Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

3 أفلام عن بلاد ما بعد البوعزيزي والمآسي الصغيرة

السينما التونسية تحقق انطلاقة جديدة وتحل في الطليعة العربية

من الفيلم التونسي "أطياف" (الخدمة الإعلامية)

شهدت السينما التونسية بعد "ثورة الياسمين" رغبة عارمة في قول ما كانت تكتمه البلاد طوال عقود. كل ما كان محظوراً في العهد السابق وجد طريقه إلى الشاشة. تحررت الكلمة فجأة، ودخل الفيلم التونسي في مرحلة جديدة، هي مرحلة البوح، ونقد الفترة السابقة، سياسياً واجتماعياً. عدد من الأفلام برزت بقوة في المهرجانات السينمائية الدولية، من مهرجان "كان" إلى "البندقية" في "برلين"، وحملت لواء التغيير والتجديد. ولم يكن المستوى الفني دائماً هو المعيار في اختيارها، بل لعب المضمون دوراً مهماً، ولا بأس بذلك في مرحلة انتقالية، لكن المستوى عاد وتحسن في السنوات الأخيرة، وباتت السينما التونسية تأتينا بأعمال ناضجة فكرياً ومكتملة شكلاً، كما هي الحال مع أفلام علاء الدين سليم ويوسف الشابي ومهدي حميلي وغيرهم.

وهكذا اتجهت الأنظار إلى بلد وناس يحاولون النهوض بعد مرحلة من الفوضى والمشكلات السياسية، والمرحلة الجديدة أنتجت واقعاً مغايراً حرصت السينما على التعبير عنه، على الرغم مما حملته بدورها من تحديات اجتماعية وسياسية جديدة. بعد جيل من السينمائيين قالوا كلمتهم في الواقع التونسي ما قبل الثورة، برز جيل جديد من التوانسة الذين وجدوا في الحرية المعطاة لهم أرضاً خصبة لأفكارهم وتطلعاتهم للمستقبل، انطلاقاً من مراجعة الماضي وإعطاء الحاضر حقه، هذا الجيل سعى إلى نفض الغبار عن أسلوبية سينما الفترة السابقة وإعادة تشكيل الأولويات بلغة متصلة بالواقع. أعمارهم بين الثلاثين والأربعين، عاشوا الثورة بكامل تفاصيلها، تحمسوا لها أو تنصلوا منها، سكنتهم وسكنوها، ولا تزال آثارها النفسية والاجتماعية والسياسية تلقي بظلالها على أفلامهم. 

ثلاثة أفلام تونسية تأخذ من تونس مسرحاً للأحداث عرضت في الفترة الأخيرة، وهي تؤكد أن السينما التونسية في صدارة السينمات العربية، من حيث الجرأة في تناول حكايات التوانسة ومناكفة الواقع وعدم الاكتفاء بالرواية الرسمية والإعلامية، لما حدث في تونس في مطلع العقد الماضي. هذه السينما أثبتت من خلال حفنة من الأفلام التي عرضت في المهرجانات طوال السنوات الخمس الأخيرة على الأقل، بأنها قادرة على إنشاء حوار بين الماضي والحاضر، فالماضي القريب لا يزال تأثيره قوياً في الحاضر، وأي فيلم لا تكون خلفتيه ما حصل يبقى ناقصاً.

 

"حرقة" للطفي ناثان (وهو مخرج ثلاثيني مصري بريطاني)، من الأفلام التي تندرج في إطار الواقعية الاجتماعية المشبعة بالتفاصيل التي ترى كفاح الإنسان الذي لا يملك شيئاً سوى كرامته. الأحداث تقدم لنا بلا روتوش، وكما هي، أو على الأقل كما يراها المخرج. لا بطولة، بل بطل مضاد، شأنه شأن كثير من سكان المغرب الكبير وشمال أفريقيا، الذين لا يحلمون سوى بالرحيل. هنا البطل المضاد هو علي، شاب في العشرينيات، يتاجر في المحروقات تجارة غير شرعية. لا يملك خياراً آخر سوى هذه الوظيفة، لإعالة شقيقتيه الشابتين، في غياب أي سند له. مشكلاته تتفاقم بعد وفاة والده الذي لن يرث منه سوى الدين، وهذا الدين عليه أن يسدده وإلا سيصادر المصرف البيت الذي يقيم فيه مع شقيقتيه. تقسو الحياة على علي بلا أي مبرر، فلا يرى سبيلاً للخروج من أزمته إلا اللجوء إلى ما لا يمكن إصلاحه: حل على طريقة البوعزيزي. الفيلم لا يعود إلى البائع المتجول الذي أطلق شرارة الثورة التونسية، بل يحاول القول إن هناك ملايين الشباب مصيرهم لا يختلف عن مصير البوعزيزي، وذلك بعد مرور عقد على الثورة.

صحيح أن جميعهم لا يختار الحل الأكثر راديكالية، ولكنهم يعيشون في القهر، وهم مشاريع بوعزيزية في أي لحظة. يناضل علي من أجل الحفاظ على كرامته في نظام اقتصادي واجتماعي لا يبالي بأمثاله، لكنه يرى القليل الذي يملكه، يستحق ان يموت من أجله. الفيلم الذي عرض في مهرجان "كان" الأخير (قسم "نظرة ما")، يحكي عن الاختلاف، اختلاف بطله عن سائر المكافحين من أجل لقمة العيش الذين يفضلون ركوب قوارب الموت في اتجاه أوروبا، على غرار صديق علي الذي يعده بالمال والبنات في برلين. في زمن اعتادت السينما تصوير شخصيات فيها من الخير ما يعادله من شر، اختار المخرج شخصاً يحافظ على مناقبيته مهما أقفلت أمامه سبل العيش. ومن هنا التعاطف الذي يولد عند المشاهد تجاهه ولا يتحول إلى شفقة، هذا القدر من المبادئ في وجه الفساد والظلم لا بد أن يكون مصدر إعجاب.  

"أشكال" سينمائية

التونسي يوسف الشابي مخرج ثلاثيني آخر، قدم رؤية مغايرة عن تونس في فيلمه "أشكال" (عرض أيضاً في مهرجان "كان" ضمن فقرة "أسبوعاً المخرجين")، العنوان الذي يقول كثيراً عن اتجهات عمله هذا. ففي العاصمة تونس، يوجه كاميراه ملتقطاً الأحداث الغامضة والسوداوية التي هي بدورها نوع من جردة حساب لحال البلاد، بعد عشر سنوات على الثورة. إنها تونس بعد بن علي التي تستحق أن تنقل إلى الشاشة. والفيلم يمدنا بهذا الانطباع المتواصل بأن شيئاً ما جرى هنا، ويستحيل على الفيلم أن يتحدث عنه بلغة مباشرة، بل عليه أن يشعرنا به، حيناً من خلال الجماليات، وحيناً من خلال كلمة تفلت من إحدى الشخصيات. كل شيء محصور في الأجواء، على الرغم من أن البقعة الأساسية التي تغدو مسرحاً للأحداث هي "حدائق قرطاج"، ويبدو أن وظيفتها هي بث إحساس الغرابة، وربما حتى الاغتراب. يروي يوسف الشابي أن هذا الشعور دهمه حينما كان يمر من أمام "حدائق قرطاح"، فتطور هذا الإحساس ليصبح مادة فيلمية، نظراً إلى ما تعنيه هذه الحدائق من مشروع سكني فخم للطبقة الميسورة.

وهي في النهاية برج عاجي يطل على الواقع التونسي من الطبقات العالية، هذا المشروع الذي انطلق في عهد بن علي وتوقف مع الثورة، يجسد في نظر المخرج الفراغ والخيبة والفشل، وهو انعكاس لبلاد لا بد أنها تتجه إلى المجهول. وما كان مفترضاً أن يجسد الثراء والحداثة، أصبح مع تغير الأولويات كتلاً أسمنتية وفراغاً وبقعة مهجورة. إنها مدينة أشباح، يحولها الشابي إلى مسرح لفيلم بوليسي يغازل فيه أبجديات السينما الأميركية. أما الحبكة فهي على الشكل الآتي: شرطيان يحققان في حوادث متكررة تتمثل في ناس يضرمون النار في أجسادهم. الفيلم ينطلق من المكان المذكور آنفاً ويعود إليه مراراً، وكأنه يريد سحق شخصياته بشكل متعمد. "حدائق قرطاج" تشير هنا إلى النظام القائم، كما لو كانت برج مراقبة، يتظلل تحتها الفساد والعنف والظلم.

"أطياف" تونسية

مع "أطياف" الذي عرض في مهرجان لوكارنو العام الماضي، وكذلك في عدد من المهرجانات العربية والغربية، أنجز مهدي هميلي فيلمه الثاني، بعد باكورته "تالا مون أمور" (2016) التي تناول فيها الثورة. هو أحد أصغر المخرجين عمراً في تونس، ومرجعياته السينمائية تتراوح بين جون كاسافيتيس والكاتب الفرنسي الشهير سيلين. في "تالا مون أمور" أراد فيلماً عن الثورة، ولكن من دون الكليشيهات المعتادة. قارب المسألة من وجهة نظر شخص يرفضها، على الرغم من مشاركته في انتفاضة الحوض المنجمي (2008)، التي أطلقت بوادر الثورة التونسية بحسب قوله. وما دفعه إلى إنجاز الفيلم هو وجود عدد من الأعمال التي قالت أشياء مغايرة للحقيقة، مما جعل المشاهد الغربي يعلن عدم رغبته في رؤية فيلم تونسي عن شخصية ترفض الثورة. يقول هميلي إن الأحياء الشعبية في تونس هي التي ثارت، كذلك المدن الداخلية، وليس الذين يجلسون في المقاهي أو الذين خرجوا في 14 يناير (كانون الثاني).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مع "أطياف"، قدم فيلماً عن أوضاع تونس في الزمن الراهن، مقارباً الواقع من وجهة نظر اجتماعية ميلودرامية، حيث العائلة حاضرة وغائبة، وحيث ثلة من الكاراكتيرات التي تعيش على الهامش وتعاني الأمرين من أجل القفز فوق مشكلاتها ومعاناتها. الشخصية الأساسية هي آمال التي تزج في السجن بعد اتهامها ظلماً بممارسة الدعارة. بعد خروجها من السجن تبدأ رحلة بحثها الطويل عن ابنها الوحيد، وهو لاعب كرة قدم. هذه الرحلة تكون مناسبة للولوج في باطن المدينة وعالمها السفلي وقلبها وشرايينها، حيث أشخاص من مختلف الطبقات الاجتماعية والقناعات. هي أيضاً رحلة تدريبية تغيرها من الداخل وتكشف لها حقائق كثيرة من النوع الذي يغير الإنسان ويحمله من حالة إلى حالة. في النهاية، تجد أمل نفسها، وربما تكون أقوى مما مضى في مواجهة واقع عنيف لا يرحم.

لا يمكن تناول الفيلم من دون التذكير بأنه يحمل رأيه الشباب، وهو فيلم معهم وعنهم ومن أجلهم. في المقابل، لا يجمل هميلي الأشياء التي يصورها، يضرب بيد من مخمل ويداعب بيد من حديد، لكن الصورة التي يقدمها عن تونس لا يمكن أن تصلح شعاراً لحملة وزارة السياحة، ما لا يرغبه في الأساس كمخرج يلتزم كشف واقع آخر من وقائع بلاده.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة