Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"البؤساء" من باريس إلى مدن العالم على شكل "كوميديا موسيقية"

أحداث ثورية واجتماعية وتاريخية في عهدة الموسيقى والغناء مع أحدث التقنيات

مشهد من تقديم "البؤساء" على خشبات برودواي (موقع المغناة)

من المؤكد أن عشرات ألوف المتفرجين الذين شاهدوا الموسم الأول لعروض "الكوميديا الموسيقية" على الطريقة الفرنسية، "البؤساء" لفيكتور هوغو، منذ عرضها الافتتاحي في سبتمبر (أيلول) 1980 ثم في عروضها التالية في عام 1983 في قصر الرياضة الباريسي، لم يخطر في بال كثر منهم أن ذلك العمل الفرنسي الخالص قلباً وقالباً سوف لن يلبث بعد أعوام قليلة أن يصبح من كلاسيكيات هذا النوع في العالم كله، لا سيما في العالم الأميركي، حيث سيقارع الأميركيين مبتكري النوع أو مجدديه على الأقل، في عقر دارهم. وكان الأقل إيماناً بذلك، مبدع العمل ومخرجه روبير حسين الذي كان قد توجه نهائياً في تلك المرحلة من حياته إلى تقليد أميركيي برودواي في هذا اللون الذي كانوا هم سادته. وتعرف الحياة الفنية الفرنسية أن حسين قدم أعمالاً عديدة قبل ذلك وكانت النجاحات التي حققها فرنسية لا أكثر، ولكن هذه المرة سيكون من بين الحضور ذات عرض المخرج المسرحي بيتر فاراغو العامل عادة مع المنتج الأميركي كاميرون ماكنتوش والذي بلغ من فرط حماسته أن خرج والعرض لما ينته بعد ليهتف إلى ماكنتوش وهو في ذروة سروره لإنتاجه على المقلب الآخر من العالم، استعراض "القطط" الذي كان قد افتتح قبل ستة أشهر محققاً نجاحاً هائلاً في برودواي، مقترحاً عليه إنتاج نسخة إنجليزية اللغة من "البؤساء". تردد ماكنتوش بعض الشيء، لكنه بعد اتصالات مع "رويال شكسبير كومباني" وافق ليولد ذلك التعاون الاستثنائي الفرنسي الإنجليزي الأميركي من حول المغناة المقتبسة من رواية فكتور هوغو الشهيرة واصلاً إلى حد تحويل "هوليوود" لها فيلماً بعد ذلك والتى حققت النجاحات العالمية التي نعرف، ولسوف يكون روبير حسين أول من أذهلتهم تلك الحكاية بالطبع.

فرحة ناقصة إلى حين

لكن "فرحة" روبير حسين وفريقه الفرنسي ظلت "ناقصة بعض الشيء" في بداية الأمر ولسنتين على أية حال. وذلك لأن الإنتاج "الأنغلو ساكسوني" سيكون إنجليزياً في البداية، لا سيما إذ تبنت العمل الفرقة الشكسبيرية العريقة ذات النشاطات النخبوية والمحدودة، وقدمته في مقرها المعتاد في "باربيكان سنتر" اللندني. بيد أن الفرحة سرعان ما ستعود بعد عامين إلى أصحاب العمل الأصلي، حيث إن نجاحا إنجليزياً كبيراً، ولكن ليس على الصعيد النقدي كما سنرى، أوصل "البؤساء" بعد عامين إلى برودواي كمنطلق للحضور في العالم كله. وتقول الحكاية إن تلك الانطلاقة قد أدت إلى ترجمات جديدة لرواية هوغو إلى لغات عدة كانت قد نسيتها، كما إلى إعادة طباعتها مراراً وتكراراً في لغتها الأم، لكن تلك كانت "مكاسب جانبية" بالطبع، أما الأهم فكانت تلك القفزة التي عرف الفن المسرحي الموسيقي الغنائي الفرنسي  كيف يقفزها إلى رحابة عالم كان عصياً قبل ذلك إلى حد كبير.

ميلودراما فكتورية؟؟

ومهما يكن من أمر، لا شك أن الفرنسيين كانوا محقين في حذرهم الأول وخيبة أملهم من وقوع روايتهم القومية واقتباسها الموسيقي المسرحي بين أنياب الإنجليز. فالواقع أن النقد الإنجليزي لم ينظر إلى المغناة بأكثر من كونها "ميلودراما من العصر الفكتوري تؤدى بوسائل فنية تعود إلى ذلك العصر" وربما كذلك بموسيقى متصنعة، بحسب ما قال ناقد "الصاندي تلغراف" جارّاً وراءه كورساً من آراء لا تبتعد عن رأيه كثيراً... ولكن الذي حدث هذه المرة كان أن جمهور المسرح البريطاني لم يتبع نقاد صحفه كثيراً، بل أقبل على العمل ضارباً الصفح بما قاله حتى نقاد الأدب من أن العمل "يسيء إلى لغة هوغو وأدبه". فكان أن استمرت العروض الأولى ثلاثة أشهر متتالية كان من المستحيل خلالها العثور على بطاقة قبل شهر ونصف، ويقيناً أن هذا النجاح، وليس بالطبع آراء النقاد، ما سيوصل العرض إلى برودواي، حيث ستعرض "البؤساء" أقل قليلاً من 7000 عرض بين مارس (آذار) 1987 ومايو (أيار) 2003 دون هوادة ما جعلها تحتل المركز الثاني بين أطول عروض الكوميديات الموسيقية في تاريخ برودواي في ذلك الحين لتهبط فقط إلى المركز السادس في إحصاءات متخصصة في عام 2022 هي التي في عز تقديمها رُشحت لـ 12 جائزة "طوني" نالت منها ثماني بينها "أفضل كوميديا موسيقية"، و"أفضل موسيقى".

ليست مجرد ترجمة

وطبعاً لا بد من التذكير هنا بأن العرض الذي بالكاد تزيد مدته على ساعتين ليس مجرد ترجمة فنية لقرابة الألف صفحة التي تتألف منها الرواية في الأصل، فمن المعروف أن "البؤساء" التي صدرت عام 1862 في باريس فيما كان كاتبها منفياً، هي واحدة من أضخم أعماله وتمتلئ بالأحداث والشخصيات ما يجعل من المستحيل نقلها كما هي إلى أية وسيلة فنية أخرى، ومن هنا كان من الطبيعي لمن يقدم على ذلك أن يختار أحداثاً وشخصيات محددة ليبني عليها عمله بشكل لا يخل على أية حال بجوهر الحكاية ومعانيها التي لا تنتهي. ومن هنا فإن ما يشاهَد على الخشبة بين أغنيات قد تختصر الواحدة منها أربعين أو خمسين صفحة من الرواية، ورقصات لا شك أن الدقيقة الواحدة منها تعبر عن توصيفات احتاجت من الكاتب صفحات وربما فصولاً عديدة، ما نشاهده هو حكاية جان فالجان التي تقع خلال العشرية الثانية من القرن التاسع عشر حين يخرج الفلاح جان فالجان من سجن أمضى فيه سنوات طويلة لمجرد أنه سرق قطعة خبز أراد أن يسد بها جوع ابنة أخته الطفلة. وندرك أن فالجان عازم الآن على نسيان ماضيه نادماً على ما اقترف، لا سيما بعد لقائه رجل دين يدله على درب الاستقامة والنزاهة، ولكن ما العمل ورجل الشرطة جافير لا يتوقف عن مطاردته ورصد حركاته وسكناته آملاً في التقاطه وإعادته إلى السجن لدى أول فعل سوء يبدر منه، أو حتى أمام ما سيبدو كذلك أو يفسره جافير على ذلك النحو، مهما يكن من أمر خلال رحلة فالجان العكسية إلى الحياة والمجتمع من جديد سوف يلتقي بشتى أنواع البشر، لا سيما بـ"البائسين" الذين أعاروا عنوان الرواية اسمهم ومكانتهم التي يودون مبارحتها وها هو فالجان يود مساعدتهم على ذلك، لأن في إنقاذهم وتغيير أحوال بؤسهم خلاصاً له هو الآخر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لو عاد هوغو إلى الحياة

لكن الخلاص إذ يبدو مهمة شاقة، سيقود فالجان وكوزيت وعشرات غيرهم من البائسين كما من الصالحين، ولكن كذلك من سيئي النوايا إلى الشوارع التي صورها فيكتور هوغو تغص بتحركات ثورية يسعى كل واحد منهم إلى الخلاص على طريقته قبل أن يتجمعوا في حراك واحد يوحد بينهم، لكنه يوحد في الوقت نفسه بين أعدائهم والمتربصين بهم. والحقيقة أن الجوهر الرئيس خارج التفاصيل الكثيرة والمتشعبة التي مكنت هوغو من أن يكتب "تاريخاً اجتماعياً" لبلده، هو ذلك المسار الصراعي ومعانيه وأثره في تاريخ البلد، ودائماً من حول الصراع الأبدي بين الخير والشر. هذا في الواقع ما التقطه العرض واشتغل عليه منذ بداية اهتمام روبير حسين بالاقتباس، بالتالي كان هذا الجوهر الرابط بإحكام بين العام (تاريخ فرنسا الاجتماعي في ذلك الحين)، والخاص (حكاية فالجان وصراعه في سبيل الوصول إلى درب الاستقامة)، هو ما أعطى كوميديا "البؤساء" الموسيقية دلالاتها وحداثتها كما أشرنا، من خلال اعتماد الحوارات المغناة وترجمة المواقف الاجتماعية كما الثورية إلى مشاهد استعراضية أخاذة عرفت لندن ومن ثم برودواي وتحديداً قبل الأفلمة "الهوليوودية"، كيف تستفيد فيها من أحدث التقنيات وتحاول في كل لحظة أن تتجاوز معظم إنجازات النوع. صحيح أن فكتور هوغو لو عاد إلى الحياة لتمكن بالكاد من التعرف إلى عمله، لكنه كان سيكون من شأنه أن يثني على روبير حسين، ثم بخاصة على الموسيقي كلود – ميشال شونبرغ على الموسيقى الرائعة التي وضعها دون أن يفوته إبداء إعجابه بالحوارات التي وضعها آلان بوبيل بالفرنسية، والمترجمون إلى الإنجليزية، مختصرة حواراته بشكل رائع قلما أتيح لعمل أدبي حين نقلع إلى فن من الفنون.

المزيد من ثقافة