زادت جلسة البرلمان اللبناني لانتخاب رئيس للجمهورية التي انعقدت، الخميس 29 سبتمبر (أيلول)، من دون التوصل إلى نتيجة، الغموض حول الاستحقاق الرئاسي اللبناني بدلاً من أن تفرز معطيات جديدة تؤشر إلى هوية الرئيس الجديد، بعد انتهاء ولاية الرئيس الحالي العماد ميشال عون في 31 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.
وفي السعي للإجابة على السؤال حول "ما بعد"، تعددت القراءات لنتائج الجلسة النيابية سواء حول أسماء المرشحين الذين سيبقون في ميدان المنافسة، وحول مصير الاستحقاق الرئاسي وإمكان تفادي الفراغ في الرئاسة بعد انتهاء ولاية عون، إذا تكرر سيناريو عجز البرلمان عن انتخاب الرئيس الجديد، فيما عاد الحديث بقوة إلى استحقاق تشكيل الحكومة برئاسة نجيب ميقاتي، كي تحصل على ثقة البرلمان وتتولى صلاحيات الرئاسة في حال تعذر انتخاب الرئيس الجديد.
وإذ افترض الوسط السياسي أن البرلمان كان سيشهد منافسة بين مرشح يدعمه تحالف فريق السياديين والتغييريين والمستقلين وفريق "الممانعة" المؤلف من "حزب الله" وحركة "أمل" و"التيار الوطني الحر" وحلفائهم، فإن الفريق الثاني تجنب طرح المرشح المفضل لدى "حزب الله" وأمل" النائب السابق سليمان فرنجية نظراً إلى رفض رئيس "التيار الحر" النائب جبران باسيل التصويت له، واختار التصويت بالورقة البيضاء منعاً لانكشاف خلافاته، فجمع لها 63 صوتاً، أي بصوتين إضافيين على تعداده الأساسي، 61 صوتاً من أصل 128 نائباً هو كامل البرلمان.
خلافات الفريق السيادي - التغييري
أما الفريق الأول المؤلف من السياديين والتغييريين والمستقلين، فانكشفت خلافات تلاوينه بخوضه المبارزة بمرشحين، ميشال معوض الذي نال 36 صوتاً مع أربعة آخرين اضطروا للتغيب كانوا سيمنحونه أصواتهم كما قال، وسليم إده الذي رشحته كتلة النواب التغييريين (13 نائباً) بعد أن رفض ثلاثة من أعضائها الانضمام إلى كتلة أحزاب "القوات اللبنانية" والتقدمي الاشتراكي" و"الكتائب" و"التجدد" في دعم معوض، بحجة أنه ينتمي إلى المنظومة السياسية الحاكمة على الرغم من أنه انشق عنها إثر احتجاجات 17 أكتوبر (تشرين الأول) في عام 2019 فانسحب من تكتل "لبنان القوي" الذي يرأسه رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل، ثم استقال من البرلمان بعد انفجار مرفأ بيروت الكارثي في 4 أغسطس (آب) 2020. وتشتت أصوات السياديين والمستقلين أيضاً بسبب رفض كتلة "الاعتدال الوطني" التي تضم أربعة نواب سنة وعلوياً وأرثوذكسياً في عكار التصويت لمعوض، إضافة إلى نواب سنة آخرين من بيروت وطرابلس، فاختاروا التصويت بعبارة "لبنان"، بينما صوت أحد زملائهم من عاصمة الشمال لـ"نهج رشيد كرامي"، رئيس الحكومة السابق الذي اغتيل في ثمانينات القرن الماضي. واختار آخر أن يكتب على ورقة الاقتراع اسم الناشطة الإيرانية الكردية التي أدى مقتلها على يد شرطة الأخلاق في إيران، "مهسا أميني"، إلى اندلاع الاحتجاجات الشعبية التي ما زالت تشهدها المدن الإيرانية.
عجز الفريقين عن توحيد صفوفهما
في تقييم النتائج اعتبرت أوساط الأحزاب الرئيسة لا سيما "القوات" و"الاشتراكي" في الفريق السيادي، أنها حققت إنجازاً في توحيد صفوفها حول ترشيح معوض، وأن صب أصواتها لمصلحته برهن عن وجود مرشح جدي يشكل قاعدة انطلاق على الرغم من افتراق التغييريين ومعظم النواب السنة السياديين، آملين أن تؤدي المرحلة المقبلة من الحوار معهم ومع النواب السنة المستقلين والشماليين إلى إعادة التفاهم على دعم معوض، وفي حال تعذر ذلك على دعم مرشح آخر يحوز على الأكثرية المطلقة المطلوبة في الدورة الثانية من الاقتراع. إلا أن شكوكاً تحوم حول هذه التوقعات لأن سجالاً دار بين النائبة في كتلة "التغييريين" حليمة القعقور وحزب "القوات اللبنانية"، إذ إنها اتهمت نوابه بأنهم أسهموا في تطيير نصاب الجلسة النيابية، بينما تطيير النصاب حصل بانسحاب نواب "حزب الله" و"أمل" للحيلولة دون انتقال البرلمان إلى الدورة الثانية من الاقتراع بعدما تعذر حصول أي مرشح على أكثرية الثلثين وفق القاعدة الدستورية.
ومع هذا السجال رأى بعض السياديين أن فريق الممانعة بدا مضعضعاً لرفض جهة أساسية فيه هي "التيار الحر" ترشيح فرنجية، فيما يعجز "حزب الله" عن الضغط عليه للحصول على تأييده. كما أن السياديين يرون أن ترشيح معوض يلغي ترشيح فرنجية حتى لو لم يُطرح اسمه خلال الجلسة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن أوساط قوى الممانعة وحلفاء "حزب الله" اعتبرت أنها حافظت على وحدة موقفها عبر الورقة البيضاء، ولم تكشف أوراقها لخصومها، وصانت بهذا الموقف مرشحها المفترض سليمان فرنجية، ولم تحرق ترشيحه. ورأت أوساط حلفاء "الحزب" أن الخصوم أحرقوا ورقة معوض في المقابل لا سيما أنه لا إجماع عليه من تلاوينهم المتعددة، وأن التغييريين رشحوا سليم إده مقابله. وفي تقييم المقربين من "حزب الله" أن بروفة الجلسة أثبتت أنه أقدر على تجميع العدد الأكبر من الأصوات عبر الورقة البيضاء، الذي يمكنه الانطلاق منه في أي جلسة لاحقة للحصول على بضعة أصوات تضمن لمرشحه أكثرية الـ65 صوتاً.
ماذا بعد؟
موضوعياً، احتضنت الجلسة تنافساً بين مرشح واضح للفريق السيادي، والورقة البيضاء لفريق الممانعة، ما يعني أنها منافسة ناقصة، وبات السؤال حول ما بعد، ومتى تنعقد الجلسة المقبلة، قبل انتهاء ولاية عون، فيما غلبت التكهنات بأن الجلسة حققت للرئيس بري إمساكه بالمبادرة. فهو فضلاً عن أنه لبى واجباً دستوراً كان بعض الفرقاء خصوصاً المسيحيين يتهمونه بأنه يتلكأ في القيام به، ترك الالتباس قائماً حول قدرة أي من الفريقين على تأمين نصاب الثلثين كي تنعقد الجلسة لمصلحة مرشحه، على افتراض اتفاق أحد المعسكرين على اسم يضمن الأكثرية المطلقة. كما أن بري استبق ما ينص عليه الدستور حول حق النواب في الاجتماع تلقائياً لانتخاب الرئيس، في الأيام العشرة الأخيرة من المهلة الدستورية، إذا لم تتم دعوة البرلمان إلى القيام بذلك من قبل رئيسه، فقطع الطريق على هذا الاحتمال لمجرد أنه دعا إلى الجلسة، فحفظ لنفسه صلاحية توقيت الدعوات اللاحقة، لكنه ربط تحديد الجلسة المقبلة بـ"التوافق" على اسم الرئيس، العبارة التي يرددها منذ أسابيع. ونظراً إلى صعوبة التوافق في المنظور القريب فإن معظم الوسط السياسي اعتبر أن الجلسة كانت منصة من أجل تبرير رجحان كفة الفراغ الرئاسي، لأن فريق الممانعة غير جاهز بعد لانتخاب رئيس، سواء كان مرشحه الفعلي سليمان فرنجية أم غيره.
غياب التوافق والعودة إلى حكومة تدير الفراغ
ما عزز الترجيحات بالفراغ الرئاسي أن التسريبات حول العودة إلى تنشيط الاتصالات حول تأليف حكومة تدير الفراغ، يصر "حزب الله"على إزالة العقبات من أمامها، تصدرت أنباء اليوم التالي للجلسة. ومجدداً غلب على هذه التسريبات أن "الحزب" مارس ضغوطاً جديدة على حليفه باسيل كي يتخلى عن شروطه التي وُصفت بالتعجيزية حول مطالبه من الحكومة الجديدة من قرارات وتعيينات، وأن الوسيط الموثوق المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم استأنف اتصالاته مع عون وباسيل من جهة، وميقاتي من جهة ثانية، للوصول إلى صيغة حكومية مقبولة. وبددت هذه التسريبات ما قيل فور الدعوة التي وجهها بري لانعقاد جلسة انتخاب الرئيس، بأنه بذلك يبعد معضلة تأليف الحكومة عن المسرح السياسي طالما أن البرلمان سيتحول إلى هيئة ناخبة. لكن عدم إنتاج رئيس وتأجيل الجلسة الثانية وربطها بالتوافق على شخص الرئيس، يعيد الصفة التشريعية للبرلمان كي يجتمع ويناقش الحكومة الجديدة المفترضة في بيان وزاري تطلب الثقة على أساسه.
العودة إلى أولوية تأليف الحكومة مردها في نظر مصادر نيابية سيادية إلى أن الفريق الأقوى في المعادلة اللبنانية، أي "حزب الله"، غير جاهز حتى للبحث في أي توافق على الرئيس المقبل لأنه ينتظر محطات عدة أبرزها اتضاح جهود ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل بوساطة أميركية. فالتوصل إلى الاتفاق مؤشر إلى مستقبل التعاطي الأميركي مع لبنان. كما أن "الحزب" يتوجس من دور أميركي وفرنسي وسعودي في ترجيح كفة مرشحين يجري تداول أسمائهم، ومنهم ميشال معوض الذي أفادت المعلومات بأنه يحظى بقبول أميركي وسعودي. ويخشى الحزب من تمرير أي رئيس جديد يكون متعاوناً مع أميركا التي تمارس ضغوطاً متصاعدة عليه وعلى إيران عبر المزيد من العقوبات على تصدير نفطها والجهات التي تتعامل معها، في وقت يواصل رموز السياديين حملتهم على ما يسمونه "الاحتلال الإيراني" للبنان، ويطالب بعضهم بنزع سلاحه، فيما يصر آخرون على أن يكون موضوع الاستراتيجية الدفاعية لاستيعاب السلاح على أجندة الرئيس الجديد. وهذه الأسباب وغيرها تجعل "حزب الله" متريثاً في انتخاب الرئيس ولذلك يميل إلى تفضيل الفراغ في انتظار اتضاح الرياح الإقليمية.
الموقف الخارجي من الرئاسة
وفي كل الأحوال فإن القوى الخارجية المعنية بلبنان باتت تعتبر الانتخابات الرئاسية محطة رئيسة لتغيير وجهة الأزمة اللبنانية، بقيام سلطة سياسية أداؤها مناقض تماماً لأداء الرئيس عون الحليف لـ"الحزب" على مدى السنوات الست الماضية، وهو ما عبر عنه البيان الثلاثي السعودي- الأميركي- الفرنسي في نيويورك في 22 سبتمبر (أيلول) الماضي، الذي شدد على رئيس يمكنه توحيد لبنان وتطبيق القرارات 1559 (يتناول نزع سلاح الميليشيات) و1680 (يتعلق بضبط وترسيم الحدود مع سوريا وبسط سلطة الدولة عليها) و1701 (في شأن الجنوب).
وتفيد المعطيات الدبلوماسية أن المجتمع الدولي والدول العربية والخليجية غير مستعدة لدعم لبنان مالياً في مواجهة أزمته المتفاقمة، إذا لم يتم تصحيح مسار السلطة السياسية فيه بدءاً من الرئاسة وفك ارتباط "الحزب" بالأزمات الإقليمية وإلحاقه لبنان الرسمي بالمشروع الإيراني. وهذا أمر يدفع "حزب الله" إلى تأخير انتخاب الرئيس لعل الشروط التي تتناول دوره في تركيبة السلطة تتغير ويعتمد في الظروف الحالية خطاباً ضد "التدخلات الأميركية" في لبنان، التي يعتبرها إملاءات وحصاراً على لبنان.