Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"المخدوعون" لتوفيق صالح: ثرثرة قاتلة عند خط الحدود

الفيلم الذي حققه عن قصة غسان كنفاني "رجال في الشمس" وروى دراما فردية وجماعية

المخرج المصري توفيق صالح (علاء رستم ـ اندبندنت عربية)

"... طوال حياتي كنت أعتبر كل فيلم جديد أصنعه، بداية جديدة لأنني أكون قد تعلمت كثيراً من تجاربي السابقة، لكني أعتبر (المخدوعون) بداية الوعي السينمائي الحقيقي بالنسبة إليَّ، بداية السيطرة على الحرفة، ويا ليتني حصلت على صناعة الأفلام بعده، فربما عندئذ كنت أنجز ما كنت أحلم به. كان أمامي هدفان، الأول هو أن تكون كل جملة في الفيلم إشارة إلى جانب من جوانب القضية الفلسطينية. والثاني هو أن أستخدم "الفلاش باك" -التراجع الزمني- كبناء أساسي للسرد، ومن أجل (تضفير) هذين الهدفين معاً، كان لا بد من أن أستخدم (الفلاش باك) على نحو مختلف (بخاصة أن) الماضي في سيناريو فيلم (المخدوعون) كان استمراراً للحاضر، لأن المأساة مستمرة، ولذلك كان البناء الدرامي في الفيلم معقداً أو متشابكاً". قائل هذا الكلام هو، بالطبع، المخرج السينمائي الراحل عن عالمنا، عام 2013، توفيق صالح. أما الفيلم الذي يتحدث عنه هنا فكان الفيلم قبل الأخير الذي حققه طوال حياته. وهو اقتبسه عن قصة طويلة للكاتب الراحل بدوره غسان كنفاني. ونعرف اليوم أن هذا الفيلم، كان إلى جانب "كفر قاسم" للبناني برهان علوية، أول وآخر فيلمين كبيرين حققهما سينمائيون عرب عن فلسطين، قبل أن يقبض الفلسطينيون على سينماهم بأيديهم، ويبدعوا، منذ ثلاثة عقود أفضل الأفلام العربية.

منع وجوائز

قبل "المخدوعون" و"كفر قاسم"، كان ما يصنع عن فلسطين إما شرائط نضالية سياسية مليئة بالفصاحة الثورية والقبضات المرفوعة، وإما شرائط أجنبية تحاول أن تقول، في حق القضية، كلاماً طيباً. أما صالح، وعلوية على خطاه، فقد سلكا طرقاً أخرى، يهمنا ها هنا الطريق الذي سلكه الأول حين أنتج في عام 1972، بتمويل سوري -كما سيكون حال "كفر قاسم"- هذا الفيلم الذي، بعد أن حورب في سوريا نفسها طويلاً ومنع عرضه -في الأقل كما ذكر صالح نفسه في مذكراته وأحاديثه الصحافية- تمكن عامها من الوصول إلى مهرجان "كان"، ثم إلى مهرجان "قرطاج" في تونس، حيث كانت له جوائز وتكريمات رفعت اسم مخرجه عالياً. وقالت إن في الإمكان صنع سينما فلسطينية جيدة، لا مجرد شرائط مناضلة تريح ضمير صانعيها.

ذلك أن فيلم "المخدوعون" على الرغم من فقر إنتاجه، والظروف الصعبة التي تحكمت بصنعة مخرجه الذي كان في ذلك الحين منفياً خارج وطنه، وفناناً ملعوناً بكل معنى الكلمة، عرف كيف يكون فيلماً جيداً، مفعماً بالأبعاد الفكرية العميقة والفنية التجديدية، وهو الذي عرف كيف يدخل الأدب الفلسطيني إلى السينما. ويقول جوهر القضية عبر أحداث تجري على بعد مئات الأميال من أرض فلسطين، من دون أن يكون فيه مخيمات، أو كفاح مسلح، أو مجابهات بطولية، أو طبول حرب تقرع من هنا أو هناك.

بين العراق والكويت

فأحداث "المخدوعون"، كما أحداث القصة الكنفانية التي أخذ عنها، تدور في غالبية زمنها، عند الحدود بين العراق والكويت، في زمن غير محدد تماماً، لكنه غير بعيد من زمن حدوث النكبة التي شردت ملايين الفلسطينيين خارج ديارهم، وأودتهم إلى مخيمات اللجوء، مجبرة كثراً منهم على البحث عن مصادر رزق. وفي زمن أحداث الفيلم، كانت الكويت عند بداية فورتها النفطية تمثل مصدراً للرزق بالنسبة إلى عشرات ألوف الفلسطينيين، غير أن الوصول إليها والحصول على سمة دخول إليها لم يكن بالأمر اليسير في ذلك الحين. ومن هنا راجت تجارة تهريب العمال والأفراد عموماً، عبر الحدود العراقية. وشخصيات الفيلم هم ثلاثة من أولئك العمال وجدوا أن الحل الأفضل للتسلل إلى الكويت، انطلاقاً من العراق، هو اختباؤهم داخل صهريج فارغ من تلك التي كانت تتنقل بين العراق والكويت. وكان سائق الصهريج هو المهرب، الذي سهل لهم الأمر، مقابل مبالغ مالية، شرط ألا يتنبه أحد إلى وجودهم في الصهريج. وربما يعرف كثر من القراء هنا بقية الأحداث: خلال تلك الرحلة التي تجري وسط طقس ملتهب في عز الصيف الصحراوي، يتوقف الصهريج طويلاً -بل أكثر مما ينبغي بكثير- عند نقطة الحدود، حيث يغوص السائق في حديث سخيف مسهب مع المفتشين ورجال الجمارك، في وقت يتلظى فيه العمال المهربون داخل الصهريج لينتهي الأمر بموتهم من دون أن يتنبه إليهم أحد. يضاف إلى ذلك طبعاً أن السيناريو، لم يكن مجرد سرد خطي لذلك الحادث الدرامي، بل قطعته مشاهد عدة تستعيد ذكريات هؤلاء المهربين، وشظف عيشهم، مع التفاتات ذكية وذات دلالة إلى الأوضاع العربية، السياسية والاجتماعية، بشكل عام، التي من ناحية جعلت الفلسطينيين يعيشون تلك المأساة المرعبة، بالمعنى الحدثي والمعنى الرمزي في الفيلم والقصة، ومن ناحية ثانية جعلت الحدود بين البلدان العربية عصية على العبور إلى ذلك الحد. فتوفيق صالح، وطبعاً على خطى غسان كنفاني، كان يعرف، أولاً وأخيراً، أنه ربما يحقق فيلماً سياسياً، وليس شريطاً عن مغامرة ودراما حياتية وحسب. ومن هنا تطعم الفيلم بقدر كبير من المشاهد السياسية، وبقدر أكبر منه من الحوارات السياسية، التي كان من سوء حظ بعضها -وحظ المتفرجين بالتالي- أن أتت في بعض الأحيان شديدة الخطابية والفصاحة، على غرار بعض اللغة - الخشبية، التي كانت رائجة في تلك الأزمنة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

سينما فلسطينية

غير أن تلك الحوارات، وحتى الإقحامات السياسية والأيديولوجية، على كثرتها وتهافتها، لم تقلل على أية حال من قمة الفيلم وقوته، ولن نقول هنا "جماله" طالما أن ليس من المنطقي الحديث عن "جمال ما..." بالنسبة إلى عمل يروي مثل تلك المأساة المريعة، التي قدمت هنا بصورة مزدوجة: كمأساة أفراد محددين كان من سوء حظهم أن وقعوا بين أيدي مهرب ثرثار ومخادع، ورجال حدود لا تعرف الإنسانية طريقاً إلى قلوبهم، من ناحية، ومأساة شعب بكامله، هو الشعب الفلسطيني الذي كان يلقي، في تلك السنوات -السبعينيات- كل أنواع التعاطف السياسي والإنساني، بيد أن ما يتعين لفت النظر إليه هنا، من دون مواربة أن "المخدوعون"، وكذلك "كفر قاسم" من بعده، لئن كان كل منهما حاز بدوره، على قسط لا بأس به من ذلك التعاطف السياسي المسبق الذي نشير إليه هنا، ما أسهم في استقباله، فإن الفيلمين تمكنا في الوقت نفسه من الحصول على إعجاب وتجنيد عدد لا بأس به من النقاد الذين لم يكن الواحد منهم قد اعتاد أن يستقبل السينما المناضلة الفلسطينية، من دون قيد أو شرط، كما حاز على إقبال جمهور رأى أخيراً أن "سينما فلسطينية حقيقية قد ولدت".

بعد هذين الفيلمين، ولا سيما بعد "المخدوعون"، صارت السينما الفلسطينية شيئاً مختلفاً كلياً عما اعتادت أن تكون عليه، حتى ولو أن ما يمكن ملاحظته -وأشرنا إليه أعلاه على أية حال- كان أن هذه السينما تحولت من "عربية" و"أممية"، إلى فلسطينية خالصة. ومهما يكن من أمر هنا، لا بد من الإشارة إلى أن توفيق صالح نفسه، حين حقق "المخدوعون" لم يحققه كمصري. فهو، على الرغم من مصريته، بل إسكندرانيته الخالصة، اعتبر نفسه طوال حياته مرتبطاً بفلسطين وقضيتها، سياسياً وفكرياً، ارتباطه بها من ناحية القرابة والزواج أيضاً، ثم إن الفيلم نفسه مأخوذ عن قصة لواحد من أكثر الكتاب الفلسطينيين فلسطينية، غسان كنفاني، الذي اغتالته الاستخبارات الإسرائيلية، للأسف، في لبنان في العام نفسه الذي حقق فيه الفيلم، فلم يقيض له -على حد علمنا- أن يشاهد عرضاً مكتملاً له. أما، من ناحية أخرى، وعلى صعيد الموضوع، فإن الأمر يفرض علينا أن نشير إلى إنسانيته وأمميته، حيث إن موضوعه، المتعلق في جانب جوهري منه، بقبضة العمال المهاجرين التي ستنفجر أكثر وأكثر خلال الأزمان التالية، كان لا يزال جنينياً حتى ذلك الحين، وهو لاحقاً سيشكل موضوعاً لعشرات الأفلام. وليس هذا فقط، بل إن فرصة -كئيبة- قيضت للمراقبين كي يتحدثوا ذات يوم، بعد نحو عقدين من عرض "المخدوعون" عن كيف أن الحياة نفسها تحاكي الفن أحياناً، بقدر ما أو بأكثر ما يحاكي الفن الحياة. فعند نهاية سنوات الثمانين، جاءت أخبار بائسة من الحدود الصعبة والقاسية والخاضعة لمراقبة شديدة، الواقعة بين المكسيك والولايات المتحدة، لتتحدث عن حادثة مروعة مشابهة لتلك التي بني عليها فيلم "المخدوعون" وقصته "رجال في الشمس" التي اقتبس الفيلم عنها: توقف قطار يقل عربة صهريج، في الحر اللاهب عند نقطة التفتيش لساعات طويلة تأخرت بفعل حوار سخيف ومسهب راح يبدو بين طاقم القطار ورجال التفتيش والجمارك، من دون أن يدري هؤلاء -أو لعلهم كانوا يدرون- أن ثمة في عربة الصهريج أكثر من ستين عاملاً مكسيكياً بائساً، كانوا يحاولون التسلل، بتلك الطريقة، مختبئين داخل العربة. فانتهى الأمر باختناقهم وموتهم جميعاً، تحت وقع حرارة الجو، وفساد الهواء وتراكمهم داخل العربة من دون أن يجرؤ أي منهم على طرق ميدان تلك العربة التي تحولت بذلك إلى قبر جماعي مريع!

المزيد من ثقافة