Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مهنة الطب... من ساحات المستشفيات إلى الفضاء الإلكتروني

مقدمو الرعاية الصحية ينافسون مدوني الموضة والتجميل بفيديوهات "طبية" يجرمها القانون

تمتلئ السوشيال ميديا بحملات إعلانية لمن ينسبون أنفسهم لمهنة الطب (رويترز)

"محاربو الصفوف الأولى"، "الجيش الأبيض"، "خط المواجهة الصامد"، أوصاف عبّر بها رواد السوشيال ميديا عن امتنانهم الخالص لجهود طواقم الأطباء والتمريض على مدار أكثر من عامين، باعتبارهم الفئة الأكثر تعرضاً للخطر خلال أوج انتشار وباء كورونا، حيث واجهوا معاناة مضاعفة، بسبب وجودهم في قلب الخطر من أجل إنقاذ المرضى، فيما سقط آلاف منهم على مستوى العالم في أثناء أدائهم واجبهم المهني في تلك الظروف العصيبة.

هدأت حدة انتشار الفيروس، وبدأ تعود الأمور إلى طبيعتها، بالتالي عادت بعض فئة من الأطباء لنشاط السوشيال ميديا بكل قوة، وفي بعض الأوقات بكل قسوة. فهل يفسد إنستغرام وإخوته العلاقة بين الطبيب والمريض، بعد أن أصبح الأخير مجرد "زبون" بالنسبة إلى بعض من يرتدون البالطو الأبيض؟!

إفشاء للسرية، نصائح غير دقيقة، ترويج لأدوية، سخرية من الحالات المرضية، إعلانات مبالغ فيها لقدرات طبيب معين، هكذا تمر فيديوهات وتدوينات التايم لاين، هل هم أطباء وممرضون أم فقط يلفقون لأنفسهم تلك الصفات، ولا يعرفون عن تلك المهن سوى زيها المتعارف عليه؟!

فيديوهات "البالطو الأبيض"

إنها المهنة الأولى التي تأتي على هرم كل التخصصات، الوظيفة الأكثر قداسة، وقيمة، وسمواً وإنسانية، التي يؤتمن أصحابها على الروح حرفياً ومجازاً، بلا لبس أو خلاف أو جدل، بالتالي مناقشة التراجع في هذا القطاع عبر أكثر من جانب بات يشغل بال كثيرين، بينهم لاعب الكرة المصري السابق أحمد حسام "ميدو"، الذي قاد حملة بسبب ما وصفه بأنه إهمال طبي تعرّض له بعض أقاربه، حيث دخل في مناوشات على الملأ، بسبب هذه المسألة فجّر من خلالها أزمات هذا القطاع الذي على الرغم من تفاني العاملين به، لكن الاستثناءات تحدث، وهو ما يبدو واضحاً أيضاً على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي، تحت سطوة تيك توك وإنستغرام المتصاعدة.

وبحسب ما يؤكد أستاذ الجراحة خالد سمير، الرئيس السابق للجنة آداب المهنة بالنقابة العامة لأطباء مصر، فإن سوق الخدمات الطبية عبر وسائل الإعلام ووسائط التكنولوجيا "كارثي"، منوهاً إلى أن "القانون المصري يجرّم إعلان الطبيب عن نفسه عبر أي وسيلة أياً كانت إلا في ثلاث حالات، وهي السفر للخارج أو العودة، أو افتتاح عيادته للكشف على المرضى".

إذن، فبحسب ما قاله أمين صندوق نقابة الأطباء السابق فإن كل ما يجري "يقع تحت بند الإعلان والترويج بما يخالف البنود والقوانين"، وهذا وفقاً للوائح آداب ممارسة مهنة الطب التي أقرّتها وزارة الصحة والنقابة كذلك.

"فيديوهات البالطو الأبيض" في عالم "الأطباء البلوجرز" ليست مقتصرة على مجتمع أو منطقة بعينها، ففي كل دول العالم هناك هوس بلقطات تيك توك القصيرة التي تحقق ملايين المشاهدات، ويجد بعض من العاملين في الرعاية الصحية لديهم مادة خصبة يمكنهم من خلالها الحصول على متابعين كثر، وتحقيق شعبية بمقاييس هذا العالم، وهو الأمر الذي حذّر منه تقرير نشر أخيراً عبر موقع The Walrus الصادر عن مؤسسة خيرية، ويعرف عن نفسه بأنه يقدم خدمة صحافية مستقلة، حيث كشف التقرير عن الانتهاكات المتوالية التي يمارسها بعض العاملين في المستشفيات الكندية، بينهم الأطباء ضد المرضى، من نشر صورهم قبل وبعد العمليات التجميلية، واختراق خصوصيتهم.

ولفت الموقع إلى أنه على الرغم من تنفيذ "عقوبات متوسطة" بالفعل ضد عدد من العاملين في مجال الرعاية الصحية مثل الإيقاف عن العمل، لكن الظاهرة "لا تزال تنمو بشراهة".

أطباء أم إنفلونسرز؟

اللافت أن تلك التنبيهات المتلاحقة بضرورة مراقبة المحتوى الطبي المعروض عبر وسائل "الترفيه" جاءت بعد أشهر فقط من رسائل الشكر والعرفان لما فعله الأطباء عبر وسائل الإعلام نفسها في خضم معركة العالم ضد وباء كورونا، بالذات ممن أخذوا على عاتقهم تصحيح المعلومات المغلوطة حول الفيروس للعامة، وأسهموا بالفعل في إنقاذ حيوات كثيرة، وفي حين توارت الفئة التي صعدت على السطح من أجل هدف سام ونبيل وملح بعد أن هدأت الأوضاع، وجد بعض من ينتسبون للمهنة الفرصة لمعاودة النشاط، لكن السؤال: هل جميعهم أطباء مؤهلون حاصلون على درجة علمية تمكّنهم من إعطاء الوصفات الطبيبة أو لديهم رخصة رسمية لممارسة المهنة؟

يعود الطبيب خالد سمير لتأكيد أن "هناك نماذج كثيرة لمنتحلي صفة الأطباء، فليس كل من ارتدى بالطو أبيض، وأمسك بالسماعة، وظهر عبر فيديو يتحدث بثقة عن مواهبه (الخرافية) في المهنة، نصدق أنه طبيب حقاً، ضارباً المثال بأحدهم الذي ظل سنوات يعمل بأوراق مزورة، ويدخل عرفة العمليات، ويصف الأدوية، ثم اكتُشف أنه حاصل على مؤهل فني تجاري بعيد كل البعد عن عالم الصحة، ولم ينل درجة علمية طبية".

ويقترح سمير أن يجري استحداث هيئة تسمّى "شرطة الخدمات لمراقبة تلك المخالفات". مشيراً إلى أن "هناك قانوناً يحدد ممارسات المهنة، لكنه غير مفعّل بالشكل المطلوب". ويضيف: "بخلاف السوشيال ميديا التي تمتلئ بحملات إعلانية لمن ينسبون أنفسهم للمهنة، ويكون هدفهم الترويج لأدوية معينة غير معروف ضررها، بخاصة أنه ممنوع وصف الدواء دون كشف مباشر على الحالة، فحتى على أرض الواقع هناك من يمارسون الطب بلا ترخيص، وبعضهم يستغلون عملهم في مؤسسات طبية في وظائف أخرى لإقناع من حولهم بأهليتهم، كما أن كثيراً من الصيادلة يمارسون مهنة الطبيب بلا ترخيص في مصر، وهم الفئة الأولى في هذا الأمر، فعلى الرغم من أنه مسموح لهم صرف بعض الأدوية من دون وصفة طبية، لكن عدداً منهم لا يلتزم بهذا الأمر، بل تتعدى الممارسات هذه النقطة بكثير، فهناك فوضى عارمة".

الصيادلة تحت المساءلة

لكن أليس الصيدلاني هو الأكثر قرباً للطبيب، وقد يتمكّن في بعض الأوقات من خلال نصيحة أو تدخل بسيط من إنقاذ حياة مريض، بخاصة أنه الأسهل والأسرع في الوصول، نظراً إلى انتشار وقرب مراكز بيع الدواء في جميع الأحياء، ومن هذا المنطلق يوضح الدكتور ثروت حجاج، رئيس لجنة الصيدليات في النقابة العامة للصيادلة بمصر، ما يحدث من وجهة نظره. مؤكداً أن القانون يمنح الصيدلاني أن يصرف بعض الأدوية دون "روشتة طبية"، مثل أدوية الحرارة وبعض الكريمات الجلدية أو أدوية السعال البسيطة. مشدداً على أن الصيدلاني "لديه معرفة قوية ودراسة تؤهله لذلك"، لكنه مع ذلك يشدد على "ضرورة الرقابة القوية على هذه السوق".

ويضيف حجاج: "للأسف بعض الأدوية التي تطلب من الصيدليات وتسبب مشكلات قد تؤدي للوفاة مثل ما تمسى حقنة (هتلر) التي يطلبها مرضى الإنفلونزا، ابتكرها الأطباء من الأساس في أقسام الطوارئ، وهي بالطبع خطيرة، ولا ينبغي صرفها بالمرة، ومن يفعل ذلك يكون قد خالف أكثر من قانون". منوهاً إلى أن بعض الأشخاص مما لم يقتربوا من دراسة هذا المجال "يقدّمون أنفسهم عبر الوسائط المختلفة على أنهم أطباء، ويروجون لقدراتهم الزائفة في إنقاص الأوزان أو إجراء جراحات التجميل".

ووصف رئيس لجنة الصيدليات بنقابة الصيادلة، ما يحدث في سوق الخدمات الصحية عبر السوشيال ميديا بأنه "انفلات تام، ومجرّم قانوناً". مؤكداً أن بعضاً من هؤلاء هم "مندوبو دعاية بشركات الأدوية لا أكثر". لافتاً إلى أنهم سواء كانوا أطباء أم صيادلة أم منتحلي الصفة، فهم "يخالفون القانون، لأن بيع الدواء والترويج له إلكترونياً ممنوع. كما أن التسويق لكل ما هو طبي بأي شكل يعتبر جريمة متكاملة. هذا خرق للقانون العام، وتدليس وخداع للمواطنين باللعب على احتياجاتهم، يوجب التحرك لمعاقبة المنتهكين للوائح".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

اللافت أنه بمحاولة التواصل مع أحد الأطباء الذين يتمتعون بشهرة واسعة من خلال فيديوهات وتدوينات على السوشيال ميديا للتعليق على الأمر تجاهل الرد تماماً، فيما تحدث "ش. ع"، طبيب جراح بمستشفى حكومي ويمتلك أيضاً عيادة خاصة. وأكد أن زملاء المهنة الذين يبالغون في الدعاية يسيئون للطب بشكل كبير، رافضاً تماماً أن ينساق وراء "تريند الأطباء المشاهير"، لكنه يؤكد أن تلك باتت السمة الغالبة بخاصة لدى الجيل الجديد من الخريجين.

ومن المعروف أن هناك أزمات ونقصاً في عدد الأطباء في مصر، وهو أمر تعانيه دول أفريقية عدة، حيث إن القارة السمراء هي الأولى في مشكلة القوى العاملة الصحية. وبحسب منظمة الصحة العالمية فإنه مقابل كل طبيب أو ممرض واحد، يوجد 985 شخصاً بحاجة للرعاية، وهي النسبة التي تتقلص إلى 120 شخصاً تقريباً في أوروبا والأميركتين مثلاً، فهل يمكن أن تكون مثل تلك الفيديوهات بمثابة مساهمة في التوعية؟ وهل يمكن اعتبار مشاركة الصيادلة أيضاً مساهمة في التخفيف عن كاهل المستشفيات والمراكز الطبية؟

لا ينكر عضو مجلس نقابة الأطباء السابق الجراح خالد سمير أن هناك معاناة من نقص عدد الأطباء، وهو أمر تم إقراره رسمياً من قبل مسؤولين مصريين، لافتاً إلى أن الأطباء يغادرون بالفعل، وأن عددهم غير كافٍ، ويبحثون عن فرص في بلدان أخرى ليس فقط بسبب الأجور، لكن لأنه بحكم منصبه في فترة من الفترات كمشرف على لجنة آداب المهنة، عايش قضايا كثيرة حصل فيها الأطباء على أحكام قوية، مثل السجن والإيقاف والغرامة.

ويشير سمير إلى أن المسؤولية الطبية المباشرة عن أي إهمال أو جريمة مثل الاتجار بالأعضاء "أمر يستدعى أقصى العقوبة، لكن هناك مضاعفات تحدث لا يكون الطبيب سبباً فيها، ومع ذلك يُحاسب عليها". وهو مناخ في رأيه "طارد للكفاءات". ثم عاد وشدد على أن الطبيب هو المنوط به وصف الأدوية مهما كان الوضع، وذلك بعد فحصه المريض سريرياً، ثم استطرد: "كذلك العلاج عن بعد مجرم قانوناً، كما أن إعطاء النصائح الطبية عبر وسائل الاتصال ممنوع، وبالطبع إعلان الطبيب عن نفسه".

من يحمي خصوصية المرضى؟

رغم أن تلك الممنوعات واضحة بحكم القانون واللوائح المنظمة للمهنة، لكن هناك تحايل عليها وفق ثغرات عدة، فمثلاً القانون يتيح للمستشفيات والمراكز الطبية الإعلان عن خدماتها، وهي النقطة التي يتمكّن من خلالها أطباء كثر من التحايل على البنود، بحسب ما يؤكد خالد سمير أستاذ الجراحة، وبالحديث عن الإعلان عن الخدمة الطبية بالطريقة المنتشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الذي يتضمن في كثير من الأوقات إفشاءً للأسرار سواء فيما يتعلق بصور المرضى، أو حتى سرد حالاتهم وتجاربهم سواء بأسلوب جاد أو ساخر مثلما يحدث من بعض المنتمين للمؤسسات العلاجية، قال الطبيب سمير إن ما يحدث من إفشاء لأسرار المرضى من دون علمهم هو "انفلات وجريمة". مؤكداً أن أي محتوى يخص المرضى "لا يجوز نشره من قبل الطبيب بأي وسيلة إلا بموافقة موثقة، سواء أكان هذا المحتوى صورة أو فيديو أو حتى معلومة أو حكاية تكشف عن هوية المريض وطبيعة حالته ضمنياً".

ويحضر هنا قسم أبقراط أحد كبار أطباء اليونان، الذي توفي عام 370 قبل الميلاد، حيث صاغ في عبارات مستفيضة لوائح مهنة الطب التي تسير عليها كبرى الكيانات حتى اليوم، لكن كل بطريقته حيث تتعدد نسخ القسم بتعدد الثقافات، فقد بات محدداً بنصوص قانونية، بدلاً من القسم العاطفي الإنساني غير الملزم، ومن أشهر صيغه عربياً: "أقسم بالله العظيم أن أراقب الله في مهنتي. وأن أصون حياة الإنسان في جميع أدوارها، في كل الظروف والأحوال، باذلاً وسعي في استنقاذها من الموت والمرض والألم والقلق، وأن أحفظ للناس كرامتهم، وأستر عوراتهم، وأكتم سرهم. وأن أكون على الدوام من وسائل رحمة الله، باذلاً رعايتي الطبية للقريب والبعيد، الصالح والطالح، والصديق والعدو. وأن أثابر على طلب العلم، أسخره لنفع الإنسان لا لأذاه، وأن أوقر من علمني، وأعلم من يصغرني، وأكون أخاً لكل زميل في المهنة الطبية في نطاق البر والتقوى، وأن تكون حياتي مصداق إيماني في سري وعلانيتي، نقياً مما يشينني أمام الله ورسوله والمؤمنين. والله على ما أقول شهيد".ويختتم الدكتور الصيدلاني ثروت حجاج، رئيس لجنة الصيدليات في النقابة العامة للصيادلة بمصر، بتأكيد ضرورة تفعيل الرقابة على الأطباء من إدارة العلاج الحر بوزارة الصحة، وأيضاً تفعيل التفتيش الصيدلي بالوزارة، مؤكداً بشكل قاطع بأن الجهات الرسمية قادرة على هذا الردع بشكل حاسم.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات