Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الفرنسي" أرمان غاتي... 92 عاما في الفن والسياسة خارج التصنيف

"نشيد عام أمام كرسيين كهربائيين" حيث المسرح داخل المسرح يرسم مصيراً أليماً

أرمان غاتي: مسرح لا يشبه أي مسرح آخر (غيتي)

ولد الكاتب والمسرحي أرمان غاتي في موناكو تلك الإمارة الصغيرة التي اعتاد كل من يولد فيها أن يعتبر وكأنه ولد وفي فمه ملعقة من ذهب، لكن هذه لم تكن حال ذلك الفتى الذي كان يحمل عند ولادته اسماً مهيباً، دانتي المخلص، لكنه سيفضل لاحقاً أن يستبدله بالاسم الفرنسي الخالص الذي رافقه حتى نهاية حياته ووقع به كل إبداعاته الفنية هو الذي بدأ خوض تلك الإبداعات باكراً لأنه ولد فقيراً ولو في موناكو، فهو ولد لأسرة مهاجرة أصلاً، حيث كانت والدته تعمل خادمة في منازل الأثرياء، بينما عمل أبوه زبالاً يكنس شوارع تلك الإمارة الذهبية، لسوف يحتفظ غاتي من ولادته وسنوات طفولته الأولى بصور محزنة تنم عن فقر مدقع وسط عالم من الثروات، ولن يفوته لاحقاً حين سيصبح كاتباً كبيراً ومناضلاً "محترفاً" أن يخص أباه، وأمه إلى حد ما، بمسرحية يحيي فيها على طريقته "الحياة المتخيلة لأوغوست جيئاي" (1962) ستعتبر على الفور واحدة من أهم مسرحياته، لن تزيحها عن ذلك العرش سوى المسرحية التالية التي كتبها وأخرجها للمسرح في عام 1966، "نشيد عام أمام كرسيين كهربائيين" وليس فقط لأن المسرحية تحدثت عن إعدام السلطات الأميركية بواسطة الكرسي الكهربائي في عام 1929 المناضلين الفوضويين من أصل إيطالي ساكو وفانزيتي- وهو إعدام نعرف أنه أقام العالم ولم يقعده لكن السلطات الأميركية أصرت عليه ما خلق ضدها حالة عداء و"وصمة عار" تواصلتا طويلاً. وكان الفنانون والكتاب الأميركيون في طليعة المحتجين، بل كذلك لأن غاتي استخدم فيها أسلوباً تجريبياً في "الفعل المسرحي" ضاعف مرات ومرات من حيرة نقاد المسرح ومؤرخيه بصدد تقييمهم له وتصنيفهم مسرحه.

الشرطة تقتل الأب

ولكن قبل التوقف عند هذا لا بد من العودة إلى المسار الحياتي لذلك الكاتب والرسام والمخرج والممثل الذي ولد في عام 1924 لتلك العائلة المهاجرة، وكان في الثامنة عشرة حين قُتل أبوه خلال تظاهرات عمالية جابهتها الشرطة في عام 1942 بالرصاص الحي. ولسوف يتجذر لديه منذ ذلك الحين غضب عارم لن يبارحه أبداً، لكنه لن يدفعه في اتجاه الانتماء السياسي لأي حزب، بقدر ما سيدفعه إلى اللجوء لمواهبه الفنية العديدة التي راحت تتفجر لديه بالتدريج جاعلة إياه، وحتى سنواته الأخيرة يخوض، على طريقته الخاصة، نضالات يتضافر فيها الفن والسياسة، وذلك بدءاً من انخراطه في المقاومة ضد الاحتلال النازي لبلاده وتسليم هتلر الحكم فيها لفاشيي الجنرال بيتان وحكومة فيشي، وهو بعد الحرب مباشرة وبالتوازي مع اهتماماته المسرحية والأدبية اختار الصحافة مهنة له، ولكن الصحافة الميدانية التي أتاحت له التنقل بين القارات والدول ملاحقاً الحروب والثورات، ليطلع من ذلك إلى جانب تحقيقاته الصحافية التي راحت تنم عن إدراك حقيقي لجوهر الأحداث، بأعمال مسرحية يحلو للنقد أن يصفها تبعاً للمواضيع التي عبر عنها فيها، فهناك مثلاً بالنسبة إلى النقد، المسرحيات الصينية ("السمكة الحمراء" 1957)، والغواتيمالية ("الكويتزال" 1960) والفيتنامية ("ف. مثل فيتنام" 1967). وهو في أثناء ذلك وبين تلك المسرحيات التي يكتبها من حول معايشته أحداثاً في ميادينها لم ينس أن يعبر عن كراهيته للنازية كما في "الفتى – الفأر" (1960) و"الوجود الثاني لمعسكر تاتنبرغ" (1962)، كما لفاشية الجنرال فرانكو وجماعته، في "آلام الجنرال فرانكو" (1968).

مسرح سياسي خاص

بشكل عام، أجل! كان مسرح أرمان غاتي مسرحاً سياسياً، ولكنه اتسم بأبعاد سياسية شديدة الخصوصية بل بالغة البعد عما يعتبر "واقعية سياسية". وبالأحرى كان مسرحاً تجريبياً، يحاول من خلاله هذا الكاتب- المخرج أن يبتكر لكل مسرحية أساليبها الخاصة بها، التي بالكاد تشبه الأساليب التي كانت يتبعها في ما يسبقها من مسرحيات. ولعل مسرحيته عن إعدام ساكو وفانزيتي هي التي تمكنت من إيصال تجريبيته إلى ذروة غير مسبوقة. وليس فقط لأنه هنا "ابتكر" ما يمكن اعتباره "مسرحاً داخل المسرح" فهذا النوع من الممارسة المسرحية لم يكن جديداً تماماً وقد اتبعه أسلوبياً عدد من الكتاب والمخرجين من قبل غاتي. أما ما شكل تجديداً بالنسبة إلى غاتي هنا فكان إخفاء الحدث تماماً، بحيث إن المتفرجين الذين سيقصدون القاعة التي تقدم عليها مسرحية أرمان غاتي المعلن عنها لن يشاهدوا على خشبة المسرح الذي يتفرجون عليه سوى... متفرجين آخرين جالسين في مواجهة قاعة أخرى جانبية لا يشاهد الجمهور الحقيقي ما يحدث فيها، كل ما في الأمر أن الجمهور الحقيقي سيمضي نحو ساعتي العرض وهو يتفرج على الجمهور الآخر الجالس على المسرح وهو يمثل بأجمعه جمهوراً يتفرج على الإعدام، أو فلنقل: يتفرج على ما يفترض أنه مشهد إعدام الفوضويين الإيطاليين المهاجرين وقد أجلسا على الكرسي الكهربائي، بالتالي فإن ما يشاهده الجمهور الحقيقي ليس أكثر من ردود الفعل التي يبديها الجمهور الوهمي وتواتر مشاعره أمام ما يفترض أنه يحدث!

جمهوران يتواجهان والقضية واحدة

بكلمات أخرى وكما يشرح غاتي نفسه: يصبح لدينا هنا فضاءان متواجهان يتجابهان وبفتن كل منهما الآخر. ومن حول هذا الافتتان المزدوج يرتكز الأداء الفني ومن خلاله الأداء السياسي للفعل المسرحي. ولعل ما هو الأهم هنا هو أن هذا الفعل ينقل الشعور بالمعاناة والاحتضار الطويل الذي سيختم به حياتهما هذان المناضلان، مقتولين بحكم قضائي رسمي في غرفة الإعدام الكهربائي بسجن تشارلزتاون في مدينة بوسطن– ماساتشوستس الأميركية، لكن أياً من الجمهورين، الحقيقي كما الوهمي لا يشاهد شيئاً مما يفترض حدوثه، وأي منهما لن يسمع صوتاً لما يحدث. والجمهور المؤلف من ممثلين وكومبارس ليس في حقيقة أمره سوى صورة تنسخ الجمهور الحقيقي الجالس في الصالة، بمعنى أن هؤلاء كأولئك إنما هم هنا فئتان من الناس يأتون كي يشاهدوا مسرحية تتحدث عن قضية ساكو وفانزيتي. أما الفارق الوحيد هنا بين الفئتين فهو أن الجمهور المفترض سيتصرف وكأنه يشاهد المسرحية الموعودة بالفعل ويبدي ردود فعله الخاصة وغير العفوية بالطبع تجاهها. أما الجمهور الحقيقي فلا يشاهد سوى ذلك الجمهور الآخر ويتلمس ردود فعله المدروسة مسبقاً بعناية، فالواقع أنه لا مكان للارتجال هنا، فالارتجال متروك لردود الفعل الرافضة أو الغاضبة أو المتجاوبة أو المدهوشة التي لا بد من أن يبديها جمهور حقيقي قد يتذكر ذات لحظة أنه دفع ثمن تذكرة الحضور فيما سيقبض الجمهور الآخر ثمن ذلك الحضور!

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تجريبية قصوى

مهما يكن، فمن الواضح في هذا السياق أن أرمان غاتي قد عرف كيف يوصل تجريبيته المسرحية إلى حدود قصوى، ولكن من خلال عمل سياسي يبعده تماماً عن "مسرح" العبث الذي كان "على الموضة" في ذلك الحين وحاول بعض النقاد المتسرعين أن يجعلوا من أرمان غاتي قطباً من أقطابه غير متنبهين إلى أن "نضالية المحتوى الخفي" لمسرحيته هذه، وربما لمعظم مسرحياته السابقة عليها واللاحقة أيضاً، توسع الهوة بينه وبين أصحاب مسرح العبث. وكذلك كان الحال مع الذين رأوه "مسرحاً ملحمياً" إذ أين ثراء واحتفاليات المسرح الملحمي من تقشف مسرحية غاتي هذه وصرامته المضادة للاحتفالية؟ وكذلك الأمر طبعاً بالنسبة إلى الذين حاولوا ربطه مثلاً، بمسرح سارتر وكامو الوجودي، ففي نهاية الأمر لا يطرح غاتي أسئلة وجودية فلسفية في مسرحه، ناهيك بأن السؤال الوجودي يحتاج عادة إلى طرح فردي، لكن آرمان غاتي (1924 – 2017)، لم يؤمن ولو لحظة بالفردية ولا حتى في عمله المسرحي حيث نعرف أنه كان يحقق تلك الأعمال تحقيقاً جماعياً يشرك فيه الممثلين والعمال والتقنيين وأحياناً النقاد، ففي نهاية الأمر كان غاتي وبقي حتى النهاية يؤمن بأن الفعل المسرحي لا بد أن يكون فعلاً جماعياً يشترك فيه حتى الجمهور فإن لم يوجد هذا الجمهور المشارك بالفعل، يتعين إحضاره ولو بالطريقة التي أحضره بها في هذه المسرحية الغريبة المعنونة بشيء من الغرابة أيضاً "نشيد عام أمام كرسيين كهربائيين".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة