Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل يكرر التاريخ نفسه مع احتدام الصراع بين القوى العالمية؟

العقود الماضية تعيد التنافس على النفوذ إلى ما قبل الحربين العالميتين

لا يبدو أن حرب أوكرانيا ستنتهي بهدوء إذ تريد روسيا أن تحقق نصراً تؤكد من خلاله قوتها في أوروبا الشرقية وأماكن أخرى (أ ف ب)

يُنسب إلى الروائي الأميركي مارك توين قوله، "إن التاريخ لا يُعيد نفسه، لكنه غالباً ما يسير على إيقاع متشابه"، وهو ما يبدو ظاهراً الآن في الصراع العالمي الدائر في أوروبا وشرق آسيا، الذي يشبه إلى حد بعيد الصراع بين القوى الكبرى المتنافسة قبل نحو مئة عام، أي قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، وتكرر قبل الحرب العالمية الثانية، حينما كانت هناك قوى متعددة تتصارع على النفوذ، وتختبر كل منها الأخرى.

لكن، خلال السنوات السبعين التي تلت الحرب العالمية الثانية، نجا العالم من مواجهات مباشرة بين القوى العظمى، فما السبب وراء ذلك؟ وهل يمكن أن ينجو العالم من حرب مدمرة مقبلة الآن، أم أن شبح تكرار التاريخ على إيقاع متشابه يهدد البشرية؟

احتكاك متزايد

التاريخ هو مرآة للحاضر، لأنه يتحدث عما هو دائم في إنسانية البشر، والقوى التي تدفعنا نحو الصراع، ونظراً إلى أن أكبر الأحداث الجيوسياسية حالياً تتمثل في الاحتكاك المتزايد بين الولايات المتحدة والصين، والحرب في أوكرانيا، يبدو التوتر متصاعداً بشكل خطير، حيث يتوقع المراقبون السياسيون أن تكون أزمات القوى العظمى متكررة وحادّة. ففي أوروبا، أدى الهجوم الروسي على أوكرانيا إلى زعزعة استقرار النصف الشرقي من القارة، وأثار حرباً بالوكالة مع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وخلق خطر تصعيد دائم.

وفي آسيا، أدت زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، إلى تايوان إلى حدوث أزمة خطيرة بين الولايات المتحدة والصين ما زالت تداعياتها جارية ومتصاعدة، التي تعود، ليس فقط إلى قضية تايوان، بل إلى الطريقة التي تتعارض بها مصالح البلدين في المناطق الساخنة في جميع أنحاء غرب المحيط الهادئ.

ولهذا، فإن السؤال ليس ما إذا كانا سيجدان نفسيهما في مواجهة محفوفة بالمخاطر، لكن متى وأين وتحت أي ظروف ستحدث هذه المواجهة؟

سنوات الغموض

وفي حين لا يعرف أحد على وجه التحديد كيف ستتكشف السنوات القليلة المقبلة؟ لكن من المؤكد أن حقبة جديدة من التنافس تجري الآن، يتوقع معها موجة أخرى من الأزمات مع اشتداد منافسات واشنطن وحلفائها من جانب، مع موسكو وبكين من جانب آخر، حيث يسعى الزعيم الصيني شي جينبينغ إلى تحدي الوضع الراهن في مضيق تايوان، وفي أماكن أخرى في شرق آسيا، بسبب تعارض تطلعات الصين مع مصالح الولايات المتحدة والتزاماتها الأمنية، بينما تبدو واشنطن عازمة على منع بكين من ممارسة الضغوط على جيرانها أو تأكيد سيطرتها على تايوان.

وفي أوروبا، لا يبدو أن حرب أوكرانيا ستنتهي بهدوء، إذ تريد روسيا أن تحقق نصراً بطريقة ما، تؤكد من خلاله قوتها في أوروبا الشرقية وأماكن أخرى، وإن خسرت الحرب فستكون عرضة لمراهنات يائسة، ولهذا ستزيد منافسات القوى العظمى الجيوسياسية وحسابات المخاطرة من حدة التوتر والأزمات المرعبة، والتي تعد القاعدة في تنافس القوى العظمى، حين يبحث المشاركون عن نقاط ضعف خصومهم، ويختبرون عزيمة بعضهم بعضاً، ويقيسون قوتهم النسبية، بخاصة عندما تكون الخطوط الحمراء غير محددة بالكامل، ومناطق النفوذ متقلبة.

دروس التاريخ

قد يصبح من المفيد النظر في صفحات التاريخ والأحداث المماثلة في الماضي لإدراك ما يحمله الحاضر من أخطار وعواقب، فعلى الرغم من أن النظام الدولي قليلاً ما يتغير بطرق ملحوظة، فإنه في لحظات نادرة وبعد فترات زمنية متباعدة، تنهار الثقة في النظام القديم وتترك البشرية في فراغ، وخلال هذه الأوقات تولد أنظمة جديدة، تنشأ معها معايير ومعاهدات ومؤسسات جديدة لتحديد كيفية تفاعل البلدان مع بعضها بعضاً، غير أن معيار القوة الاقتصادية غالباً ما يكون حاسماً في تحديد القوى التي تحدد النظام الدولي الجديد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تصارعت الإمبراطوريات الأوروبية على العالم لعدة قرون إلى أن تشكّل نظام دولي نشأ من مؤتمر فيينا عام 1815 عقب الحروب النابليونية، ولم يتهاو هذا النظام بالكامل حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 2014، غير أن ملامح التغيير ظهرت خلال الفترة الحاسمة بين عامي 1870-1914 مع تغير الإنتاج الصناعي العالمي وفقاً لما أشار إليه بول كينيدي في كتابه، "صعود وسقوط القوى العظمى"، حيث كانت المملكة المتحدة تنتج 23 في المئة من الإنتاج الصناعي العالمي في عام 1880.

لكن، بحلول عام 1913، انخفض هذا إلى 14 في المئة، بينما ارتفعت حصة ألمانيا في الفترة نفسها، من 9 إلى 15 في المئة، وأدى هذا التحول في ميزان القوى الأوروبي إلى حرب كارثية بين المملكة المتحدة، التي كانت تمثل قوة الوضع الراهن القلقة، وألمانيا التي شرعت في بناء أسطول حديث مع طموحات واسعة، وفي غضون ذلك، ارتفع الناتج الصناعي للولايات المتحدة من 15 إلى 32 في المئة من الناتج العالمي، بينما تراجعت أهمية الصين.

كانت سنوات ما بين الحربين العالميتين، فترة فاصلة فشلت فيها محاولة استعادة نظام ما قبل الحرب العالمية الأولى، ولم تلعب فيها الولايات المتحدة دوراً بارزاً في أوروبا، وأدت أزمة مالية واقتصادية ضخمة، نشأت في الأصل من الولايات المتحدة، إلى تدمير الاقتصاد العالمي، وانتشار الكساد العظيم، ما أدى إلى صعود الأنظمة الشمولية وتصارع القوى الشعبوية والقومية والشيوعية والفاشية والاشتراكية والوطنية، وأصبحت ثلاثينيات القرن الماضي درساً في إمكانية انهيار الديمقراطية بمجرد فشل النخب، ودرساً لما يمكن أن يحدث عندما تقع الدول الكبرى في أيدي المتعطشين للسلطة، الذي أدّى بدوره إلى الانزلاق نحو الحرب العالمية الثانية.

الخمسينيات: تكوين النظام العالمي

دمرت الحرب العالم المتمركز حول أوروبا، الذي ساد في القرن التاسع عشر، وظهر نظام عالمي جديد، شكّله المنتصرون في الحرب، قادت الولايات المتحدة الغرب الديمقراطي الليبرالي، بينما قاد الاتحاد السوفياتي العالم الشيوعي، وانخرط الطرفان في صراع أيديولوجي حول طبيعة الحداثة، لتتشكّل المعالم الأولى للحرب الباردة، حيث شعر القادة الغربيون بالقلق من أن الاتحاد السوفياتي كان لديه ما سمّاه دبلوماسي أميركي "ميول توسعية"، واعتقدوا أن انتشار الشيوعية في أي مكان يهدد الديمقراطية والرأسمالية في كل مكان، ونتيجة لذلك، اعتقد الغربيون أن الشيوعية بحاجة إلى "احتوائها" بالدبلوماسية أو بالتهديد أو بالقوة.

هذه السياسة هي التي جذبت القوات الأميركية إلى الحرب الكورية في يوليو (تموز) عام 1950، وهي التي دفعت الولايات المتحدة إلى تشكيل حلف شمال الأطلسي عام 1949، وأدت إلى تشكيل حلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفياتي عام 1955، حيث أصبحت الحرب الباردة حقيقة قاتمة، لأن كلا الجانبين كان لهما القوة والتكنولوجيا اللازمة لإحداث محرقة نووية، لكن كليهما كان يعرف أن أي حرب لا يمكن الفوز بها.

الستينيات: ذروة الحرب الباردة

لكن مع بدء الستينيات، وصلت الحرب الباردة إلى ذروتها، فقد اعتقد كثيرون أن العالم كان أقرب ما يكون إلى حرب نووية عالمية في عام 1962 في أثناء أزمة الصواريخ الكوبية، كما كانت الستينيات عقداً من الزمن هيمنت عليه حرب فيتنام التي كان لها آثار محسوسة في جميع أنحاء العالم، حيث شكّلت بداية لإظهار كيف يمكن للناس التأثير في السياسة من خلال قوة التظاهرات السلمية، فقد كان الطلاب هم القوة الدافعة للتظاهرات المناهضة للحرب في جميع أنحاء العالم.

أصبح سباق الفضاء جزءاً أصيلاً من التنافس بين الرأسمالية الغربية والشيوعية الشرقية، فبعد أن تفوق الروس في البداية بإطلاق أول قمر اصطناعي إلى الفضاء عام 1957، أنهى الأميركيون فقرة الستينيات بالانتقال إلى آفاق جديدة، وأنهت السباق بأول هبوط لإنسان على سطح القمر عبر مهمة "أبولو 11" في 20 يوليو 1969.

السبعينيات: الحروب الإقليمية

على الرغم من تجنب الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي الصدام المباشر بينهما، فإن كثيراً من الحروب بالوكالة انتشرت في بقاع أخرى من العالم، فقد اندلعت حرب أكتوبر عام 1973 بين مصر وسوريا من جانب المدعومتين من الاتحاد السوفياتي وإسرائيل المدعومة من الولايات المتحدة والغرب، وتسببت الحرب في أزمة النفط عام 1973 عندما أعلن الأعضاء العرب في منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك)، تعليق شحن النفط إلى الدول التي دعمت إسرائيل.

كان عام 1973 أيضاً هو العام الذي انسحبت فيه غالبية القوات الأميركية من فيتنام، وفي المقابل بدأ الاتحاد السوفياتي غزو أفغانستان عام 1979 لدعم الشيوعيين هناك، لكن فترة السبعينيات شهدت كثيراً من الحروب الإقليمية الأخرى، مثل الحرب بين الهند وباكستان عام 1971، والحرب بين أوغندا وتنزانيا عام 1978، والحرب الأهلية الأنجولية والحرب الأهلية اللبنانية عام 1975.

الثمانينيات: فاتحة عصر الإرهاب

اتسمت فترة الثمانينيات بصعود التيار المحافظ في الحياة السياسية والثقافية، بسبب مارجريت تاتشر في المملكة المتحدة ورونالد ريغان في الولايات المتحدة، وبالتوازي مع صعود هذا التيار، بدأت تظهر ملامح جماعات إرهابية مختلفة الأهداف والدوافع، من بينها مجموعات يسارية متطرفة مكرسة لتعطيل حلف الناتو وإسقاط بعض الحكومات الغربية، والتي بلغت ذروة عملياتها في منتصف الثمانينيات، قبل أن تتراجع بعد ذلك، وشملت أنشطة هذه الجماعات بريطانيا وفرنسا وألمانيا الغربية والبرتغال وبلجيكا، وهولندا، واليونان، وإيطاليا.

وفي حين كان لدى بعض المجموعات أهداف للاستقلال الوطني، مثل الجيش الجمهوري الإيرلندي ومنظمة "إيتا الباسكية"، ظهرت جماعات قومية أخرى أشارت بعض الدراسات الغربية إلى أنها كانت مزيجاً بين إرهاب الدولة والأصولية الدينية تحت عنوان "الجهاد المقدس"، وكثير منها كان برعاية الدولة في كل من ليبيا وسوريا وإيران، وكذلك الاتحاد السوفياتي، وكان لها روابط بالحركة الفلسطينية متعددة الأوجه، وشملت الهجمات احتجاز الرهائن والتفجيرات الانتحارية.  

التسعينيات: سقوط نظام القطبية الثنائية

كانت علامات انهيار النظام الشيوعي بازغة في الأفق مع انهيار حائط برلين في 9 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989، وإعادة توحيد ألمانيا واجتياح سلسلة من الثورات السلمية دول الكتلة السوفياتية في أوروبا الشرقية، وكان من الطبيعي أن ينهار الاتحاد السوفياتي ويتفكك رسمياً في ديسمبر (كانون الأول) 1991، لتنتهي الحرب الباردة بسلام بانتصار الغرب بقيادة الولايات المتحدة والتي أصبحت القوة العظمى الوحيدة في العالم.

ويشير الأستاذ في جامعة هارفارد غراهام أليسون إلى أن انتصار الغرب يعود إلى أن حجم الاقتصادات الغربية وسرعة التقدم التكنولوجي الغربي تفوق بشكل كبير على نظيره في الاتحاد السوفياتي، كما أصيب رعايا الإمبراطورية السوفياتية بخيبة أمل في حكامهم الفاسدين، وخلصت القيادة السوفياتية نفسها إلى أن نظامها قد فشل.

العشرية الأولى: العولمة

رغم أن الألفية الجديدة اتسمت باستعداد الأصوليين لزيادة استخدام الإرهاب كوسيلة لتحقيق أهدافهم، فإن العولمة تركت أثراً بالغاً في جميع المجتمعات، فمع التغييرات التكنولوجية وازدياد سرعة الإنترنت ذات النطاق العريض، استمر توسع العولمة الاقتصادية مع قيام الشركات بشراء الآخرين في جميع أنحاء العالم، وأصبح من الصعب معرفة ما تمتلكه الشركات، وأين تصنع المنتجات، وهو ما ساعد على النمو في العالم النامي، عبر توفير وظائف جديدة وتعزيز الاقتصاد.

وفتحت العولمة الباب أمام عديد من الفرص الجديدة، وكذلك التحديات الهائلة، حيث تعرّضت جميع مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية والتعليمية للعناصر الإيجابية والسلبية للعولمة.

العشرية الثانية: التنافس التجاري والتكنولوجي

مع تزايد النمو الاقتصادي للصين وزيادة التجارة مع الولايات المتحدة وأوروبا، اختلّ الميزان التجاري بقوة لصالح الصين التي أصبحت أيضاً قوة تكنولوجية، وسبقت الولايات المتحدة في تكنولوجيا شبكات الجيل الخامس، الأمر الذي دفع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب إلى بدء حرب تجارية مع الصين كرد فعل على ما يعتبره ترمب ممارسات الصين التجارية غير العادلة، حيث اتهمت أميركا الصين بتعمد زيادة العجز التجاري لأميركا، وسرقة الملكية الفكرية، والنقل القسري للتكنولوجيا الأميركية إلى الصين، وفرض ترمب تعريفات جمركية على واردات الصلب والألمنيوم وغيرها من الواردات، وردت الصين بعقوبات مماثلة.

وعلى الرغم من أن الصين تستحوذ على نصيب الأسد من حجم التجارة مع الولايات المتحدة، فإن واشنطن بدت عازمة على تقليص استثماراتها وتجارتها مع بكين، واعتمد الكونغرس أخيراً قوانين لزيادة التصنيع المتقدم لرقائق الكمبيوتر في الولايات المتحدة، وهو أحد أشكال التنافس المستمر مع الصين تكنولوجياً.

العشرية الثالثة: عودة إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى

تتسم ثلاثينيات القرن الحالي بصراع النظم السياسية والأيديولوجية مثلما كان الحال في ثلاثينيات القرن الماضي، حيث تراجعت الثقة في السياسة الديمقراطية واقتصادات السوق بعد الأزمة المالية وكذلك صعود الشعبوية والقومية، والأهم من ذلك، التحول الدرامي في القوة الاقتصادية النسبية للصين حالياً، كما حدث مع الولايات المتحدة قبل عام 1914، إذ تواجه الولايات المتحدة قوة ذات إمكانات اقتصادية تماثل إمكاناتها وربما تتجاوزها.

وإذا كانت فترة ما قبل عام 1914 انتهت بحرب كارثية غذّى فيها الشك التبادل الطريق إلى الحرب، ثم تكررت الكارثة في الحرب العالمية الثانية، فإن العالم يواجه الآن تحديات تتطابق بسهولة مع تحديات الفترات السابقة، ولهذا يأمل كثير من المراقبين من الولايات المتحدة والصين تجنب الصراع المباشر مثلما تحقق النجاح المبهر في تجنب الصراع خلال الحرب الباردة.

وبحسب أستاذ الشؤون العالمية في كلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة، هال براندز، يمكن لأزمة مضيق تايوان أن تسرع في إنشاء ترتيبات ثنائية ومتعددة الأطراف تهدف إلى التهدئة مع بكين، بالتوازي مع تكثيف التخطيط العسكري الأميركي مع اليابان وأستراليا بشأن حالات الطوارئ، وإجراء مناقشات للدور الذي قد تلعبه الهند أو فيتنام في حرب للسيطرة على غرب المحيط الهادئ.

وإذا كان التهور لا يليق بقوة عظمى، لذا فإن الأزمة التي ينظر إلى واشنطن على نطاق واسع على أنها تثيرها، يمكن أن يكون لها تأثير معاكس، ولهذا يرى كثيرون أنه ينبغي إدارة هذه الحقبة الجديدة الصعبة بشكل استراتيجي.

المزيد من تقارير