Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هلع المعرفة وفوبيا التطور... كيف نقرأ نتائج "الثانوية" في مصر؟

عدد القلوب المفطورة والعيون الملتهبة بكاء على المجموع تملأ فضاء الـ "سوشيال" ولا يزال حلم "كليات القمة" أهم من التعليم ذاته

الجميع يطالب بإصلاح التعليم الذي تردى كثيراً لكن الجانب الأكبر من أولياء الأمور يبدي مقاومة شرسة لتطويره (أ ف ب)

جرت العادة في مثل هذه الأيام من كل عام ألا يعلو شيء على صراخ مجموع الثانوية العامة، وألا يهيمن قتال على اقتتالات مجموع شيماء الذي اقترب من الـ 100 في المئة، ومجموع ابن عمها الذي خذله و"طلع بمادتين" (لم يحصل على درجات النجاح فيهما).

كما اعتاد الجميع منذ فجر تاريخ الثانوية العامة أن تتواتر أخبار إغماءات البنات ومحاولات انتحار الأولاد ودعاء الأمهات على الوزير وغضب الآباء على إهدار الأموال في جيوب معلمي "السناتر" (مراكز الدروس الخصوصية).

كما تتصاعد الزغاريد من بيوت الناجحين والناجحات، الموفقين والموفقات في حجز مقاعد أمامية في قطار مكتب التنسيق السريع.

وفي عصر الـ "سوشيال ميديا" لدينا كذلك "حبيبي الباشمهندس حسن ألف مبروك صبري وصبرك، ضمنا مكانك في كلية الهندسة"، "حبيبة بابا يا أحلى دكتورة، ألف حمد وشكر يارب، في بيتنا طبيبة"، مع كثير من العيون الزرقاء وكف "خمسة وخميسة" لدرء الحسد وإبطال مفعول العين التي تفلق الحجر.

عادة قذف الأحجار

لكن أحجاراً عدة يجري قذفها هذا العام تفوق في حجمها أحجار الأعوام الماضية، كما تفوقها في التواتر والتسارع، ففي هذا العام يبزغ إشكال الوعي المجتمعي بقيمة المعرفة في مقابل المجموع، التعلم أم التعليم، ومهارات البحث أم مهارات الحفظ عن ظهر قلب.

عدد القلوب المفطورة كمداً والعيون الملتهبة بكاء هذا العام كبير، وعلى الرغم من الارتفاع الطفيف في نسبة النجاح مقارنة بالعام الماضي، إذ بلغت في العام الدراسي الحالي 75.04 في المئة مقابل 74 في المئة العام الماضي، فإن البكاء والعويل يغرقان جنبات الـ "سوشيال ميديا"، بكاء الأهل على لبن الدروس الخصوصية المسكوب ومشاوير السناتر التي تبخرت في هواء مجاميع سبعينية وثمانينية بعد عقود كان "المجموع قرّب على المية"، بحسب أغنية الفنانة ليلى نظمي، وهذا مربط الفرس.

فحين شدت المطربة بأغنية "من الثانوية للكلية" قبل ما يزيد على أربعة عقود، وقالت ضمن كلماتها إن "المجموع قرّب على المية" أي قارب حد الدرجات النهائية، لم تكن تعلم أن الزمن سيدور ويأتي بنظام تعليم عجيب يحرز فيه الطلاب مجاميع تفوق الـ 100 في المئة، بعد حصولهم على درجات نهائية في كل المواد، إضافة إلى مواد ما يسمى "المستوى الرفيع" الإضافية.

ولم تكن نظمي وأبناء وبنات جيلها، وهم في العقد الثامن والسابع والسادس من العمر حالياً، أن صيغة المبالغة في "المجموع قرّب على المية" ستستحيل هدفاً يمكن تحقيقه على مدى سنوات وبأعداد تقدر بالمئات، والاختبارات تضم أسئلة التعبير مثلاً التي يصعب على أحدهم أن يحرز فيها الدرجات النهائية.

"أوديسة" الثانوية العامة

لكن هذه الحال انتهت بملحمة الثانوية العامة هذا العام إلى منافسة هوميروس في جرعة الانتقام التي تحفل بها "الإلياذة"، وكم الأخطار الواردة في "الأوديسة".

منصات التواصل الاجتماعي ومكالمات ولقاءات الأهل والأصدقاء من عابري الثانوية العامة عامرة بكمية من الهبد التاريخي المتعلق بالدرجات والمجاميع وكليات القمة وأقرانها القابعة في القاع،

وشعب الثانوية العامة هذا العام، وقوامه 708 آلاف مواطن ومواطنة ومعهم عائلاتهم وكذلك عائلات عائلاتهم وجيرانهم ومعارفهم، منخرطون في معركة حامية الوطيس تعكس مرحلة حاسمة وحازمة من عملية، أو بالأحرى محاولة، إصلاح العملية التعليمية.

خناقة هذا العام تسلط الضوء بشكل غير مسبوق على فريقين متناحرين، الأول يتكون من أولياء الأمور والمعلمين وأصحاب "السناتر" من رجال وسيدات أعمال ومعهم معلمون احترفوا الدروس الخصوصية وغيرهم من أفراد الشعب الممسكين بتلابيب "ما نعرفه أفضل مما لا نعرفه"، والثاني يتألف من وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني وعدد محدود من أفراد المجتمع المطالبين والمؤمنين بحتمية تطوير التعليم ليرتكز على التعلم والمعرفة، بدلاً من الحشو بغية اكتناز الدرجات والحصول على الشهادة، وبين الفريقين المتناحرين تجري عمليات شد وجذب حامية الوطيس قوامها طلاب وطالبات الثانوية.

الجميع يطالب بإصلاح التعليم المصري الذي تردى كثيراً خلال العقود الخمسة الماضية، لكن الجانب الأكبر يبدي مقاومة شرسة كلما لوحت وزارة التربية والتعليم بإجراء تطوير أو إدخال تجديد أو أعمال عقل، وقبل ثماني سنوات وضعت مصر مبادرة "نحو مجتمع مصري يتعلم ويفكر ويبتكر"، في خطوة لحل مشكلات التعليم المزمنة والاهتمام بوعي وفكر المواطن المصري، لكن واقع الحال على مدى هذه السنوات يشير إلى ميل الأغلبية للاكتفاء بالمطالبة بتطوير التعليم نظرياً وإرجاء التطوير عملياً إلى أن ينتهى الأبناء وربما الأحفاد من التعليم، حتى لا يتم تطبيق الأنظمة الجديدة عليهم.

فكر جديد ورهاب قديم

المناهج قديمة لكن الفكر جديد، وحين يستجد الفكر تستنفر قرون استشعار الخوف وتنتفض هرمونات المقاومة، بل وصل الأمر إلى درجة الشك في وجود حال رهاب تجاه مفهوم المعرفة وفوبيا متعلقة بالتطوير، فكلما تحدث وزير التربية والتعليم والتعليم الفني طارق شوقي عن قياس الفهم وتراكم المعرفة ومخرجات التعليم بدلاً من قياس الحفظ وتراكم المعلومات ومخرجات المخزون، انقلبت "غروبات" (مجموعات) أولياء الأمور والمعلمين ومعهم جموع المعارضين ومن يطلق عليهم "الطابور الخامس"، رأساً على عقب.

طوابير من هواة الإفتاء والتنظير العنكبوتيين، سمة عصر "السوشيال ميديا"، تصب غضبها على "ضياع مستقبل الأولاد والبنات"، لأن أسئلة اختبارات الثانوية العامة باتت تقيس مدى فهم الطالب للمنهج وليس حفظه له، ولأنه لم يعد هناك اختبار واحد موحد لجموع الطلاب والطالبات بل نماذج متعددة درءاً للغش والغشاشين، أو كما يقول طارق شوقي "لمنع التعاون الجماعي"، ولأن الاختبارات أصبحت توضع وفق نظام التقويم الجديد لتقيس نواتج التعلم ومخرجاته.

وإذا كان عرف التنظير وقواعد الإفتاء على أثير الـ "سوشيال ميديا" لا تتقيد بسابق معرفة أو بضرورة تخصص، فإن اعتراض بعض المعلمين، أي القائمين على نواتج التعلم ومخرجاته، وهم يتساءلون ممتعضين شاجبين منددين "طول عمرنا في التعليم لم نسمع بنواتج ولم نتقيد بمخرجات"، وهذا يؤكد أن ملحمة الثانوية العامة هذا العام ليست ككل عام، فقد صارت كاشفة والتنظير شارحاً في أجواء إعلان نتيجة الثانوية وتوابعها التي تنافسها في القوة على مقياس ريختر الشعبي.

اهتزازات البيوت

اهتزازات البيوت التي حصل طلاب الثانوية العامة فيها على مجاميع "لم تقترب من الـ 100" كما قالت ليلى نظمي تشي بكثير، وتمتمات "ضياع المستقبل" و"خراب الديار" و"هلاك العباد" إضافة لتعليقات "حسبي الله ونعم الوكيل" و"اللهم انتقم ممن حرم ابني من الالتحاق بكلية الطب" و"اللهم عليك بمن تسبب في ضياع آلاف الأموال التي أنفقتها على دروس ابنتي الخصوصية"، تتفجر من بيوت لم تحصد من مجاميع الثانوية العامة ما كان يبتغي أو يتصور.

شكاوى وآهات الأهل ممن اعتادوا بفعل تردي نظام التعليم وخرابه على مدى عقود الربط بين عدد ساعات المذاكرة ومقدار الدرجات المحزرة، وكذلك بين قيمة الآلاف المنفقة على الدروس الخصوصية ومشاوير "السناتر" وبين كليات القمة المتاحة بفعل المجموع المذهل تسمعها وتتابعها وتطالعها في كل مكان، ومعها تأتي حزمة كلاسيكية من "صعوبة اختبار كذا" و"أسئلة اختبار كذا التي أتت من خارج المنهج" و"استحالة تقفيل الاختبار في ظل نوعية الأسئلة الجديدة"، وقائمة طويلة من شكاوى واعتراضات لا تترك مجالاً لسماع أو تعقل أو تفكر أو تدبر في حزمة تدور حولها منظومة تطوير التعليم.

"نطور التعليم بشكل يمحو فكرة أن هناك اختباراً صعباً وآخر سهلاً"، "يتم تصحيح الاختبارات وتوقيع الدرجات على منحنى يقيس المستويات المختلفة للطلاب بالنسبة إلى بعضهم بعضاً، فإذا حصل صاحب الدرجات الأعلى مثلاً على 70 في المئة فإن الحاصل على 65 في المئة يعتبر ممتازاً، لأن القياس يعتمد الأسلوب النسبي"، وهذه وغيرها كثير من تصريحات وزير التربية والتعليم طارق شوقي تجد آذاناً غير صاغية وعقولاً رافضة وأفواهاً على أهبة الاستعداد للحسبنة والممانعة والمعارضة والمقاومة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

المقاومة من قبل الأهل طبيعية، فهم يرفعون راية "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون"، وهو أمر متوقع ومفهوم، لكن غير المفهوم هو التمسك بتلابيب الرفض والمقاومة، وفي الوقت نفسه التشدق بمطالبات تطوير التعليم وتحديثه لمواكبة العصر واللحاق بالركب.

وكان شوقي هاجم العام الماضي نظام الثانوية العامة الذي كان معمولاً به، مؤكداً أن هدف الوزارة هدمه وتغييره بالكامل، "لأنه يخرج أجيالاً غير متعلمة وغير مؤهلة لدخول الجامعة".

وأشار في كلمته أمام مجلس الشيوخ المصري بأصابع الانتقاد إلى الأهل لأنهم يقفون وراء مقاومة النظام الجديد للثانوية العامة، فهم "يريدون الحفاظ على نظام آمن يضمن وصول الأبناء إلى الجامعة بأسهل الطرق وأكثرها أمناً".

لكن أسهل الطرق وأكثرها أمناً لا ينتج منه بالضرورة خريجون مؤهلون للالتحاق بسوق العمل ويتمتعون بمعارف ومهارات وملكات تدفع بهم وبمصر إلى التقدم والمنافسة العالمية، إذ إن نسبة الغش في الاختبارات تصل إلى نحو 85 في المئة، بحسب ما قاله شوقي نفسه.

حلقة الغش والمثابرة

حلقة المثابرة على المذاكرة والاختبارات والغش و"ماراثون" إحراز الدرجات ثم سباق مكتب التنسيق من أجل اللحاق بكليات القمة (طب وهندسة وصيدلة وعلوم سياسية وغيرها)، ومؤهلات التحاق الخريج بسوق العمل وصدمة البطالة بسبب تدني المعرفة وتقلص القدرات، مفرغة وتواجه جهود كسرها قدراً هائلاً من العوائق والمشكلات والمعضلات، أبرزها مفهوم التعليم في العقل الجمعي المصري.

طارق شوقي قال إنه يرجو من الجميع عدم تداول عبارات مثل "ابني منهار" و"الاختبار صعب" أو حتى "الاختبار سهل" أو "الاختبار في مستوى الطالب المتوسط"، فهذه كما يقول "قضايا فنية بحتة"، وأن يشجعوا الطلاب على أن يبذلوا أقصى جهدهم ولا يحكموا على أدائهم مثلما كان معمولاً به في الماضي، بالقياس إلى حل جميع الأسئلة أو "تقفيل" الاختبار، لأن هذا كلام غير علمي ولا يحدث في هذه النوعية من التقويم.

التقويم الوحيد المعترف به من قبل القاعدة العريضة بين أهالي ضحايا الثانوية العامة هو "هل يلتحق ابني أو ابنتي بكلية القمة المبتغاة؟"، وهذا النوع من التقويم فرض نفسه على ملايين الآباء والأمهات على مدى عقود، لا سيما أنهم أنفسهم نتاج هذا الفكر، لكن الأجيال الأكبر سناً من آباء وأمهات طلاب وطالبات الثانوية العامة هذا العام قادرون على تقدير المجاميع التي يسميها الأهل بـ "المتدنية".

يقول جد أحد الطلاب ضاحكاً وهو مهندس متقاعد، إن "مجاميع هذا العام تذكرنا بزمن المجاميع الجميل، وقت أن كان الحاصل على 80 في المئة يلتحق بالطب بكل ثقة وفخر".

خناقة الشهادات وحسابات التنسيق

خناقة "الشهادات" التي سماها الفنان عادل إمام بـ "بلد شهادات صحيح"، فارقة وتدلو بدلوها بشدة هذه الآونة. فالشهادات، تلك الأوراق المزركشة التي يسعى إلى الحصول عليها ملايين الشباب والشابات هذا العام وكل عام، تحولت في معظمها إلى معلقات توضع في أطر ذهبية في غرفة الصالون ليراها الضيوف، أما قدرة الشهادة على ضمان وظيفة أو مهنة جيدة لصاحبها في سوق العمل أو على الصعيد الوطني بالإسهام في بناء أو تقدم أو تطور مصر، فتبقى قيد فصول التعليم ومعلمي المدارس وطلاب الثانوية العامة وأباطرة الدروس الخصوصية والآباء والأمهات الحالمين بـ "المجموع الذي يقترب من الـ 100 في المئة"، وقدرة وزارة التربية والتعليم على الصمود بمخططها التطويري في بحر الثانوية العامة الهائج.

حالياً يموج الأثير بأخبار ومؤشرات مكتب التنسيق، وهو المكتب الذي يحتل المكانة الثانية في قوائم مسببات الرعب وبواعث الفزع، والذي دأب على مدى سنوات تردي التعليم وتدهوره على توزيع الحالمين بكليات الطب على كليات العلوم والحقوق والتجارة، ونثر الطامحين إلى كليات العلوم السياسية والإعلام على كليات الآثار والتربية الرياضية والنوعية، لكنه يقوم بدور مختلف هذا العام.

وبحسب وزارة التربية والتعليم فإن حسابات مكتب التنسيق ستجري على أساس ما تقدمه له الوزارة من درجات تم إحرازها من قبل طلاب الثانوية العامة في شتى المواد، ولذلك فإن الهدف الجديد لطلاب الثانوية العامة ينبغي أن يكون الانضمام إلى كوكبة الـ 10 في المئة العليا من الطلاب وليس "تقفيل" الاختبار، ويقول طارق شوقي إن "هذا أمر لا يستطيع تقديره الطالب أو ولي الأمر من خلال رؤيتهما الشخصية، وإنما يظهر للاختصاصيين بعد رصد الدرجات".

تطوير التعليم جراحة صعبة تحمل التهابات عقود طويلة من الإهمال، ومعها سنوات من اعتياد الطريق السهل حيث حفظ المعلومات لسكبها على الورقة و"تقفيل" الاختبار وإحراز مجموع يقترب من الـ 100 في المئة من دون شرط المعرفة أو المهارة أو الرؤية، وأحياناً القدرة على القراءة الصحيحة والكتابة بأقل أخطاء ممكنة، لكن لا بد منها.

يذكر أن 20 في المئة من الطلاب الملتحقين بالتعليم الفني حتى العام 2015 كانوا يجهلون القراءة والكتابة، مما دفع الوزارة إلى إجراء اختبارات لتحديد مستوى الطلاب الجدد من حملة الشهادة الإعدادية في أساسات التعليم، وهي اللغتان العربية والإنجليزية والحساب.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات