Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

زوجان مخرجان يسيران في خطين متوازيين عصيين على اللقاء

بين "لولا" وأختها "كليو" بدايات سينما فرنسية كبيرة بموجة جديدة أو من دونها

آنييس فاردا وجاك ديمي أيام السعادة (موقع المخرجة)

على الرغم من أن معظم التنظيرات لأهمية دور المخرج، "المؤلف الحقيقي" في العملية السينمائية بالنسبة إلى الأفلام الكبيرة في الأقل، وكون هذا النوع المميز من الأفلام يجب أن يعتبر في نهاية الأمر من صنع أفراد حتى ولو اشتغل على الفيلم عشرات غيرهم، كان ولا يزال في تاريخ هذا الفن، مبدعون كثر آثروا أن يشتغلوا كثنائي، قد يتألف من أخوين (كما الحال مع الأخوين فاسيلييف والأخوين كوين والأخوين تافياني والأخوين داردين وغيرهم)، أو من زوجين في الحياة الحقيقية (كما الحال مع فريتز لانغ حين كان يعمل في ألمانيا قبل سلوكه درب المنفى مع زوجته ثيا فون هاربو، أو مع فولكر شلوندورف العامل مع رفيقته مرغريتا فون تروتا، أو حتى مع جان لوك غودار حين عمل كثنائي مع آن ماري مييفيل...)، ولكن في المقابل، قليلاً ما عرفنا في تاريخ هذه السينما زوجين كان كل منهما مخرجاً على حدة ولم يلتقيا في أي فيلم حققه كل واحد منهما. ونقول هذا هنا ونحن نفكر بالزوجين آنييس فاردا وجاك ديمي، اللذين اشتهر كل منهما بسينماه الخاصة وتوجهاته الفكرية كي لا يلتقيان إلا بعد موت الزوج حين راحت امرأته تحقق عنه وعن أفلامه ومساره السينمائي، المستقل دائماً عن مسارها، أفلاماً وثائقية بل حتى فيلماً شبه روائي عنوانه "جاكو دي نانت" لفت الأنظار كثيراً واعتبر من الأعمال الكبيرة في السينما الفرنسية.

 

بين السرطان والأيدز

إذاً لم تلتق فاردا بديمي إلا ربما خلال العروض الافتتاحية لأفلام كل منهما كما في المهرجانات، ولكن كذلك طبعاً في المنزل العائلي الذي جمعهما طوال نحو ثلاثين عاماً بدءاً من عام 1962 حين اقترنا رسمياً، وحتى عام 1990 حين مات الزوج لتعيش امرأته بعده نحو ثلاثين عاماً تابعت فيها مسيرتها السينمائية مهتمة بذكراه غير منكرة في الوقت نفسه أن سينماها دائماً ما اختلفت عن سينماه، ولكن غير منكرة من ناحية أخرى أن جاك لم يمت بالسرطان كما كان قد أشيع دائماً، بل بـ"الأيدز"، علماً بأنها هي ستموت بالسرطان في عام 2019 عن أكثر من تسعين عاماً فيما كان هو حين مات بالكاد تجاوز الستين. ومهما يكن كانت هي خلال حياتهما تكبره بثلاثة أعوام وهما تعرفا إلى بعضهما بعضاً عام 1959 من خلال هوايتهما السينمائية المشتركة التي ستقودهما وكل على سجيته إلى الإخراج وتحديداً في العام نفسه 1961 قبل زواجهما بعام، حين حققت فاردا فيلمها الروائي الطويل الكبير الأول "كليو من 5 إلى 7" الذي حُسب من علامات الموجة الجديدة الفرنسية - ولكن في فرعها الذي عرف بفرع "الضفة اليسرى"، الذي ضم إليها آلان رينيه وآخرين، مقابل فرع "الضفة اليمنى" الذي تحلق من حول مجلة "كراسات السينما" وكان من أقطابه غودار وتروفو وشابرول - فيما حقق جاك ديمي روائيه الطويل الأول "لولا" الذي اعتبر نوعاً من سلوك السينما الفرنسية مجالاً شاعرياً يحتفل بالموسيقى والحياة. ونعرف أن "لولا" ستكون الرحم التي ستولد منها تحف سينمائية لاحقة تحمل توقيع جاك ديمي ورؤيته المنفتحة على الفن والحياة كما على الكوميديا الموسيقية على النمط الهوليوودي، مثل "مظلات شيربور" و"آنسات روشفور" وغيرهما.

بين السياسة وعالم الأحلام

بشكل مختصر، فيما كانت فاردا، ومنذ فيلمها الكبير الأول هذا تهتم بالسياسات والمسائل الاجتماعية في زمن كانت حرب الجزائر جزءاً من الهموم اليومية للمواطن الفرنسي، كان ديمي يفضل الغوص في عالم الألوان والأحلام. ومن هنا، إذ اعتبر "كليو من 5 إلى 7" ومن خلال تجديده الشكلي والبنيوي عملاً بالغ الجدية والقوة، من دون أن يتمكن طبعاً من اجتذاب كثر من المتفرجين بموضوع يدور في الحياة الساعة ونصف الساعة نفسها التي يستغرقها عرض الفيلم، نظر إلى "لولا" بكونه أشبه بـ"حكاية جن للكبار"، من خلال موضوع عائلي تدور أحداثه في مدينة نانت، مسقط رأس المخرج، وتتابع حياة عائلة تتلقى الحياة وتعيشها كما هي من دون ضروب ندم كثيرة، ومن دون مشاعر تثير الشفقة. ولسوف تكون على هذه الشاكلة على الدوام تقريباً الأفلام القليلة نسبياً التي أتيح لديمي أن يحققها ودائماً في لغة شعرية تشكيلية تتوجه إلى الشرائح الأكثر ذكاء وانفتاحاً على الحياة من الجمهور العريض. وفي المقابل ستكون القرابة دائماً وثيقة بين فيلم آنييس فاردا الأول الكبير "كليو من 5 إلى 7" والعدد الأكبر من أفلامها التالية التي راحت تعبر عن القضايا الكبرى التي كانت تشغل بال الفرنسيين في ذلك الزمن بدءاً بقضية حقوق المرأة والعنصرية والعداء للحرب، كل حرب، وما إلى ذلك من مواضيع بررت دائماً التوصيف "اليساري" الذي أسبغ على المخرجة/ المؤلفة التي تابعت مسارها على تلك الشاكلة.

 

لم تعد خائفة

ولنذكر هنا بالأساس الذي بنت عليه فاردا موضوع فيلمها الذي نتوقف عنده هنا. فـ"كليو" الشخصية المحورية في الفيلم هي هنا مغنية ناجحة وذات شعبية، لكنها عند هذه اللحظة من حياتها، وتحديداً عند الساعة الخامسة من بعد ظهر يوم 21 يونيو (حزيران)، حين يبدأ الفيلم تحديداً ها هي ذي منهمكة في انتظار تحليلات طبية تنتظرها من المختبر الذي أجرى لها فحوصات تتعلق باحتمال إصابتها بالسرطان. وها هي ذي طول الوقت الذي يفصلها عن تلقي النتائج تدور من مكان إلى مكان، داخل بيتها أولاً ثم في الحي الذي تقيم فيه. تتأمل أحوالها الخاصة وأحوال الناس من حولها ويزداد قلقها دقيقة بعد دقيقة. خلال ذلك تفعل كليو أشياء كثيرة، تتبضع وتفكر وتدندن أغنياتها... تجرب قبعات جديدة وتستقبل حبيبها ثم تتمرن على بعض أغنيات جديدة لها، وتدخل حديقة مونسوري العامة وسط باريس وتلتقي بجندي يرضى بأن يقصد معها المستشفى الذي ينبغي أن تطلع فيه على نتائج الفحوص. ستكون النتائج سيئة وتفرض عليها البدء بعلاج كيماوي. وهنا تشعر أنها باتت مطمئنة ولم تعد خائفة من أي شيء سيحدث لها. والحقيقة أن هذا هو كل ما "يحدث" في الفيلم الذي استقبل من النقاد استقبالاً باهراً، أنساهم أن فاردا كانت قد حققت قبله فيلماً طويلاً آخر لم ينجح بل لم يلفت أنظار أحد!

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الحياة كما هي

في الوقت نفسه إذاً، كان جاك ديمي يغوص من خلال فيلمه "لولا" في حكاية حب تدور بين عدة أشخاص صورهم في شوارع مدينته وأزقتها، وكأنه يحقق فيلماً وثائقياً بل حتى وفي رأي العالم الأنثروبولوجي الكبير كلود ليفي ستروس، فيلماً أنثروبولوجياً سيقول ليفي ستروس إنه واحد من الأفلام الفرنسية القليلة التي استساغها في حياته. وعلى الرغم من أن لولا، وهو الاسم الذي اتخذته لنفسها الصبية سيسيل التي اختارته اسماً مستعاراً إذ صارت منظمة لحفلات راقصة، تبدو متناقضة في المزاج والظروف مع كليو في فيلم فاردا، فإن النقد الجاد لم يفته أن يرى القرابة بين المرأتين من خلال تفاعلهما مع الحياة وارتباط كل منهما بالمدينة بشكل حاسم. وهذا الارتباط لئن كان يتخذ لدى كليو طابع التجوال وحيدة فإنه يتخذ لدى لولا طابع التجوال الجماعي، حيث نرصدها بين مجموعة من أربعة أشخاص يعيشون معاً وكل على هواه الحنين إلى الحياة وإلى الماضي وتطلع إلى المستقبل، من دون كبير اهتمام بصعوبات العيش، وذلك مع فارق أساسي. فلئن كانت كليو ستتعلم هذا من خلال معاناة انتظارها نتائج التحليل ولكن كذلك من خلال ذلك الجندي العائد من حرب الجزائر، ها هي ذي لولا تنطلق أصلاً مشبعة بهذا التفكير المنطلق في إقباله على الحياة. وهكذا تلتقي المرأتان على التعاطي مع الحياة... كيفما اتفق وباعتبارها كما تقول لولا ذات لحظة، وكأنها تجيب عن سؤال تطرحه كليو على الجندي: الشيء الوحيد المتاح أمامنا وليس في إمكاننا إلا أن نتلقاه بفرح!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة