120 عاماً مرت على وفاة الشاعر والكاتب الأميركي ستيفن كرين (1871 ــ 1900) وما زال نجمه يلمع، لكن في الظل. ولدفع هذا العملاق إلى دائرة الضوء وتبديد الإهمال الجائر الذي يخضع له منذ عقود، وضع مواطنه، الكاتب بول أوستر، سيرة جديدة له بعنوان "الفتى المشتعل، حياة وأعمال ستيفن كرين"، صدرت حديثاً عن دار "ليتل براون"، بالتزامن مع ترجمتها الفرنسية التي صدرت عن دار "أكت سود". كتاب ضخم يقع في ألف صفحة، ويقترح صاحب "ثلاثية نيويورك" فيه قراءة متأنية وعميقة ليس فقط لحياة كرين المليئة بالأحداث والمحطات، على الرغم من قصرها، بل أيضاً لعمله الروائي والقصصي والشعري الفريد، متوقفاً كما لم يتوقف أحد قبله عند سيرورة إبداعه المدهشة، ومانحاً إيانا بذلك نصاً يُقرأ بمتعة وإثارة نادرتين.
نتاج كرين الكتابي، الذي يبتعد شكلاً ومضموناً عن كل ما سبقه، كان أيضاً راديكالياً بالنسبة إلى زمنه، ولذلك لا يبالغ أوستر في اعتباره أول كاتب أميركي حداثي، وذلك الذي "تمكن من قلب طريقة نظرتنا إلى العالم بموشور النص". إنجاز فريد حققه في ثماني سنوات فقط، وضع خلالها ست روايات، وعشرات القصص، ومجموعتين شعريتين وأكثر من مئتي مقالة صحافية تضارع في قيمتها أعماله الأدبية.
حول النهج الذي اعتمده في كتابه، يقول أوستر، "لا أقارب كرين كباحث متخصص، بل ككاتب عجوز مليء بالإعجاب بعبقرية كاتب شاب. بعدما أمضيت العامين الماضيين منغمساً في قراءة كل نصوصه ورسائله المنشورة، وجمع كل ما هو متوافر من معلومات حوله، ما زلت مفتوناً بحياته المحمومة، المليئة بالتناقضات، وبالآثار التي تركها خلفه. حياة مدهشة وفريدة، تتميز بمجازفات نزوية، بنقص مدمر في الإمكانات المادية، وبتفان شرس لدعوته ككاتب دفعه من موقف غير محتمل وخطير إلى آخر".
الرحيل المبكر
وفعلاً، نعرف من أوستر أن مقالاً استفزازياً كتبه كرين في سن العشرين بلبل مسار حملة الانتخابات الرئاسية في أميركا عام 1892، وأن مدافعته عن حقوق فتاة هوى ضد دائرة الشرطة أجبرته على مغادرة نيويورك عام 1896، وأن غرق السفينة التي كان على متنها عام 1897 قبالة شواطئ فلوريدا كاد يودي بحياته، وأنه عقد قراناً مدنياً مع صاحبة أرقى بيت دعارة في مدينة جاكسونفيل، وعرّض عمداً حياته إلى الخطر خلال تغطيته للمواجهة العسكرية بين إسبانيا وأميركا في كوبا كمراسل حربي، "كما لو أنه أراد معانقة موت سريع، لا الموت البطيء الناتج من اهتراء رئتيه من التدخين"، وأنه في السنوات الأخيرة من عمره التي أمضاها في إنجلترا كان صديقاً حميماً لجوزيف كونراد وهنري جايمس اللذين بكيا وفاته المبكرة.
نعرف من أوستر أيضاً أن هذا الكاتب المعروف، خصوصاً من خلال تصويره المذهل لجحيم الحرب في رائعته الأدبية "شارة الشجاعة الحمراء" (1895)، قارب بنبوغ وفرادة مواضيع أخرى، كالنصوص التي وضعها حول أطفال صغار أو فنانين بوهيميين يكافحون للبقاء على قيد الحياة، تلك التي وصف فيها أوكار الأفيون في نيويورك، ظروف العمل المخيفة في مناجم الفحم في ولاية بنسيلفانيا أو الجفاف المدمر الذي ضرب ولاية نبراسكا. ومثل إدغار ألان بو الذي غالباً ما اعتُبر على خطأ، إنه مجرد مبتكر معتم لمناخات مرعبة، في حين إنه كان أيضاً شديد الطرافة، كان كرين قادراً على الخروج من مواضيعه المظلمة والتسلح بالفكاهة. وتحت فيض نثره، أو بالأحرى على قمته، لدينا قصائده التي يرى أوستر أن عدداً قليلاً جداً من النقاد والجامعيين نجحوا في مقاربتها، نصوص تبتعد عن الأعراف التقليدية للكتابة الشعرية في القرن التاسع عشر (بما في ذلك كتابة ويتمان وديكنسون) إلى حد نادراً ما اعتُبرت فيه شعراً، مع أنها "تترسخ في الذهن بإصرار أكثر من معظم القصائد الأميركية التي تتبادر إلى ذهني".
الشجاعة الحمراء
المدهش في مسيرة كرين الكتابية، بالنسبة إلى أوستر، هو أن ثلثي نصوصه كتبها خلال خمس سنوات فقط (1891 ــ 1896). وحين يتأمل في إنتاج هذه الفترة، يصعب عليه تصديق أن هذا العبقري لم يمضها في الكتابة أربعاً وعشرين ساعة في اليوم، وإلا كيف يمكن تفسير وضعه خلالها روايتين قصيرتين "ماغي" و"والدة جورج"، وروايتين طويلتين "شارة الشجاعة الحمراء" و"البنفسجة الثالثية"، و"سرديات كونتية سوليفان"، وديوان "الفرسان السود"، وسرديات الحرب الأهلية الأميركية التي جمعها في "الكتيبة الصغيرة"، وأكثر من مئة عمل خرافي أو بحث، وجميع المقالات التي رصدها لمدينة نيويورك؟ ولأن كل هذه الكتب والقصائد والسرديات والمقالات، المختلفة نوعاً ومقاربةً، حضرت إلى ذهن كرين وأسقطها في الفترة نفسها، يخلص أوستر إلى اعتبار أن ثمة ناراً اشتعلت فجأةً داخله. ولذلك، نراه في السيرة التي كرسها لمواطنه يستثمر خبرته الأدبية وكل طاقاته الفكرية والتحليلية لكشف أسباب هذا "الحريق" والإجابة عن السؤال الآتي، "كيف تمكن هذا الشاب الذي كان يدعي أنه "بدأ الحرب من دون موهبة" من كسب هذا الكم من المعارك ضد نفسه ومن كتابة هذا الكم الهائل من الأعمال الرائعة والأصيلة؟".
وفي معرض إجابته، لا يترك أوستر أثراً من حياة كرين أو أعماله من دون أن يتأمل فيه بعمق ويحاول قراءته. وإذ لا مجال هنا للتوقف، ولو بشكل ملخص، عند جميع هذه التأملات التي تنير مسيرة كرين الخاطفة في هذه الدنيا وعمله الكتابي، نكتفي بنقل بعض ما يقوله صاحبها في أبرز نصوصه. ففي المحاولات الكتابية الأولى (1891 ـ 1892) التي أسف كرين على عدم "رميها في القمامة"، يعتبر أوستر أنها تستحق كل اهتمامنا نظراً إلى تضمنها "إشراقات نثرية مدهشة وجملاً مشحونة بالطاقة ترتجف وتتراقص على الصفحة، وأفكاراً وبذور أفكار لن تلبث أن تتفتح في أعماله اللاحقة".
ففي النصوص غير الخرافية من هذه المحاولات، يرى أوستر أن "كرين يستكشف ليس فقط أساطير الماضي، بل ينزع عنها صفتها الأسطورية"، كما في بحثه القصير "هندي الموهيكان الأخير"، وفي بحث آخر بعنوان "بطل بائس جداً"، حيث يستعيد أسطورة توم كويك، الذي لمع نجمه في محاربة الهنود، لإظهار أنه لم يكن سوى "مجرد قاتل". وفي سردياته الخرافية، يرى أوستر أنها تتسم بتلك المميزات الشكلية والموضوعية التي ستتواتر في عمل كرين الكتابي، مثل "الاستخدام الكثيف لصورية الألوان للتعبير عن الحالات العاطفية والتجارب الحسية، وموهبة الاستعارات غير المتوقعة والمقارنات الصادمة، ورؤية حيوية روحانية للطبيعة تحضر الأشجار والحجارة والنباتات فيها حية، وابتكار شخصيات توكد عزلة الإنسان داخل عالم غير مبال، وتفحص دقيق لميتافيزيقا الخوف، ذلك الشعور الذي يعبر جميع فقرات "شارة الشجاعة الحمراء". ويضيف أوستر، "كرين لا يحكم على أفعال شخصياته، بل يحافظ على مسافة منها، ولا يتدخل في الحدث الذي يصفه، بل يدعه يتحدث عن نفسه، مقدماً وجهة نظر دقيقة بصيغة المجهول اعتمدها حتى نصه الأخير. وجهة نظر تترك بثرائها بالمجازات والغنائية الملازمة لها أثراً بليغاً على القارئ وشعوراً بغرابة، تطور داخل جميع كتاباته اللاحقة.
حلم محموم
وعن "ماغي، فتاة الشوارع" (1893)، يقول، "إنه واحد من الكتب الأقل هزلية وخفة على الإطلاق، بورتريه لا هوادة فيه لأحياء نيويورك الفقيرة، رفض أي ناشر لمسه لتشكيله نقيض التفاهات الأخلاقية الورعة لحقبته. رواية صغيرة من 72 صفحة لا شيء مما كتبه كرين أو غيره قبلها يمهد لها. صحيح أن ديكورها مألوف لقراء زمنها، مثل حبكتها التي تتبع أعراف الميلودراما في القرن التاسع عشر (من دون إشراقة النهاية السعيدة)، لكن من الناحية الأسلوبية، إنها إعلان حرب، ولها مفاعيل حلم محموم. إنها منطقة صراع ذهني تنخرط فيها شخصيات بشعة متحولة في صراع مستمر في ما بينها. وهي ليست شخصيات روائية بقدر ما هي تجسيدات معاصرة لوجوه الملاحم الأيسلندية الأكثر دموية، كائنات أسطورية في أزياء تسعينيات القرن التاسع عشر، قوى نموذجية بدائية تحيا خارج الزمن. ونتيجة لذلك، لم يحدد كرين أي عنوان أو تاريخ في هذه الرواية. وحتى المنطقة التي تعيش فيها شخصياتها لا وجود لها على أي خارطة لنيويورك".
ويضيف، "يفلت هذا النص من جميع التصنيفات الجامدة. إنه قصيدة رؤيوية غريبة، إسقاط للحياة الداخلية لشاب داخل مشهد خيالي يحدث أن ينطبق على مدينة نيويورك، لكنه ليس نيويورك في الواقع، بل مكان لا وجود له إلا في رأس الكاتب. لذلك، يبدو هذا الكتاب حديثاً، ولا يتوافق مع ما كان يبدو ممكناً في أميركا آنذاك".
أما اللغة العامية لأحياء نيويورك الفقيرة التي يستخدمها المتصارعون في هذه الرواية، فتخلق وفق أوستر "مفعول مباعدة نجده في أول قصص جيمس جويس وهمنغواي، في روايات ألبير كامو وأعمال عدد كبير من كتاب القرن العشرين. لكن كرين هو أول من استخدم هذه النبرة. وبتأمله في المذبحة التي تسببت بها شخصياته، بالعين الجامدة لمراسل الحرب الذي كانه، فتح هذا العملاق إمكانيات جديدة للرواية، تبتعد عن طبيعية إميل زولا المرهقة وواقعية هاولز المصقولة، لابتكار أدب يقوم على السرد الصافي فحسب، بلا تحليل اجتماعي أو دعوة إلى الإصلاح أو تأمل سيكولوجي. للمرة الأولى في رواية أميركية، لا نقول للقارئ ما عليه أن يفكر، بل فقط أن يختبر ما يحدث داخلها ويستخلص استنتاجاته الخاصة".
صوت الراوي
وفي رائعة كرين الأدبية "شارة الشجاعة الحمراء"، يقول أوستر إن مواطنه كتبها قبل ثلاثين عاماً من الحرب الأهلية الأميركية وقبل أن يختبر الحرب بنفسه، وإن الرواية مجدِّدة على المستويين الأسلوبي والسيكولوجي. ومع أنها وصفت غالباً برواية حربية، إلا أن صاحبها لا يركز على المعارك فيها بقدر ما يركز على سيكولوجيا شخصيتها الرئيسة، هنري، وعلى ردود فعلها على الحرب. "رواية كثيفة إلى حد تبدو كل فقرة فيها جوهرية. إذ لا هدنة فيها ولا أي عنصر فائض أو فقرة تصرف الانتباه عن جوهر القصة. ولهذا السبب أثار هذا الكتاب جلبة كبيرة عام 1895، وبقي حياً إلى حد اليوم. سبب لا يكمن في القصة نفسها بقدر ما يكمن في طريقة سردها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضيف أوستر، "العناصر الثلاثة الرئيسة التي يستخدمها كرين لتشييد هذا النص هي المناظر الطبيعية، رفاق هنري الجنود والأفكار التي تدور في ذهنه. وثمة عنصر رابع، مخفي غالباً، هو صوت الراوي، الذي نسمعه بوضوح في الفقرة الأولى والأخيرة من النص، لكنه لا يصلنا في الفقرات الأخرى إلا من خلال ما يدور في ذهن هنري المذعور، ما يخلق عالماً مغلقاً من ذاتية راديكالية بحيث التمييز بين الواقع والخيال غالباً مستحيلة، وأحياناً إلى حد تبدو القصة المروية فيه كسردية حلم يقظة، أو حتى هلوسة".
أما في شعر كرين، فيوضح أوستر أن مواطنه "اتخذ باكراً في كتابته منعطفاً مفاجئاً وغير متوقع عام 1894، ووجد نفسه يكتب قصائد واحدة تلو الأخرى، حتى أصبح لديه ما يكفي لديوان. قصائد قصيرة في معظمها، بعضها يتكون من ثلاثة أو أربعة أبيات فقط، وجميعها مصوغ بشكل غريب، ملغز". نصوص لم تكن تبدو كقصائد في نبرتها ووقعها وشكلها الحر، المجرد من القافية والوزن، ونادراً ما أطلق كرين عليها هذه التسمية، مفضلاً المصطلح الأكثر تواضعاً الذي اختاره لها، "أبيات"، الذي كان يتغير أحياناً إلى "أقراص"، بالإشارة إلى أقراص الدواء المرة. لكن مع ذلك، وعلى الرغم من كل شيء، كانت قصائد". "نصوص مصفاة ومختزلة إلى أبعد حد، وبدائية وغير غنائية إلى درجة يبدو الشعر أقل مرئية فيها منه في نثره".
ضد الأعراف
ولا شك في أن تناقض هذه النصوص الراديكالي مع القصائد المنمقة، "الأدبية بإفراط"، التي كانت تمثل الشعر "الجيد" في أميركا آنذاك، وعدائية صاحبها تجاه الأعراف المعتمدة، جعلا معظم قراء الشعر في زمنه ينظرون إليه "كشخص دخيل وبربري، قروي وعصامي، لا يعرف أي شيء عن التقنيات الشعرية". لكن مرور الزمن غير هذه النظرة، كما يشهد على ذلك تأكيد الشاعر جون بيريمان عام 1950 أن "كرين هو أهم شاعر أميركي منذ ويتمان وديكينسون، وبين معاصريه روبنسون وفروست وباوند".
ويرى أوستر أن نصوص ديوان كرين الأول "الفرسان السود" (1895) انبثقت داخل ذهنه بشكل محموم، "كما لو أن صوتاً سجيناً داخله تحرر فجأة". ومع أن منبعها جف بسرعة، إلا أنه تابع عمله بهدوء على قصائد جديدة، بين عشرين وثلاثين نصاً، شكلت نواة ديوان "الحرب رقيقة" (1899). وكتبها بأساليب ونبرات أكثر تنوعاً من الأولى، مدشناً فيها "ميداناً جديداً من الجرأة الغنائية". نصوص تتسم، وفقاً إلى أوستر، بـ"حسية جديدة ومعرفة متطورة وثرية لتدرجات الرغبة الإروسية"، وشيد كرين في بعضها "ثيولوجيا قاتمة وصارمة للإنسان ككائن معزول داخل عالم بلا خالق".
يبقى أن نشير إلى أن أوستر لا يكتفي بتحليل أعمال كرين الرئيسة بحماسة وعمق نادرين، بل يعمد في إطار هذه المهمة إلى منحنا أيضاً فكرة مفصلة عن أميركا في نهاية القرن التاسع عشر، من دون أن يهمل رفاق درب الشاعر الذين أثبتوا له عن "أخوة مرهفة وصادقة هي، في عالم لا معنى له، خط الدفاع الوحيد للإنسان ضد اليأس المطلق". والنتيجة؟ سيرة نهائية لكاتب عظيم تُشبِع قارئها، وفي الوقت نفسه، تؤجج رغبته في قراءة كرين بنفسه. سيرة قال الروائي الكبير راسل بانكس فيها، بعد قراءتها، "التزام أوستر الكلي والاستحواذي تجاه ستيفن كرين، الطفل الرهيب للأدب الأميركي في القرن التاسع عشر، استثنائي ومدهش. إتقانه للظرف التاريخي، تغلغله داخل شخصية كرين (حيث يلجأ إلى كل مهاراته وخياله) تحليل النصوص: كل شيء رائع تماماً. وكم أن نثره جميل وواضح وشفاف، ومع ذلك غنائي وشخصي (...). أكثر من رواية، أكثر من سيرة أو من عمل تحليلي نقدي، إنها عمل أدبي مذهل، وأعمق احتفاء قرأته لكاتب بكاتب آخر".