Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الفن البدوي في الجزائر يتحدى الإرهاب وينتقد الساسة

بعض أشهر أغانيه نسبت إلى دول مجاورة منها "جاري يا حمودة"

يرتبط الفن البدوي بطبقات المجتمع الكادحة (مواقع التواصل)

لم يكن الفنانون الذين نبتوا في البيئة البدوية ببعض مناطق الجزائر مجرد عاشقين للموسيقى أو المرح، وإنما حملوا على عاتقهم واجب التغيير، ومهمة تحريك الراكد.

تسميهم المكتبة الثقافية "فنانون بدويون"، ويفضل تاريخهم الفني أن يخلدهم كأصحاب قضية، ومحاربين نواعم ضد الجهل والاستبداد، دفاعاً عن الإنسان.

حاكت نخبة من الفنانين الذين عرفوا بدفاعهم عن البدوية، واقع الجزائر في عمقها، أو كما يسمونها "قلب البلاد"، وهي المناطق التي يعرف أهاليها على أنهم مجتمعات محافظة تهتم بالأرض والحرث وتقديس علاقة الإنسان بعراقته، فظلوا متمسكين بها بالرغم من رأي أهالي المدن أنها عادات يجب التخلي عنها.

فن متمرد

يقول حمزة عتبي، أحد أبناء منطقة مشرية، الواقعة شمال الجنوب الغربي للجزائر، وهي أكبر بلديات ولاية النعامة من حيث السكان والنشاط والحركة التجارية، إن "البدوي هو أحد الأنماط الغنائية واسعة الانتشار في الجزائر، وهو فن ضارب في القدم ويرتبط ارتباطاً وثيقاً مع طبقات المجتمع الكادحة أو المهمشة، إذ ينقل همومهم ويلامس معاناتهم". 

ويذكر عتبي في حديث لـ "اندبندنت عربية"، المولع بالفن البدوي أنه "لا حظ لهذا الطابع مع السلطات الوصية لاعتبارات جهوية وأخرى سياسية، لأنه فن متمرد، إذ لا يعير الفن البدوي أي اعتبار للسلطة، واختار أن يكون صوت فئات عريضة تعيش في الجزائر العميقة".

أدى هذا الفن وظائف عدة، بحسب ما يقول عتبي لـ "اندبندنت عربية"، منها ما هو اجتماعي بمعالجة قضايا تتصل مباشرة بحياة المواطن البسيط كالمرأة والزواج والإحسان إلى الوالدين، وأما سياسياً فكان صوتاً معارضاً وكانت أغانيه لاذعة تنتقد مواقف السلطات وبرامج الحكومة التي أضرت بالمجتمع.

فرح في زمن الدم

وفق شهادة ابن مدينة مشرية، "كان للفن البدوي دور أمني عندما تحدى الإرهاب غداة العشرية السوداء (تسعينيات القرن الماضي)، فلم يذعن كما أذعنت الفنون الأخرى، ولم يخفت صوته بل كان يبعث في نفوس الناس الفرح في زمن الدم".

كما كان له دور تاريخي إبان ثورة التحرير (1832 - 1962)، وعلى اعتبار أن الثورة قادها البسطاء وانطلقت من القرى والمدن الصغيرة، وهي مناطق كان سكانها من هواة الفن البدوي، ولهذا كان دور البدوي في إبلاغ ونقل الرسائل بين المجاهدين خلال الأسواق الأسبوعية.

مدرسة الكبار

لدى الحديث عن الموسيقى البدوية في الجزائر، لا يمكن ذلك إلا بالعودة إلى أكثر من قرن على ميلادها، بالرغم من أن كثيرين ممن اختاروا نصرتها، همشوا ولم يحظ كثير منهم باهتمام أهل الثقافة والفن، مقارنة بطبوع أخرى حظيت بتكريمات وحفلات برعاية رسمية.

يعتبر خليفي أحمد واحداً من أبرز رواد الفن البدوي، على سبيل المثال، لأن الحصر إجحاف في حق من اختاروا هذا الطابع الغنائي.

بقي اسمه ساطعاً تذكره الأجيال حتى بعد رحيله، فهو من نقل هذا الطابع إلى خارج الحدود، فأدى حفلات في المغرب العربي وبعض الدول العربية مثل سوريا، وحقق شهرة واسعة بأدائه الرائع وبصوت عربي أصيل يصدح في المسرح، بعدما أسهم بأغانيه في تحرير المرأة من قبضة المجتمع، وحرّر الحُب من قبضة الأعراف، والفن من المعتقدات التي رجمته باسم التعصب.

في أرشيف الأسماء، نافست المرأة البدوية الرجل في أداء هذا الطابع الغنائي، مثل الراحلة حدة بقار، التي ذاع صيتها بين الأعوام من 1940 وحتى 2000، وبعدما تحدت مجتمعها الرافض للغناء، فغنت عن ثورة التحرير (1954 - 1962)، والحُب والفقر والقهر، فكانت ابنة بيئتها، قبل أن تلامس حنجرتها سماء العالمية بعد الاستقلال بإحياء حفلات فنية عدة.

بالرغم من ذلك، لم يستضفها التلفزيون الرسمي إلا في مرات تعد على أصابع اليد، قبل أن تنقضي رحلتها بنهاية حزينة ومؤلمة، نظراً لما عانته من تهميش، حيث قضت آخر سنوات عمرها تعاني المرض والفقر والتشرد حتى وافتها المنية في سبتمبر (أيلول) 2000.

تتفرق الأغنية البدوية، بحسب ربوع الوطن، بشكل يعكس التنوع الثقافي الكبير الذي تزخر به الجزائر، ما جعل كل منطقة منها تعرف بنمط موسيقي.

يقول المغني البدوي محمد محبوب "استطاع هذا الطابع الغنائي حجز مكان لنفسه في قلوب الجزائريين، جمهوره لا يزال موجوداً ومتعطشاً له، لكن الإشكال يكمن في مدى قدرة الجيل الجديد في المحافظة عليه في ظل ضعف مداخيله المادية بشكل لا يضمن لقمة العيش للبعض".

ويضيف في حديث لـ "اندبندنت عربية" أن "الفنان لا يتحمل العبء لوحده، إنما أيضاً القائمون على قطاع الثقافة في البلاد، الذين يبخلون في دعم الموسيقى البدوية، ولهذا نطرح علامة استفهام دائماً، هل الأمر مقصود أم لا؟".

وتعتمد الأغنية البدوية على قوة الصوت والآلات الموسيقية الفردية، وهما "البندير" أو "القلال" و"القصبة". لكن كثيراً من الفنانين يلجؤون إلى إدخال آلات عصرية مع التقدم التكنولوجي، وكمثال يتحدث محمد محبوب عما فعله المغني حسين الجسمي، الذي "أعاد أغنيتي "واك دلالي" الصادرة عام 1996 بآلات حديثه، وهنا يظهر دور الإمكانات في المحافظة على الغناء البدوي".

ويضيف، "حتى أغنية جاري يا حمودة التي نسبت إلى التراث التونسي هي في الأصل جزائرية، أداها المطرب علي الخنشلي عام 1937، وهو من أخبرني بذلك شخصياً".

يتحسر الفنان الجزائري على ما آل إليه حال هذ الفن، ويؤكد أن "الأغنية البدوية تراث وملك للجزائريين، ولأننا وطنيون قررنا الاستمرار في التعريف بهذا الفن الأصيل الذي عانى من التهميش، سواء في فترة الإرهاب التي تحداها مغنوه بالاستمرار في إحياء الحفلات، وبعدها خلال حكم الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، حين لم يجد الفن البدوي موطأ قدم أو يحظى بمكانته التراثية الأصلية".

ولعل أهم ما يزعج الفنانين البدويين هو محاولة النيل منهم بالانتقادات على أنهم أناس ينتمون إلى بيئة متخلّفة بسبب قساوة الطبيعة والمناخ، إذ تضم الجزائر أكثر من نصف مليون من البدو الرحل، يجوبون مناطق عدة في البلاد التي تعرف بالسهوب، كالجلفة والأغواط (وسط) والبيض والنعامة (جنوب غرب) ووادي سوف (جنوب) وفي صحراء تبسة و"النمامشة" على الحدود الجزائرية التونسية.

في المقابل، يقول الفنان فؤاد وامان إن للأغنية البدوية مكانتها في الجزائر، كونها لا تزال برغم المنافسة تبهج مستمعيها ومحبيها، فهي جزء مهم من الإرث الثقافي، لكنها ظلمت بسبب بعد المناطق التي تؤدى فيها من عاصمة البلاد، وهو ما لم يساعد مطربيها في الظهور بالشكل الكافي.

المزيد من ثقافة