Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تساؤلات المرحلة... أزمة سد النهضة إلى أين؟

بين أوراق القاهرة ومصالح السودان واستراتيجية إثيوبيا

يمكن رصد بعض التصريحات السياسية التي تشير على نحو ما إلى حال تململ واضحة قد تعقبها متغيرات جديدة في أزمة سد النهضة (أ ف ب)

تبدو أزمة سد النهضة مثيرة لكثير من التساؤلات في هذه المرحلة عقب الملء الثالث لبحيرته وتوقف المفاوضات بين الدول المعنية الثلاث لما يزيد على عام، في وقت تحافظ كل الأطراف على مواقعها من الأزمة من دون التحرك قيد أنملة نحو الحل.

وفي هذه السياق يمكن رصد بعض التصريحات السياسية التي وإن أعادت تكرار مواقفها، لكنها تشير على نحو ما إلى حال تململ واضحة قد تعقبها متغيرات جديدة تعود لعدد من العوامل المتعلقة ببعض أطراف الأزمة.

ونستطيع أن نرصد اهتمام مصر بالتأكيد على موقفها سياسياً وإجرائياً في أزمة سد النهضة، إذ أكدت كلمة وزير الخارجية المصري سامح شكري أمام الدورة الـ 77 للأمم المتحدة بنيويورك على ضرورة التوصل إلى اتفاق ملزم حول ملء وتشغيل السد الإثيوبي.

أوراق القاهرة

وأشار شكري على نحو واضح إلى تنوع الأوراق التي تملكها القاهرة، وربما يكون قوله "يخطئ بعضهم إذا تصور أن التمسك بتطبيق الوسائل السلمية لتسوية النزاعات المائية يأتي من قبيل الضعف، بل إنه ينبع من مكمن قوة"، مؤشراً على ما تملكه مصر من قدرات تسعى إلى أن تكون إضافة للأمن الإقليمي الأفريقي العام وليست مهددة له، خصوصاً أنه طبقاً لكلمات الوزير فلا مجال للتهاون في حق الشعب في الوجود الذي ارتبط بنهر النيل منذ فجر التاريخ.

أما على المستوى الإجرائي فإن القاهرة تحاول دائماً القيام بأمرين، الأول الحفاظ على مستوى من العلاقات مع السودان يسمح بالتنسيق الدائم في هذا الملف على رغم الأزمات الداخلية التي يعانيها، وعلى مستوى مواز فإنها تحاول أن تحافظ على موقف عربي مناصر لها وللخرطوم بهذا الملف الحساس لدولتي الممر والمصب.

وطبقاً لذلك فربما تكون المحادثات التي أجراها الفريق عبدالفتاح البرهان في القاهرة والبيان الصادر عنها مؤشراً إلى مدى اهتمام مصر بالتنسيق، وربما التحالف مع السودان، في ملف يشكل تهديداً للبلدين ولشعبي وادي النيل.

الروافع الدبلوماسية

أما على المستوى العربي فإلى جانب الدبلوماسية الرئاسية التي يمارسها الرئيس عبدالفتاح السيسي ويسعي فيها إلى تأمين موقف عربي مساند لحق شعبه في الحياة، فإن الجامعة العربية ربما تكون من أهم الروافع للدبلوماسية المصرية - السودانية المشتركة في قضية سد النهضة، إذ إن موقف الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط قد تبلور في أنه لا يمكن للمجتمع الدولي أو دول المصب أن تقبل فرض إثيوبيا إرادتها ضد القانون الدولي والقواعد الخاصة بالأنهار الدولية، وهو موقف يعبر عنه أبو الغيط في كل لقاءاته الدبلوماسية مع الأطراف الدولية.

أما على المستوى الإثيوبي فربما تغيرت لهجة الخطاب السياسي الإثيوبي أثناء ملء بحيرة السد من خطابات عدائية إلى خطابات جديدة تدعو إلى استئناف التفاوض في شأن الأزمة، وذلك من دون التحدث عن تغير إجرائي من قبيل التفاهم حول قواعد الملء والتشغيل.

وتحت مظلة هذه التفاعلات هناك بعض التكهنات في شأن إمكان إيجاد مخارج ما في التوقيت الراهن، ربما تكون متأثرة بتنشيط الملف على المستوى السياسي من جانب الأطراف، وربما تكون متأثرة أيضاً بعوامل سياسية عالمية، وكذلك بعوامل فنية مرتبطة بعملية ملء السد وتشغيل التوربينات الخاصة به تجعل من إثيوبيا أكثر قابلية لحل الأزمة.

الانشغال العالمي بالحرب

وعلى المستوى السياسي الدولي فإن الانشغال العالمي بالحرب الروسية - الأوكرانية يجعل إمكان انفلات الموقف ممكناً على المستوى الإقليمي، إذ إن الإدارة الأميركية تبدو منشغلة بل ومرتبكة بتطورات أزمة الحرب أكثر من اهتمامها بأي ملف آخر، وذلك بالنظر إلى ارتباط نتائج الحرب بطبيعة النظام الدولي على الصعيد المستقبلي من ناحية، وطبيعة وزن وتأثير الولايات المتحدة فيه من ناحية أخرى.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن هنا لا يبدو أن الجولة المكوكية التي أجراها المبعوث الأميركي للقرن الأفريقي خلال يوليو (تموز) الماضي حول سد النهضة قد أسفرت عن نتائج ملموسة تغير مواقف الأطراف، أو قدرة الاتحاد الأفريقي على تحقيق اختراق في الموقف لمصلحة الدفع نحو استئناف المفاوضات، وذلك على رغم عدم قدرة مجلس الأمن على القيام بهذا الدور.

ونظراً إلى عوامل عدة قام مجلس الأمن بتكييف الأزمة على أنها فنية لا سياسية، مخافة أن تشكل سابقة يتم الاعتماد عليها في التفاعل مع مشكلات مماثلة لدول مؤثرة في النظام الدولي مثل الصين التي لديها مشكلات في بحر الصين الجنوبي، خصوصاً مع التصعيد الأميركي ضدها بسبب إنشاء بكين مجموعة على الجزء العلوي من النهر الذي تتشارك حوضه ست دول، حيث سمحت سدود الصين بسيطرتها على المياه التي تتدفق إلى كل من لاوس وميانمار وتايلاند وكمبوديا وفيتنام.

القاهرة غير منزعجة

أما على المستوى السياسي الإقليمي فيبدو أولاً أن القاهرة غير منزعجة في هذه المرحلة من عمليات ملء السد، وذلك لعدد من المعطيات العملية ومنها أن عمليات الملء تتم تحت مظلة فيضان كبير لنهر النيل، وذلك على مدى السنوات الثلاث الماضية، وبالتالي فإن حجم التأثير على حجم المياه المتدفقة يبدو هامشياً ولا يبرر لجوء القاهرة إلى أي أداء يمكن وصفه بالخشن خلال هذه المرحلة، بينما قد يكون هذا الإجراء مبرراً في مراحل الجفاف الممتد، وبالتالي تأثر التدفقات المائية القادمة لكل من مصر والسودان بذلك على نحو مؤثر في الحاجات المائية الملحة لمصر، وثانياً فإن حجم الملء الذي تقوم به إثيوبيا فعلياً مغاير لما تقوله إعلامياً، إذ لم يتجاوز ملء السنوات الثلاث 17 مليار متر مكعب من المياه، مع الأخذ في الاعتبار حجم المنصرف من المياه سنوياً من الفتحات السلفية للسد، وهي العملية الضرورية لعمليات الملء ذاتها.

أما العامل الثالث الذي يطمئن القاهرة فهو أن توربينات توليد الكهرباء الإثيوبية تواجه حتى الآن مشكلات كبيرة على المستوى الفني، فضلاً عن عدم وجود شبكة كهرباء لنقل الطاقة للمناطق الإثيوبية المختلفة، وهو أمر لا بد من أن يكون محل تساؤل إثيوبي داخلي.

التحرك الإثيوبي

وعلى المستوى الإثيوبي فإن التحرك السياسي للدولة يحاول السير في نطاق أكثر شمولاً من أزمة سد النهضة، ذلك أنه يتحرك استراتيجياً في محاولة لتقويض حق القاهرة في حصتها التاريخية من مياه نهر النيل، إذ عقدت الخارجية الإثيوبية أخيراً مؤتمراً في شأن الأنهار العابرة للحدود في محاولة لتأمين موقف إثيوبي مناصر لها في هذا الطرح، وتنشيط "اتفاق عنتيبي" في شأن نهر النيل لتجاوز مصر والسودان، وهو أمر على المستوى العملي صعب في ضوء موقف دولي وأفريقي يتطور نحو إدراك مسالب سد النهضة على دولتين بحجم مصر والسودان، في وقت يتهدد دولة السد نزاعات داخلية حقيقية مهددة لوجودها الذي تستمده حتى اللحظة الراهنة من دعم الأطراف الدولية لفكرة استمرار الدولة الإثيوبية موحدة، وهو دعم ليس بالضرورة نجاحه طوال الوقت، نظراً إلى ضغط العوامل الداخلية الإثيوبية، خصوصاً ما يتعلق بالصعوبة البالغة التي تواجهها مسألة الاندماج الوطني، وكذلك الانشغال الدولي الراهن بتداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية على مجمل النظام الدولي، وطبيعة آلياته المتعددة التي تواجه حالياً التهديد بآليات روسية - صينية مشتركة، مثل "تحالف شنغهاي" و"آلية بريكست" وغيرها.

وطبقاً لهذه المعطيات فربما يكون من المصلحة الإثيوبية في هذه المرحلة الوصول إلى تفاهم ما مع كل من القاهرة والخرطوم حول قواعد الملء والتشغيل على الأقل، وهي المسألة المؤثرة بشكل كبير في السودان، خصوصاً في ما يتعلق بعملية تشغيل سدوده وتوليد الكهرباء منها.

مصالح السودان

أما على المستوى السوداني فإن التوافق مع القاهرة حول سد النهضة يرتبط أولاً بمصالح سودانية استراتيجية مرتبطة بعدم السماح لإثيوبيا بالتغول إقليمياً على الوزن السوداني على رغم مشكلاته الداخلية، وكذلك ضمان عدم تعطل أو أذى السدود السودانية وبخاصة "سد مروي"، كما يضمن للسودان قدرة على مواجهة إثيوبيا تفاوضياً في مسألة النزاع الحدودي في بعض مناطق الفشقة، وهي تملك أوراقاً للضغط.

وإجمالاً قد يكون مشهد سد النهضة مرشحاً للتغير خلال الفترة المقبلة، بخاصة أن أطرافه الإقليمية أصبحت واعية أن مجموعة من الأخطار تتهددها، وأن التعويل على موقف دولي هنا أو هناك مناصر لأي طرف لم يعد قادراً على فاعلية حقيقة في ضوء أزمة النظام الدولي، وهو الأمر الذي يعرض الإقليم وأطراف النزاع إلى أخطار وجودية.

المزيد من تحلیل