بدأت أوروبا وبريطانيا تشعران بالتأثير الواضح والمتزايد للتغيرات المناخية التي لم تعد تقتصر فقط على تلوث الهواء والإنتاج الزراعي، بل طاولت أيضاً أهم محرك للنشاط الاقتصادي: إنتاج الطاقة. فمنذ صيف العام الماضي، حين لم تكن الرياح على القارة الأوروبية بالقوة والحجم الكافي، توقف كثير من محطات إنتاج الطاقة عبر توربينات الهواء، ما اضطر كثيراً من الدول مثل ألمانيا وبريطانيا وهولندا، وغيرها، لإعادة تشغيل محطات توليد كهرباء تعمل بالفحم بعد أن كانت أخرجتها من الخدمة لتلبية أهداف مكافحة التغيرات المناخية.
ليس فقط أن الرياح لم تأتِ بما يلبي احتياجات الطاقة المتزايدة في أوروبا، بل إن مؤشرات فقر الطاقة زادت مع حرب أوكرانيا هذا العام والعقوبات التي فرضتها أوروبا على روسيا، وأدت إلى تراجع إمدادات الغاز الروسية للقارة الأوروبية. كما أن التغيرات المناخية وتأثير الاحتباس الحراري جعلا معدلات الجفاف في أوروبا وبريطانيا هذا العام أعلى من العام الماضي. ومع التراجع الشديد في هطول الأمطار شهد النصف الأول من هذا العام (2022) تراجعاً شديداً في إنتاج الطاقة من المصادر الهيدروليكية التي تعتمد على انسياب المياه نتيجة هطول الأمطار كما في جنوب أوروبا مثل فرنسا وإسبانيا وإيطاليا أو المنحدرة من الجبال مع ذوبان الثلوج على جبال الألب، كما جاء في تقرير "غلوبال كوموديتس إنسايتس" التابعة لمؤسسة "ستاندرد أند بورز" الصادر هذا الأسبوع.
نقص الأمطار ومخزون المياه
تواجه شركات إنتاج الطاقة من مصادر هيدروليكية في أوروبا نقصاً متزايداً في الإنتاج منذ بداية العام نتيجة انخفاض معدلات هطول الأمطار في الشتاء وارتفاع درجات الحرارة في الصيف، بحسب بيانات مجمعة لشركة الأبحاث "فراونهوفر إي أس إي". ونتيجة موجة الجفاف الشديدة تضطر بعض تلك الشركات لشراء الكهرباء من سوق الجملة الفورية للوفاء بالتزاماتها تجاه المتعاقدين معها. وتتحمل تلك الشركات خسائر هائلة نتيجة ارتفاع سعر الطاقة الفوري بشدة عن أسعار التعاقدات المستقبلية.
وبحسب تقرير "ستاندرد أند بورز"، انخفض إنتاج الطاقة من مصادر هيدروليكية لدى شركة "إي دي أف" الفرنسية بنسبة 30 في المئة على الأقل في الشهر الستة الأولى من هذا العام. و"إي دي أف" هي واحدة من أكبر شركات توزيع الطاقة في أوروبا، ولا يقتصر إمدادها للكهرباء على فرنسا، بل أيضاً تمد بريطانيا وألمانيا وغيرهما بإنتاجها من الطاقة. وأدى نقص إنتاج الطاقة من مصادر هيدروليكية نتيجة الجفاف إلى تراجع عائدات الشركة بنحو 1.4 مليار دولار والضغط على إنتاج الطاقة من المحطات التي تعمل بمفاعلات نووية، كما أن إنتاج الطاقة من مصادر هيدروليكية في شركة "إينل" الإيطالية في عملياتها في إيطاليا وشبه الجزيرة الأيبيرية تراجع بأكثر من الثلث عما كان عليه في العام الماضي 2021.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى الرغم من أن هناك تراجعاً موسمياً في إنتاج الطاقة من مصادر هيدروليكية في نهاية الربيع وفصل الصيف، فإن الظروف المناخية زادت من هذا التراجع بشدة، إذ لا يتسق مع المستويات الموسمية التقليدية. ويقول رئيس شركة "إي دي أف" جون - برنار ليفي، إن التراجعي في إنتاج الكهرباء "يأتي في سياق انخفاض مستويات المياه بشكل غير مسبوق نتيجة الجفاف في فرنسا". أما الرئيس التنفيذي لشركة "إينل" ألبرتو دي باولي، فيرى أن "الوضع أصبح جفافاً مطلقاً في أوروبا"، وهو ما أدى إلى حرمان إيطاليا وفرنسا من نسبة 40 في المئة من الكهرباء أقل من المستويات العادية في هذا الوقت من العام.
وغالباً ما تتحسّب الشركات لتلك التغيرات الموسمية بتخزين مياه الأمطار في فصل الشتاء وتخزين المياه الناتجة عن ذوبان الجليد على الجبال في فصل الصيف، لكن تلك المخزونات أصبحت أقل ولا تكفي لتشغيل التوربينات بسبب نقص كميات المياه من الأمطار ونقص تراكم الجليد على قمم الجبال. ففي البرتغال، على سبيل المثال، لم تصل المخزونات إلا إلى 29 في المئة من طاقتها بنهاية الشهر الماضي مقارنة مع 63 في المئة العام الماضي.
فقر الطاقة
في الوقت الذي يعمل فيه الأوروبيون نحو تقليل اعتمادهم على مصادر الطاقة من روسيا ضمن العقوبات على موسكو بسبب حرب أوكرانيا، تتفاقم مشكلات توليد الطاقة من مصادر أخرى غير النفط والغاز والفحم. فالمحطات التي تعمل بالمفاعلات النووية في ألمانيا وبريطانيا وصلت إلى نهاية عمرها الافتراضي، ويجب أن تخرج من الخدمة. وتشهد محطات الطاقة النووية لدى شركة "إي دي أف" توقفاً مستمراً بسبب الأعطال وعمليات الصيانة. وعلى الرغم من زيادة توليد الطاقة من الشمس، الشهر الماضي، فإن تلك نسبة لا تعني كثيراً في مواجهة فقر الطاقة الذي تواجهه أوروبا وبريطانيا.
وتسهم موجة الجفاف والتغيرات المناخية عموماً في زيادة حدة فقر الطاقة في القارة بشكل كبير. ولا يقتصر الأمر على انخفاض توليد الطاقة من مصادر هيدروليكية نتيجة الجفاف، بل إن المصادر الأخرى تتأثر أيضاً بهذه التغيرات المناخية. ففي الأسبوع الماضي، كان إنتاج شركة "إي دي إف" من الكهرباء من محطات تعمل بالوقود النووي عند 26.9 غيغاواط، وهو أقل بوضوح بالإنتاج في مثل هذا الوقت من العام الماضي الذي كان عند 40 غيغاواط. ولا يعود ذلك إلى مشكلات تقنية أو عمليات صيانة في المفاعلات النووية فحسب، بل إن الشركة تضطر لإيقاف تشغيل بعض المحطات نتيجة ارتفاع درجة حرارة مياه الأنهار التي تستخدم في تبريد المفاعلات النووية للمحطات.
ومع دخول فصل الشتاء سيصبح فقر الطاقة في أوروبا وبريطانيا أشد وطأة، مع توقعات بارتفاع أسعار الكهرباء بشكل كبير نتيجة نقص الإنتاج. ويتوقع تقرير "ستاندرد أند بورز" أن يؤدي ذلك إلى خسائر هائلة للشركات، بخاصة تلك التي تبيع الكهرباء للاستهلاك المنزلي بسقف سعر محدد، بينما تضطر لشرائها بالجملة بسعر البيع الفوري الذي يزيد أضعافاً.
وستكون تلك مشكلة أكبر لشركات إنتاج الطاقة الكهربائية من مصادر هيدروليكية. فشركة "إي دي بي" في البرتغال تبيع الطاقة من المصادر الهيدروليكية بسعر 60 دولاراً للميغاواط/ ساعة، بينما تضطر لشرائه من السوق الفورية مع نقص الإنتاج بسعر 230 دولاراً للميغاواط/ ساعة.