Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"أجراس" همنغواي مساهمة روائية في الحرب الأهلية الإسبانية

حين قال الكاتب الأميركي كلمته في تلك التجربة المريرة التي خاضها غير آبه بالنتيجة

مشهد من الفيلم المقتبس عن رواية "لمن تقرع الأجراس" (موقع الفيلم)

تقول الحكاية التي لم يؤكدها أحد ولكن لم ينفها أحد في المقابل إن الكاتب الأميركي الكبير إرنست همنغواي حين التقى زميله الفرنسي الذي لم يكن ليقل أهمية عنه، أندريه مالرو في إحدى مناطق القتال في إسبانيا خلال اندلاع الحرب الأهلية هناك بين القوى الوطنية المدعومة من اليسار العالمي والاتحاد السوفياتي بصورة خاصة، وقوات الجنرال فرانكو الفاشية المدعومة من النازيين الهتلريين في ألمانيا والفاشيين الإيطاليين، وكان همنغواي ومالرو في صفوف قوات اليسار بالطبع من دون أن يكون أي منهما منتمياً إلى أي حزب يساري أو شيوعي، تبين للاثنين أن كلاً منهما يتطلع لأن يخرج من تجربته النضالية والإنسانية برواية يرسم فيها من وجهة نظره صورة للأحداث التي عايشها. وكل منهما على طريقته بالطبع. وعلى سبيل المزاح اتفقا منعاً لتضارب الأحداث بين الروايتين أن تكون رواية مالرو عن بدايات الحرب وأن تكون رواية همنغواي عن نهاياتها، بالتالي وجدا أن العناوين تفرض نفسها: سيجعل مالرو عنوان روايته "الأمل" (وستصدر آخر عام 1937، حاملة بعد كثيراً من الأمل)، فيما سيكتب همنغواي تحت عنوان "لمن تقرع الأجراس؟" لتصدر بعدها بثلاث سنوات وكانت الآمال كلها قد انهارت! فالأمل هو شعار المناضلين وشعورهم فيما كانوا يخوضون حربهم في سنواتها الأولى، أما قرع الأجراس فإنه الإيذان في النهاية مهما سيكون من شأن تلك النهاية. وبالفعل ظهرت الروايتان بعد أن فرغ كل من الكاتبين من اشتغاله على حصته منهما. فإذا برواية مالرو تعبر عن الأمل الخالص وطمأنينة المناضلين المريحة، فيما عبرت رواية همنغواي عن النهاية الحزينة وخيبة الأمل ليبدو قرع الأجراس كنوع من التأبين لحلم إنساني كبير.

الكل في البداية ضده

طبعاً وكما أشرنا لم يكن ولن يكون ثمة ما يؤكد ذلك التقاطع بين هذين العملين في مذكرات أي من الكاتبين الكبيرين، لكن الفكرة في حد ذاتها لا تخلو من طرافة وتبدو صالحة للولوج في الحديث هنا عن رواية همنغواي التي ستكون أكثر شهرة بالطبع على الصعيد العالمي، بل ستعتبر صاحبة الرقم ثمانية في الاستفتاء الشهير الذي أجرته صحيفة "لوموند" الفرنسية في عام 1999 حول "أهم 100 كتاب وضعت في القرن العشرين". صحيح أن ترتيب أندريه مالرو جاء خامساً في الاستفتاء المذكور، أي يسبق همنغواي بثلاث نقاط ولكن بفضل رواية أخرى له هي "الشرط الإنساني" (1933) التي تتحدث عن الثورة الصينية لا عن الحرب الإسبانية. أما بالنسبة إلى "لمن تقرع الأجراس؟" فسيكون لها مصير أميركي لا يخلو من كآبة في بداية الأمر كما سيخصها اليسار الستاليني العالمي بعداء شديد، ولكن قبل أن يتبين أنها الرواية التي يفضلها كاسترو على أية رواية أخرى، كما سيعلن باراك أوباما لاحقاً أنها الرواية التي لا يتوقف عن قراءتها قبل أن يخلد إلى النوم، لكنها في انتظار هذا الدعم المزدوج كان عليها أن تعاني كثيراً -على الرغم من نجاحها الجماهيري المدهش والذي أسهم فيه تحولها باكراً (1943) إلى فيلم بالعنوان نفسه من إخراج سام وود وتمثيل غاري كوبر وإنغريد برغمان- وربما لأنها إذ صدرت باكراً في عام 1940 وكان جرح الهزيمة اليسارية الإسبانية لا يزال ساخناً بدت جارحة في "صراحتها" فاضحة لكثير من الممارسات التي ستكون لاحقاً خبزاً يومياً لكثر من كتاب ومناضلين أوروبيين وأميركيين اندفعوا مناضلين في صفوف الثوار الإسبان، ليقولوا لاحقاً إن الهزائم التي مني بها هؤلاء نتجت عن تصرفاتهم وخياناتهم لبعضهم بعضاً، وضروب ترددهم بأكثر مما نتجت عن قوة العدو الفاشي وحلفائه النازيين. وكان هذا بالتحديد ما أراد همنغواي أن يقوله في "لمن تقرع الأجراس؟" غير آبه بصواب التوقيت أو بمراعاة المشاعر!

سنوات من الاحتكاك بإسبانيا

والحقيقة أن همنغواي كان يعرف إسبانيا جيداً فهو كان أمضى فيها على فترات متفرقة نحو 18 سنة، أحب خلالها شعبها بكل تناقضاتها وعرف خفايا سياساتها وهو راقب صعود اليمين الفاشي خطوة خطوة، وتنبأ منذ بدايات عام 1934 بأن الكارثة قادمة لا محالة. ومن هنا كان من الطبيعي له أن يواكب سنوات حربها الأهلية ثم يقرر أن يحكي ذلك كله من خلال شخصية تشبهه كثيراً، روبرت جوردان، أستاذ الأدب الإسباني في الجامعات الأميركية ومؤلف كتاب سياحي عن إسبانيا، ولكن لئن كان همنغواي قد شارك في الحرب كصحافي ومراقب فإن أناه/ الآخر سيخوضها مقاتلاً. وما القصة التي شاء همنغواي أن يكتبها لتتحول بعد ذلك إلى رواية إذ دمجها بقصة ثانية حول الموضوع نفسه، سوى رواية تتحدث عن مغامرة عسكرية خطيرة خاضها جوردان عشية هجوم سيغوفيا الكبير غير بعيد من مدريد، برفقة مجموعة من المناضلين المناهضين للفاشية، ليطل من خلال ذلك على مشهد سياسي يختلط فيه التاريخ الكبير بالتاريخ الصغير، أعبر خلفيات الحرب والأحداث الكبرى التي تلعب فيها شخصيات مستقاة من التاريخ، وغالباً بأسماء مستعارة، أدوارها في ما تلعب فيه الأشخاص المبتكرة أدواراً أعظم شأناً كما هي العادة في الأدب الكبير. وهكذا يختلط هنا روبرت جوردان بالمناضلة ماريا وزعيم المجموعة بيدرو الذي سيتسبب تردده بما يقرب من خسارة العملية التي كلفوا أصلاً بها، مما يدفعه إلى الهرب، لكن روبرت يسعى إلى نسف الجسر الذي كلف ورفاقه بنسفه وإلا فإن كارثة ستحل على القوى المعادية للفاشية. وهكذا يقرر أن يتحمل المسؤولية بنفسه متجاوزاً الخيانات. وفي النهاية يتمكن من تنفيذ العملية وينسف الجسر ولكن بأي ثمن؟

رواية بدلاً من قصتين

في البداية كما أشرنا كان همنغواي قد اتخذ قراره بتوزيع حكاية روبرت جوردان هذه على قصتين طويلتين وهو بالفعل أنجز كتابة أولاهما مقيماً في الفندق بهافانا، ثم حين كتب 15 ألف كلمة من القصة الثانية وجد نفسه وقد قرر دمج القصتين في واحدة. وهكذا ولدت "لمن تقرع الأجراس؟" التي استقى الكاتب عنوانها من قصيدة "ميتافيزيقية" للشاعر الإنجليزي جون دان. يقول فيها الشاعر "لا تسأل أبداً لمن تقرع الأجراس، إنها تقرع من أجلك". والحال أن العنوان بصبغته الفردية هذه أسهم مع الانتقادات الموجهة في سياق الرواية إلى القيادات الشيوعية التاريخية مثل دولوريس إيباريرا (لا باسيوناريا) وأندريه مارتي والسوفياتي ميخائيل كولتسوف وغيرهم حتى ولو قدموا بأسماء مستعارة ووصم بعضهم بالانصياع لستالين والبعض الآخر بالتجسس، أسهم في الهجوم الساحق الذي شنه اليسار الأميركي على الرواية وهو هجوم أسهم إلى جانب الفيلم في اجتذاب ملايين القراء لقراءة الرواية. ومع ذلك كان غريباً أمر هيئة البريد الأميركية التي اعتبرت الرواية نوعاً من الدعاية الشيوعية وحظرت نقل نسخها بالبريد. أما الأغرب من ذلك كله فكان ما حدث للرواية نفسها في تركيا، ولكن في عام 1973 حين منعت السلطات تداول "لمن تقرع الأجراس؟"، بيد أن ما يخفف من غرابة هذا المنع التركي أنه جاء ضمن إطار قوانين رقابية صارمة تحت حكم انقلابي عسكري اتهم 13 ناشراً وموزعاً للكتب بترجمة وطباعة وترويج كتب "معادية للدولة التركية"، وكان كتاب همنغواي هذا من ضمن الكتب التي طاولها المنع ولكن من دون أن يفهم أحد ما دخل هذه الرواية وهي التي لا تتناول تركيا ولا الأتراك ولو في صفحة واحدة من صفحاتها!

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

قريب من الموت

مهما يكن من أمر رأى كثر من النقاد أن هذه الرواية تحتل في رصيد إرنست همنغواي (1899 – 1961) مكانة أساسية كنوع من السيرة المواربة له، وهو الذي كان قبل كتابتها قد لامس الموت وتعرف إليه من كثب، مما مهد السبيل إلى وضعه حداً لحياته ببندقية صيده وهو الصياد الماهر بعد سبع سنوات من فوزه بجائزة نوبل للآداب (1964). ومن هنا لن يكون غريباً أن نجد همنغواي يكتب روايته هذه بكل الصراحة والمرارة اللتين تملآنها، تحت شعار "إن كل موت إنما هو موت يعني البشرية جمعاء". وعلى أية حال كانت تلك المرة الأولى التي يلامس فيها همنغواي في رواية له "رغبة في الحديث عن التضامن بين البشر يعكس ما كان قد فاته من الالتزام الأخلاقي والمثالي الذي كان سائداً من حوله طوال سنوات الثلاثين".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة