كانت الأمسية لطيفة جداً خلال واحدة من أولى دورات مهرجان خريبكة السينمائي في مدينة الفوسفات في المغرب. وكانت الجلسة في الفندق بعد احتفالات العروض والتكريمات تجمع عدداً من السينمائيين العرب الكبار بزملائهم النقاد من حول توفيق صالح، الذي كان في حينها قد دخل مرحلته "المتحفية" وعالم التكريمات وقد ركن إلى كسل عملي طبع سنواته الأخيرة، بالتالي كان من الطبيعي أن يتسم الحديث بين الحضور بنوع من الحنين إلى سنوات مضت كان العالم العربي قد شهد فيها ما اعتبره الحاضرون "عصراً ذهبياً" للتقدم العربي ولا سيما على صعيد الفنون وعلاقة الناس بها. يومها إذ تشعب الحديث وراح بعض الدموع يلوح في بعض العيون، حاول توفيق صالح الذي كان "المخدوعون" الفيلم الكبير الذي حققه قبل كسله الختامي، في الأذهان دائماً، حاول أن يحسم الحديث بقوله على طريقته الاختزالية المعتادة "ولكن ذلك العصر الذهبي لم يطل أكثر من سنوات قليلة هي تلك التي شهدت كتابة نعمان عاشور ثلاثاً من مسرحياته الكبرى".
تفكيك "اللغز"
طبعاً بدا هذا الحكم "القاطع" يومها لغزاً غامضاً، بخاصة أن نعمان عاشور كان منسياً منذ زمن بعيد وكان قلة من المبدعين العرب من يذكرون أعماله. وإذ رفض توفيق صالح أن يوضح ما يقوله مكتفياً "على سبيل التوضيح لا أكثر"، كما أكد، بالإشارة إلى أن المسرحيات التي يشير إليها ليست سوى "الناس اللي تحت" و"الناس اللي فوق" ثم "عيلة الدوغري"، تاركاً لنا نحن المتحلقين من حوله وبإصرار مهمة اكتشاف ما يرمي إليه. والحقيقة أن هذا الاكتشاف لم يكن بالصعوبة التي تخيلناها ليلة ذاك. فحسبنا أن نتذكر تواريخ ظهور هذه المسرحيات حتى نفهم الحكاية كلها. فـ"الناس اللي تحت" ظهرت عام 1956 فيما تلتها "الناس اللي فوق" بعد ذلك بعامين بينما كان على "عيلة الدوغري" أن تنتظر العام 1963. بالتالي سيبدو للمرء بسرعة كيف أن توفيق صالح عرف كيف يلخص الحكاية كلها بعبارات شديدة البساطة. فالعام الذي ظهرت فيه المسرحية الأولى، وكانت ثانية مسرحيات عاشور بعد "المغماطيس" التي مرت مرور الكرام، كان العام الذي شهد تأميم قناة السويس في مصر وبدايات السمعة الكبيرة التي حازتها مصر وثورة عبد الناصر وما كان قد تبقى من ضباطه الأحرار لدى الشعوب العربية، فأتت "الناس اللي تحت" ليس فقط مؤرخة لذلك الزهو العربي الكبير، بل حتى معلنة انتصار الناس اللي تحت، سكان الطابق السفلي في الفيلا الرمزية التي تدور فيها أحداث لها صورة الأحداث العائلية لكنها تكشف في ثناياها عن صراعات طبقية، على أهل الطابق الأعلى من "أعداء الثورة"، وقد غلب على الحبكة شعور بانتصار البسطاء على كبار القوم. وبهذا حدد توفيق صالح، من طريق لجوئه إلى كتابة نعمان عاشور المسرحية، البداية المقترحة لذلك "الزمن الجميل"، لكنه استطرد مشيراً إلى المسرحية التالية التي ظهرت لعاشور بعد عامين فقط، وكان من الأمور ذات الدلالة أن يتحول فيها إلى "الناس اللي فوق" منبهاً إلى الشراسة التي يبدونها في الدفاع عن مصالحهم على الضد مما كانت تحاوله الثورة، بل ربما أيضاً متنبئاً من طرف خفي بتراجع انضباطية الناس اللي تحت في تفاعلهم مع الثورة. هنا في عام 1958، أي العام الذي كتب فيه عاشور هذه المسرحية الجديدة وعرضها، وبحسب ما سيمكننا استنتاجه من تقديرات توفيق صالح، لم تكن الأمور قد ساءت تماماً، لكن الزهو الأول كان قد انطفأ وبات من واجب الفن ومبدعيه أن ينبهوا ليس فقط من شراسة "القوى المضادة" بل من الأخطاء التي راح الناطقون باسم الناس اللي تحت يراكمونها مسهلين لأعدائهم التسلل من خلال ثغراتها.
رفع نبرة التنبيه
وهكذا بحسب نظرية توفيق صالح لا بد الآن من التنبه والكف عن الإحساس الأرعن بالانتصار على الرغم من أن ظروفاً محلية في مصر كما في الأوضاع العربية وربما على الصعيد العالمي، كانت لا تزال تبدو مواتية وتحتاج إلى جهود إضافية كي لا يسقط كل شيء، ولكن هنا، وكالعادة، ها هو ذا نعمان عاشور، وبعد أن واصل التنبيه عبر أعمال عديدة أخرى كتبها، ولكن أحياناً عبر رفع نبرة التنبيه كمواطن وكاتب في آن معاً، ها هو ذا يشعر في عام 1963 أي بعد ما لا يزيد كثيراً على سبع سنوات من ظهور عمله الأكثر تفاؤلاً وارتباطاً بالجديد الذي عرفته مصر ومحيطها أواسط العقد السابق، بأن الأمور أفلتت وبأن ما حذر منه كثيراً وبصدق تحقق وبدأت رحلة العد العكسي لتلك المرحلة البائسة التالية من التاريخ العربي الحديث. وكانت آية ذلك كتابته مسرحية "عيلة الدوغري" التي انقلب فيها تفاؤل "الناس اللي تحت" تشاؤماً تاماً. ومن الواضح هنا أن عاشور لم يأت بشيء في ذلك السياق من عنده. كل ما أتى به هو موهبته وقدرته على رصد ما يحدث من حوله. ففي نهاية الأمر أتت "عيلة الدوغري" في وقت كانت فيه مصر قد غرقت في وحول الحرب اليمنية، وانفرط عقد الوحدة مع سوريا التي راهن عليها عبد الناصر كثيراً، وهزمت متحولة دماراً ودماً وحكماً ديكتاتورياً كل الانقلابات التي كانت قد أحدثت في السنوات السابقة تغييرات "واعدة" في عديد من البلدان العربية التي كان عبد الناصر قد راهن عليها كذلك. وإلى ذلك زالت القداسة في الوقت نفسه عن "ثورتين" عربيتين جامعتين هما "الثورة الجزائرية" التي بعد حصولها على استقلال الجزائر تحولت صراعات بين أجنحتها وانقلابات وتنافساً بين أجهزة استخبارات تدين للخارج، و"الثورة الفلسطينية" التي سرعان ما تحولت إلى معبر عن صراعات النفوذ بين الدول والأجهزة العربية.
بعيداً من الأوهام
طبعاً لا يمكننا القول هنا إن "عيلة الدوغري" ترصد هذا كله، لكنه كامن في ثناياها، وربما بشكل يذكر به عاشور بما كان قد نبه منه في "الناس اللي فوق". كان كامناً في البعد الأخلاقي - السياسي الذي عبرت عنه المسرحية بتصويرها القاسي الأنانيات التي راحت تهيمن على الحياة الاجتماعية في مصر نفسها، ورصدها القيم الفاسدة الجديدة التي راحت تسود باسم الثورة. بشكل عام بدت "عيلة الدوغري" بالأحرى صورة مكبرة للخيبة الكبيرة التي لم يكن نعمان عاشور وحده المعبر عنها في مسرحه وإن كان يمكن أن نضع في رصيده أنه كان في ذلك الحين واحداً من قلة من كتاب/ مفكرين بدوا متخلصين من أوهامهم المتراكمة ليجابهوا الواقع الجديد بكل جرأة ورعب، فيما كان غيره، ولا سيما من المؤلفين المسرحيين الذين انتموا مثله إلى ما سيسمى، أكاديمياً في الأقل، مسرح الستينيات، أقل تشاؤماً منه وهم يبحثون عن بارقة أمل في ثنايا الضباب الذي رآه هو يلف كل شيء. فهلا علينا أن نضيف هنا أن اختيار توفيق صالح في تلك الأمسية الودية في خريبكة المغربية لاختصار عصر الذهب العربي بتلك المسرحيات الثلاث، كان الاختيار الأكثر صواباً؟ في الأقل هذا ما سيثبته التاريخ خلال سنوات قليلة بعد ظهور "عيلة الدوغري" بدءاً من هزيمة يونيو (حزيران) ثم ما تتالى من أحداث وهزائم عربية خلال الحقب التالية جاعلاً من العصر الذهبي مجرد قيمة متحفية تزار بحنين بين الحين والآخر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مؤسس مسرح الستينيات
ويبقى أن نذكر أن نعمان عاشور الذي سيبدو في نهاية الأمر "المؤسس الحقيقي"، وإن كان غير الرسمي، لما يسمى "مسرح الستينيات" في مصر، ولد عام 1918 ليرحل عام 1987. وكان من أبناء مدينة ميت غمر بمحافظة الدقهلية، ابناً لعائلة متنورة ولأب متأدب ابن قاضٍ محب للفنون، عرف كيف يرتبط بصداقات مع عدد من متنوري الفن والأدب في زمنه، ما جعل نعمان الشاب حين ينتقل إلى القاهرة لدراسة الأدب الإنجليزي يغوص في عالم الفن باكراً كما في عالم الأدب من خلال أستاذه محمد مندور، الذي عرفه إلى عدد من الكتاب التقدميين من أمثال أحمد رشدي صالح وعلي الراعي. ومن هنا كان من الطبيعي للشاب أن يسلك درب الأدب في الوقت الذي انتمى فيه إلى الحركات الاشتراكية ما تسبب باعتقاله مرتين بتهمة الشيوعية. وهو منذ ذلك الحين انصرف إلى الكتابة كما إلى الصحافة التي بقيت مهنته الأساسية حتى سنواته الأخيرة.