بالقيم الأخلاقية الصارمة، لكنه سرعان ما راح ينطلق على سجيته بروحه المتمردة الوثابة حين احترف مهنة الصحافة الاستقصائية ليشتهر بتحقيقاته حول حياة الحثالة في مدينة نيويورك بخاصة. وهو انطلاقاً من هنا جمع ألوف التفاصيل التي سيشتغل عليها عند كتابته روايته الأشهر التي نحن في صددها هنا. أما عند كتابته نصه التالي لها وعنوانه "تجربة في البؤس" فقد تنكر على شكل متشرد بثياب رثة وماكياج مريع ليلتحق بمأوى في منطقة باوري فتمكن بذلك من سبر حياة المشردين وكيف يعاملون في المآوي. أما كتابه "رجال في العاصفة" فقد كتبه بعد أن خاض، عن تعمد، تجربة الوقوف ساعات في الصف أمام فرن من الأفران كي يحصل على رغيف من الخبز. وهو توفي في عام 1900 إذ أصيب بداء السل، المميت حينها، فيما كان في ألمانيا يقوم بتحقيق ضمن إطار عمله الصحافي.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة