Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تيودورا ديموفا تفضح الحقبة الستالينية في بلغاريا

رواية "المحطمون" ترفع الحجاب عن ارتكابات الشيوعيين وأعمال التطهير

سقطت الشيوعية في بلغاريا وبقي تمثال لينين (متحف صوفيا)

إعادة تشييد الذاكرة الجماعية ومنح الكلام للمنسيين ضرورة لا بد منها للشفاء من جروح التاريخ والمضي قدماً. وهذا ما تفعله، بألمعية نادرة، الكاتبة البلغارية تيودورا ديمونا في روايتها، "المحطّمون"، التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار "سيرت" السويسرية. رواية صاعقة، شكلاً ومضموناً، نتعرف فيها إلى فصل مجهول من فصول الستالينية الدموية: التطهير الرهيب الذي أعقب غزو الجيش الأحمر بلغاريا عام 1944 ووصول الشيوعيين إلى السلطة فيها.

لسرد هذا الفصل، تنطلق ديمونا من حدث مروع حصل في مدينة بولياروفو في العام المذكور: إيقاف 147 رجلاً بريئاً وسجنهم لمدة عام، قبل محاكمتهم أمام محكمة أهلية وإعدامهم عام 1945. حدثٌ تقاربه الكاتبة من خلال جوقة من الأصوات النسائية، وتحديداً أربع نساء، نشاهد في مطلع الرواية ثلاثاً منهن في مدفن صوفيا، صباح يوم بارد من فبراير (شباط) 1945، على حافة المقبرة الجماعية التي رميت فيها جثث أزواجهن الذين شاء القدر أن يجتمعوا في زنزانة واحدة ويخضعوا لتعذيب لا يصدَّق، قبل رميهم بالرصاص.

الرواية تتألف من أربعة فصول، يحمل كل واحد منها اسم واحدة من أولئك النساء. في الفصل الأول الذي يحمل اسم راينا، نرى هذه المرأة تدور على نفسها داخل منزلها، في حالة ضياع كامل. ولا عجب في ذلك، فالحكم بالإعدام صدر على زوجها نيكولا، بعدما عانى الأمرّين في السجن. وكي لا تعانق الجنون، تتحدث إليه، بصمت، كي لا توقظ طفليهما. مونولوغ مشبع بالحنين إلى ماضٍ سعيد، وبالألم من حاضر يدوم منذ لحظة اعتقال شريك حياتها. مونولوغ تكرر راينا خلاله اسم نيكولا باستمرار، مثل صلاة، في كل جملة تقريباً، كي لا تغادره. كي تستشعر يده في يدها. كي لا تترك أي فسحة للموت الذي يتربّص به.

السجانون والتعذيب

من هذا المونولوغ نعرف أن نيكولا كان كاتباً وناشراً لامعاً لم تمنعه الحرب الدائرة من متابعة نشاطه الفكري وحياته الاجتماعية، بخلاف راينا التي أدركت بحدسها أن الخطر وشيك، ولذلك كانت تلحّ عليه لمغادرة وطنهما وتتلقى رفضاً منه، قبل أن يقترح عليها الرحيل مع طفليهما من دونه. لكن بما أن ذلك مستحيل بالنسبة إليها، تبقى حتى النهاية مع زوجها الذي لن يعرف التضحيات المؤلمة التي ستقدّمها كي يوقف سجّانيه تعذيبهم له، ولومها الثابت لنفسها على فشلها في العثور على الكلمات الصائبة لإقناعه، قبل اعتقاله، بضرورة المغادرة، بالتالي الشعور بالذنب الذي يتآكلها، في حين أنها لم تفعل سوى الخضوع لنتائج قراراته.

الفصل الثاني يحمل اسم إيكاترينا، المرأة التي كانت شابة جامعية حين اعتُقل زوجها، الكاهن مينا، ومثل راينا، حاولت عبثاً إقناعه بصحّة الإشاعات عن اضطهاد الشيوعيين رجال الكنيسة، لكنه لم يصغِ إليها. فصل نتلقّاه على شكل رسالة تكتبها هذه المرأة لأولادها كي يتمكنوا، حين يكبرون، من معرفة مَن كان والدهم، ومَن كانت أمّهم. هكذا نتعرّف إلى القصة هذه العائلة التي سيتم ترحيلها إلى الريف، بعد إعدام مينا، وإسكانها، فتعيش في ظروف مرعبة في بؤسها.

رسالة إيكاترينا مفجِعة في الطريقة التي تتوجّه هذه المرأة بها إلى أولادها وتتأمل فيهم أثناء كتابتها، لعلمها باقتراب منيّتها. مفجِعة أيضاً في وصفها والدهم لهم، وقولها ما ينتظره منهم، أي عدم كره أولئك الذين دمّروا حياتهم، وفي ملئها الصفحات البيضاء من قصة عائلتهم. مفجِعة أخيراً في حثّها إياهم على مغادرة وطنهم لكونهم سيتعرّضون فيه دائماً للاضطهاد بسبب مَن كان والدهم. وفي هذا السياق، تفسّر ببصيرة لهم ــ ولنا ــ استراتيجية الشيوعيين ومخاطرهم.

الفصل الثالث يحمل اسم فيكتوريا ومجدالينا، ونتلقّاه على شكل قصة نتعرّف فيها أولاً إلى بوريس، زوج فيكتوريا، الذي كان، قبل اعتقاله، رجل أعمال أسس تعاونية زراعية درّت عليه الكثير من المال وجعلته يعيش برفاهية مع زوجته. نتعرّف بعد ذلك إلى فيكتوريا التي عشقت باريس، برساميها وكتّابها، إلى حد يفسر زياراتها المتكررة لـ "عاصمة الأنوار" وتطعيمها الثابت لكلامها بعبارات فرنسية. عشقت أيضاً البيانو وبرعت في العزف عليه، على الرغم من لا مبالاة زوجها بذلك. عاقر، يشاء القدر أن تجد يوماً على باب دارها الطفلة مجدالينا، فتُجَنّ من الفرح وتتبنّاها في السرّ.

الترحيل الإجباري

حين يُعتقل بوريس، تنهار حياة فيكتوريا، كما حصل مع راينا وإيكاترينا. ومثل هذه الأخيرة، تخضع لترحيل إجباري إلى الريف مع ابنتها، حيث تضطر لكسب قوتهما إلى العمل كخادمة، ثم كعاملة في مصنع طوب. ولتحمّل هذا البؤس، تغرق في الكحول وتحدّث نفسها بهستيريا مؤثرة تجعل مجدالينا تمتنع عن طرح أي سؤال عليها لتجنُّب ثرثرتها المؤلِمة. لكنها ستتساءل دوماً إن كان ما ترويه أمها هو من صنع خيالها أم لا، نظراً إلى قسوة مضمونه الرهيبة.

في هذه الفصول الثلاثة، نعيش أيضاً، وبالتفصيل، عملية توقيف نيكولا ومينا وبوريس على يد شبان شيوعيين ثلاثة: فاسا المجرم الذي أُطلِق سراحه من السجن، مثل كثيرين غيره، لتطهير البلد من "الفاشيين" الذين تهدّد حرية تفكيرهم الثورة، أو يشكل نجاهم الاجتماعي شتيمة ليوتوبيا المساواة؛ يوردان، طفل الزنا المليء بالمرارة والكراهية؛ وأنغيل الأيديولوجي الذي لا يلبث أن يرى كيف تصفّى الحسابات الشخصية باسم العقيدة، فيُسائل عمله "القذِر" الذي كان يبدو له شرّاً ضرورياً لبناء مجتمع مثالي.

الفصل الرابع يحمل اسم حفيدة راينا، ألكسندرا، ونراها في مطلعه، في سن الخامسة، محاطة بأشخاص مكلومين يتجنبون التحدث إليها كي لا يكشفون لها ما تعرفه، أي وفاة والدها الرسام ميخائيل؛ ثم بعد عام من هذه الوفاة، في شقة كبيرة، مع جدتها راينا، بعيداً من أمها سييا التي رفضت الاستقرار معهما لعدم احتمالها شبه ابنتها الكبير بزوجها. في تلك المرحلة القاتمة من حياتها، لم تختبر هذه الطفلة الألوان إلا في اللوحات التي تركها والدها خلفه، وفي بولياروفو حيث كانت جدّتها تأخذها من وقت إلى آخر كي تريها، من الخارج، منزلها القديم الذي بات ملكاً لأسرة مؤيّدة للثورة، والغابة القريبة منه، قبل العودة إلى صوفيا حيث كانت حياة ألكسندرا عبارة عن "صمت يصمّ الآذان" ويمنعها من معرفة لماذا أُعدِم جدها، ولماذا "انفجر قلب" والدها.

صمت وأكاذيب

وبسبب هذا الصمت والأكاذيب التي رافقته، تعجز هذه الطفلة عن النهوض بحياتها، وتظن بأنها مسؤولة عن معاناة أمها، فتحاول عبثاً إخراجها من اكتئابها العميق، وتتفانى في الاهتمام بجدتها حتى وفاة هذه الأخيرة في ذراعيها. ومن هذيان راينا الجارف قربها، تتمكن من جمع نُتَفٍ من قصة عائلتها.

تجدر الإشارة هنا إلى أن راينا وإيكاترينا وفيكتوريا كنّ يعرفن بعضهن بعضاً، قبل الانقلاب الشيوعي، كما كنّ يعرفن الشبان الثلاثة الذين اعتقلوا أزواجهن. يتشاركن أيضاً ذلك البحث الرهيب والمتزامن، مع سائر الأرامل، عن تلك الحفرة في مدفن صوفيا التي رمي فيها أزواجهن، وإشعالهنّ الشموع حولها وترتيلهنّ بصوتٍ واحد مهيب حال دون غرقهنّ في وحل المقبرة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن عدم التمييز بين الأسود والأبيض في "المحطّمون"، إذ ينتظرنا داخلها جلادون يسائلون أنفسهم وأفعالهم، وضحايا يتورّطون في تسويات أو يعجزون عن تجاوز مأساتهم، فيورثون عواقبها لذريتهم. تنتظرنا خصوصاً طريقة فريدة لمقاربة جرائم الستالينية في بلغاريا، عبر سرد حيوات ضحاياها، قبل هذه الجرائم وبعدها. من هنا وقع هذه الرواية الحاد على نفوسنا، الذي يعود أيضاً إلى مهارات ديموفا الكتابية، وإلى نجاحها في العثور على النبرة الخاصة والصائبة لكل فصل، من دون خلخلة تماسُك عملها ككُلّ، وإلى جُمَلها الطويلة، الخالية من الترقيم، التي تُنهِك قارئها وتعذّبه. مميزات تساهم جميعاً في جعلنا نتشارك مآسي بطلاتها ونختبرها في أدنى تفاصيلها، من أقرب مسافة ممكنة.

لكن أبعد من راينا، إيكاترينا، فيكتوريا ورجالهن المقتولين، يشكّل الألم الشخصية المحورية للرواية. إذ يتصاعد من نثرها الملتهب ويتمكّن، بطريقة غريبة وحاذقة، من مسّنا وإيلامنا، وفي الوقت نفسه، من مواساتنا، وربما شفائنا.

وهذا ما يقودنا إلى قيمة هذا النص الأولى. فإضافةً إلى كونه بورتريه بالغ التأثير للنخبة الفكرية البلغارية التي هرسها إرهاب الستالينية، إنه بورتريه مجتمعٍ أدّى كتمان مآسي الكثير من أبنائه إلى تحوّلها إلى سرٍّ مؤلم. ولأنه يتعذر تشييد أي شيء على الأسرار والأكاذيب والأشياء التي لا تقال، تشكل "المحطّمون"، بتعريتها جرح بلغاريا المخفي ووضعها الإصبع عميقاً فيه، ليس فقط تحفة أدبية لا شك فيها، بل أيضاً تلك الشهادة الضرورية لأبناء هذا البلد كي يعزّموا أشباح ماضيهم ويأملوا بمستقبل أفضل.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة