Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الحايك"... ثوب تراثي عاصر تاريخ النساء في الجزائر

ارتدته المرأة زمن الاستعمار والثورة والاستقلال ولا تزال تعمل على إحيائه وأشكاله ومسمياته تختلف من محافظة إلى أخرى

تسعى الجزائريات إلى إحياء الهوية الوطنية بارتداء "الحايك" لمقاومة اندثاره  (غيتي)

ارتداؤه يجعل المرأة أكثر "وقاراً وأنوثة وستراً"، وأي عروس تزف من بيت أهلها إلى منزل زوجها من دون ارتداء هذا اللباس التراثي فإن عرسها ناقص، بحسب نسوة جزائريات مدافعات عن مكانة "الحايك"، أشهر الألبسة التقليدية النسائية في الجزائر، الذي تحدثت عنه كتب التاريخ والموروث الشعبي، كما تغنت أغنيات أندلسية شعبية بجمال المرأة التي ترتديه.
والحايك عبارة عن قطعة من القماش الأبيض تغطي سائر جسد المرأة من الرأس إلى الرجلين، وفي القاموس العربي فإن أصل التسمية يعود إلى الفعل "حاك، يحيك، حياكة" بمعنى نسج ومنه الحايك أي الثوب المحيك بمعنى المنسوج، لكن عند سؤال جزائريات عن تعريفهن الحايك يقلن إنه "زين وهمة"، بمعنى أنه يضفي على المرأة الجزائرية سحراً ينبع من بياضه فيحفظ حياءها من جهة ويزيد بهاءها وقيمتها، بخاصة للواتي يتفنن في لفه على الجسم.

ولعقود استعملت المرأة الجزائرية "الحايك" كثوب في كل تنقلاتها خارج المنزل، سواءً في الأفراح أو الأتراح وحتى لقضاء حوائج يومياتها. تقول مصممة الأزياء التقليدية ملكية يوسفي لـ"اندبندنت عربية" إن "الحايك بمختلف تسمياته في عديد الولايات (المحافظات) الجزائرية يبقى أيقونة اللباس التقليدي بخاصة في الجزائر العاصمة، فعلى رغم التحولات التي عرفتها الأزياء والموضة بالنسبة إلى المرأة الجزائرية فإنه بقي محافظاً على مكانته أو بالأحرى رمزيته، إذ يعد أحد ركائز تقاليد خروج العروسة من بين أهلها".

وفي نظرها يحمل "الحايك" دلالات ورموز المرأة العفيفة في الموروث الشعبي، إذ يعكس الحشمة والأنوثة إلى جانب الطابع الجمالي الذي يضفيه على رغم بساطة تصميمه، ويبقى معلماً تراثياً تفتخر به الشابة الجزائرية في المحافل والمناسبات الوطنية والدولية.

للحايك أنواع وأشكال

تختلف تسمية الحايك في الجزائر من منطقة إلى أخرى، ففي وسط وشرق الجزائر يسمى أصلاً بالحايك، أما في مناطق الغرب فيطلق عليه "الكساء"، وفي بعض المناطق الجزائرية يسمى "السفساري" وفي الجنوب يسمى "الملحفة".

وبحسب ما تذكره المصادر فإن للحايك أنواعاً وأشكالاً، فهناك "حايك" المرمة وهو من أجود الأنواع، حين كان ارتداؤه حصراً على الطبقة الميسورة التي تتباهى نساؤها بارتدائه لكونه يشكل نوعاً من المدنية، لأن نساء العاصمة اشتهرن به وينسج من الحرير الخالص أو الممزوج بالكتان أو الصوف.

 

 

أما النوع الثاني فهو "الحايك" العشعاشي، الذي تلبسه العامة من النساء، ويتميز حايك العشعاشي عن حايك مرمة أن الأول خالص البياض فيما تشوب الثاني تطاريز صفراء.

في حين اقتصر "الحايك" السفساري على نساء الشرق الجزائري، وهو لباس نساء الأندلس انتقل إلى شمال أفريقيا مع قدوم اللاجئين الأندلسيين حتى أصبح لباس نساء الحواضر كتونس والقيروان وقسنطينة وغيرها من المدن، إذ يصنع من الحرير أو القطن ويوجد بعدة ألوان كالأسود والأبيض والأصفر، في الأصل كان يغلب عليه السواد.

كما تشير روايات تاريخية إلى أن "الحايك" بلونه الأبيض الناصع انعكس على تسمية عاصمة البلاد، فأصبحت تلقب بـ"الجزائر البيضاء" Alger la Blanche، كناية عن حجم انتشار لباس الحايك بين الجزائريات فترة الوجود العثماني بالجزائر.

من الأبيض إلى السواد

إذا كان بياض الحايك قد منح تسمية الجزائر البيضاء فإن مدينة قسنطينة الواقعة شرق البلاد لها قصة تاريخية مع الحايك، فقد كان حاكم قسنطينة "صالح باي" أواخر القرن الثامن عشر أحد أكثر البايات العثمانيين الذين شجعوا لبس الحايك بين نساء قسنطينة والشرق الجزائري. وعند وفاته عام 1792 وتعبيراً عن حزن نساء المدينة على وفاة أحد أبرز حكامها أقمن حداداً على وفاته.

في ذلك اليوم نزلت نساء قسنطينة إلى الشوارع بالحايك الأسود حداداً على رحيل الباي، ومنذ ذلك الوقت صار يطلق على الحايك باللون الأسود الحايك القسنطيني، أو "الملايا" القسنطينية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

صديق الثوار

إلى ذلك لبست المرأة الجزائرية الحايك في مراحل مهمة من تاريخ الجزائر، خصوصاً فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر ليتخذ طابعاً ثورياً، إذ تعددت وظائفه بين تنكر الثوار الجزائريين به لكسر الحصار المفروض على مدينة الجزائر من قبل القوات الفرنسية، أو من خلال استخدامه في حمل الأسلحة الخفيفة والمتفجرات.

وفي أرشيف ثورة التحرير الجزائرية ثوريات لبسن "الحايك"، أمثال الشهيدة حسيبة بن بوعلي، والمناضلتين زهرة ظريف بيطاط وجميلة بوحيرد، اللاتي استعملنه كثيراً في عملياتهن ضد قوات الاحتلال الفرنسي، ولا سيما في معركة الجزائر التي اندلعت عام 1957.

وبعد انتهاء فترة الاستعمار الفرنسي شارك "الحايك" فرحة الجزائريين باستقلالهم عام 1962، وهو ما تؤرخه صور لجزائريات وهن يرفعن العلم الوطني ويرتدين الحايك ويرددن "تحيا الجزائر".

الحايك والعجار

وعن تاريخ الحايك ورفيقه العجار. يقول الباحث والمؤرخ الجزائري في الموروث الشعبي فوزي سعد الله إن "الحايك" صمد في وجه الملك الإسباني فيليب الثاني، قاوم الموضات المقبلة من الخارج طيلة قرون طويلة، ولم تزحزحه عن مكانته في فن الأزياء الجزائرية عملية حرقه في ساحة الشهداء قبل الاستقلال من طرف نساء جنرالات فرنسا. بالعكس "الحايك" ورفيق دربه "العجار" تحولا إلى أيقونة من أهم أيقونات قصبة الجزائر "المحروسة بالله"، ولم ينسحبا من المنافسة في أسواق الأزياء إلا بعد أن تخلى عنه أهله طواعية وضمن استمرارية المبدأ الأخلاقي - الروحي الذي يقوم عليه.

وبحسب ما جاء في كتاب سعد الله، بعنوان "قصبة الجزائر" الصادر عام 2011، فإن "الحايك ليس سوى أحد أحفاد البردة والخمار اللذين اشتهرا في الجاهلية وصدر الإسلام بالجزيرة العربية، وله قرابة كبيرة بجلابيب الراهبات النصرانيات منذ ما قبل الإسلام كما بأزياء النساء العبريات منذ مملكتي يهوذا وإسرائيل، أما سبب هذه القرابة المثيرة فيرجع إلى اشتراك الأديان التوحيدية الثلاثة في مبدأ أخلاقي عالمي يتمثل في ستر مفاتن النساء".

 

لكن يبدو أن أصول العجار تعود إلى بدايات الإسلام فقط حينما اتخذ شكل نقاب إسلامي، ثم تطور إلى ما يعرف بـ"البرقع" ببغداد والشام حتى اليوم، قبل أن تجري عليه فاس ومدينة الجزائر بعض التعديلات إثر لجوئه القسري إليهما من الأندلس عندما ضاعت من يد المسلمين في 1492م، وتحول اسمه إلى العجار، الكلمة الفصيحة التي ورد ذكرها منذ القرن التاسع الميلادي في "لسان العرب" لابن منظور.
ويروي سعد الله في كتابه أنه "عندما وقع الإسباني دييغو دي هاييدو في الأسر بمدينة الجزائر بين 1578م و1581م، كان الحايك والعجار مترسخين في ثقافة اللباس المحلي منذ أمد طويل، بحسب ما رواه في كتابه (Alger Topographie et Histoire Générale)، الذي نشر في 1612م، فقد كتب في إحدى صفحاته عن نساء المدينة بأنهن كن (عندما يخرجن من بيوتهن يسترن ما تحت العينين والجبين من الوجه بساتر أبيض خفيف، ثم يلففن الرأس بعباءة من القماش الصوفي الناعم أو من نسيج الصوف، أو حتى من الحرير، يسمينه الحايك)"، معلقاً بأن نساء البهجة "كن يخرجن في الشوارع على درجة من السترة حتى إن أزواجهن يعجزون عن معرفة هوياتهن".

 

 

كما يروي المؤرخ سعد الله أن الباحث الفنان حسان دردور ورد في كتابه عن تاريخ مدينة عنابة الواقعة شرق الجزائر والمتاخمة للحدود الجزائرية التونسية، بأن "الملاءة السوداء دخلت في التقاليد بالمنطقة حزناً على مقتل صالح باي، أما قبل هذه الحادثة السياسية الحزينة فإن السيادة كانت للحايك الأبيض. غير أن هذا الظهور للملاءة السوداء لم يكن فريداً من نوعه عبر التاريخ لسبب بسيط يتمثل في ارتدائه من طرف النساء الأندلسيات في عنابة وحتى في بنزرت في تونس حزناً على ضياع وطنهن مرسية الأندلسية وسقوطها بيد الإسبان في عام 1266م. وعندما جاء الاستعمار في 1830م كان هذا الأسلوب الالتحافي أصبح زياً وطنياً ورمزاً من رموز الهوية الجزائرية، في الوقت الذي كان يتراجع فيه باستمرار في المغرب الأقصى تاركاً مكانه للجلابة، وأصبح بالتالي الزي الوحيد للمرأة خارج بيتها في أغلب جهات الوطن منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي على رغم ضغط التغريب الاستعماري".

موعد مع الحايك

في السنوات الأخيرة أصبحت بعض الجزائريات يضربن موعداً مع "الحايك"، وهو نشاط تنظمه جمعيات ثقافية تكريماً له، وبهدف إنقاذ هذا اللباس من الزوال والاندثار بارتداء اللباس التقليدي، والمشي به في شوارع العاصمة استحضاراً لمشاهد عرفتها المدن الجزائرية، قبل أن يتقلص ارتداء هذا اللباس واقتصاره على شريحة من النساء المحافظات على العادات والتقاليد.

وفي الآونة الأخيرة تحاول الجزائر الترويج بشكل أكبر للباس التقليدي حيث تم إشراكه في ألعاب البحر الأبيض المتوسط التي أقيمت في ولاية وهران غرب الجزائر شهر يوليو (تموز) الماضي. وقالت وزيرة الثقافة الجزائرية صورية مولوجي إن "اللباس التقليدي يشكل أحد أهم روافد الهوية الوطنية، باعتباره مرآة تعكس البنى الفكرية والتاريخية للمجتمع الجزائري العريق بمنظومته القيمية والأخلاقية، وأعرافه وعاداته وتقاليده". بل اعتبرته "المشبك الذي تتغذى وتستمر بواسطته أنساق المجتمع الثقافية الاجتماعية"، مضيفة أن "اللباس التقليدي لما له من أهمية تاريخية وهوياتية وباعتباره أحد أهم عناصر الموروث الثقافي غير المادي الجزائري، يحتاج إلى البحث والتمحيص والتثمين، كما يحتاج إلى الصون والحفاظ عليه، بخاصة أنه تحول في فترة تاريخية إلى أداة استعملها الشعب الجزائري في المقاومات الشعبية والثورة التحريرية المجيدة".

المزيد من منوعات