Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الدار" مسرحية البيت السوري الذي صار مجمعا تجاريا

المخرج فايز قزق جمع قصصا من دار المسنين وصاغها في دراما جماعية

من مسرحية "الدار" السورية من إخراج فايز قزق (اندبندنت عربية)

مرات قليلة ابتعد فيها الفنان فايز قزق عن الارتجال الجماعي لصياغة نصوص مسرحياته، فقد قدم منذ تسعينيات القرن الماضي عروضاً متباينة عبر ما يسميه مسرح الفرضية، بحيث تقدم الفرضية الأم للقصة الرئيسة فرضيات لقصص فرعية تتم كتابتها ثم دمجها مع النسيج العام للعرض في أوقات التمارين. وهذا ما أنتج تجارب عدة للممثل والمخرج السوري في هذا السياق مع ممثلين من خريجي قسم التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية، وكان أولها عرض "النو" عام 1993، لتتوالى من ثم المسرحيات المرتجلة، ولعل أبرزها "النفق" عام 2006، و"أبي سلبي" عام 2007، و"حكاية السيدة روزالين" عام 2011، و"أيواء واء واء" عام 2016، و"شارة" عام 2019.

وإذا كانت الأماكن التي وظفها قزق لعروضه هذه قد توزعت بين المستشفيات ودور الإيواء للاجئين والبيوت الدمشقية، إلا أنه في عرضه الجديد "الدار" يمرر قصص شخصياته المتزاحمة في دار للمسنين، مشتقاً من هذا المكان حكاياته التي سيضفرها مع واحد وعشرين ممثلاً وممثلة، وضمن ما يشبه هذيانات فردية متجاورة، هي أقرب إلى مونودراما جماعية. فالحدث الرئيس الذي سنعرفه بعد استهلال مطول لتعريف الجمهور بسكان هذا المكان، ومن هم قاطنوه، يبدأ بلمحة عن كل شخصية من شخصيات العرض، وهم النزلاء من كبار السن، ومدير الدار وسكرتيرته، والممرض والطباخ وزوجته وعمال الصيانة.

قصص وشخصيات

 

هؤلاء سيوضحون لنا تباعاً ماضي شخصياتهم، فلكل شخصية هنا قصة يتوجب معرفتها، ولكن هذه القصص تظل منفردة ومتناثرة، فهي تشرح حال الشخصيات وظروفها المحيطة التي أوصلتها إلى دار للعجزة، من دون أن تشتبك مع شركائها على الخشبة إلا من باب التذكير بأوقات الاجتماع مع مدير الدار، ومواعيد الغداء وتناول الأدوية والحقن. كل هذا تجمعه الفرضية الأم، وهي هنا تصميم مدير الدار على هدمه وتعهده من قبل وزارة الشؤون لتحويله إلى "مول" أو مجمع تجاري ضخم، مما يستنفر نزلاء الدار ويجعلهم بدلاً من تأجيج صراع أفقي بينهم وبين المدير وعملائه كي لا يصبحوا في الشارع، تراهم يخوضون باسترسال في عملية استرجاع ذكرياتهم ومآسيهم التي أودت بهم إلى أن يكونوا خردة بشرية لا يعبأ أحد بها ولظروفها الصحية والاجتماعية.

مفارقة أودى إليها الارتجال وغياب نص مكتوب يضبط الشخصيات ومآلاتها، والرغبة في تقديم أكثر من عشرين ممثلاً وممثلة على مستوى واحد ومساحة واحدة لجهة الأداء، واستعراض أدواتهم في النواح على الماضي، والترحم على الذكريات. نعثر بين زحام الممثلين هذا على نماذج إنسانية عديدة، كانت ستكون لافتة ومؤثرة لو أنها لم تدخل في سرد مونولوغات مطولة عن نفسها، وعن تاريخها الشخصي، وانتفاخها العاطفي، وشعورها المزمن بكونها ضحية الزمن والبلاد الفاسدة وذوي القربى. وهذا ما أحال حتى الحوارات المشتركة بين هذه الشخصيات - في حال وجوده - إلى مشاحنات وثرثرة بدلاً من أن يكون حواراً درامياً صرفاً، ما أدى بالتالي لتفوق المونولوغ على الديالوغ، فكل ممثل كتب شخصيته، وصار من الصعب توظيف هذه الاستطالات المديدة في نص واحد، مما جعل زمن العرض يمتد إلى ثلاث ساعات ونيف في مسرح فواز الساجر.

 

وبما أن الزمن المسرحي ليس مدة العرض، بل هو الماضي المستعاد من قبل الممثل ليصبح حاضراً. وهو هنا دراما ترتكز على قصة مكتوبة، ومقطع عرضي من حياة يتم تكثيفها في التأليف والأداء ليكون الإخراج عنصراً حاسماً في تقديم قراءة نوعية لها، ومعالجتها ضمن التفريق بين الواقع الموضوعي والواقع الفني المصنع. وهذا ما غاب من حسابات عرض "الدار" الذي ظل أداء الممثل فيها حاسماً لجهة استعراضاته الجسدية والصوتية والحركية، والظفر بتقديم قفشات ضاحكة للجمهور. ومع أن القصص المتناثرة هنا وهناك للشخصيات بدت جذابة وملهمة في قراءة الواقع السوري اليوم، إلا أن هذا لم يخفف من خرق جوهر اللعبة المسرحية (الآن وهنا، نحن، الآخر)، وهي معادلة يصبو إلى تحقيقها فنانو المسرح ضمن صيغة فنية تلتزم الشراكة على صعيد الفعل ورد الفعل بين الممثلين، ومن دون أن يكون لكل ممثل في العرض مسرحيته الخاصة به في تجاور مع مسرحيات زملائه.

مواجهة الماضي والحاضر

يمكننا البحث أكثر في المقترح الفني الذي يراهن عليه الفنان فايز قزق منذ أواسط التسعينيات من القرن العشرين، لكن عدم الاستجابة للشرط الفني للمسرح يجعل شطب المؤلف من اللعبة المسرحية نقطة ضعف بنيوية في صياغة عرض متكامل، ويدفع الممثل إلى أن يأخذ دور مؤد لـ"نمرة" في استعراض هيجاني لا يطور الحبكة، ولا يؤسس لصراع، ولا لأبعاد نفسية للدور الذي يقوم بأدائه. ولعل هذا يؤكد مرةً أخرى أن المسرح السوري يكاد يكون عاجزاً عن ابتكار تراجيدياته، ومع أن الشخصية أكثر خلوداً من الممثل، إلا أن عرض "الدار" يحاول أن يقول لنا العكس، ويبرر أن يكون هناك أوركسترا تعزف من غير نوتة، بل تتوازع أدوارها في عزف "السولو" ومن ثم تكراره على ألسنة عديد من الممثلين، من دون أن تلتقي فعلياً في هارموني (تناغم) واحد يكون فيها لكل شخصية دورها في دفع قصة العرض إلى الأمام، لنكون أمام دوران حول قصص تروى كلاً على حدة.

 

يناقش "الدار" قصصاً متشاحنة وتكاد تكون في كثافتها تلغي بعضها بعضاً، فكل شخصية من شخصيات العرض السوري تحتمل التوقف والمناقشة. ويمكننا على التوالي الاستماع إلى قصة سلمى المرأة الهاربة من زوجها الذي يعمل محققاً في فرع للأمن، والذي يقتص من ضحاياه عبر تنفيذ خيالاته السادية مع زوجته في الفراش. وهناك الرسامة التي قاربت في أدائها شخصية الدكتورة نوال السعداوي، والتي عاشت على أمل اللقاء بابنها الذي توهمته، لتكتشف أن رسائلها التي كتبتها له كانت ترمى في مستودع الدار، بينما نطل على قصة الباحث والمفكر التاريخي الذي يكشف عن فساد صديقه ومختار حارته... في حين نتعرف أكثر على قصة الممرض الذي يتاجر بوصفات الأدوية المزورة لإطعام أطفاله.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في "الدار" نعثر أيضاً على حكاية سكرتيرة المدير التي باعته جسدها كي تظفر بحياة الجاه، من دون أن ينفعها ذلك في تفادي أن ترمى على قارعة الطريق عند أول مواجهة معه. مثلها تماماً نتعرف إلى قصة زوجة الطباخ، وما تعانيه هي وأولادها من ضنك العيش، والجوع في مشهد "غروتيسك" يجمعها مع نزلاء الدار بهجومهم على طبق من الطعام، وانقضاضهم عليه كالوحوش الضارية، من دون مراعاة لأية أعراف أو لباقة، فالجوع دفعهم إلى نهش بعضهم بعضاً في مشهد قاسٍ ومؤثر لبشر يلتهمون بشراً.

شعب محذوف

 

في العرض الكثيف في تقديم أنماطه ونماذجه الشعبية نعثر أيضاً على حكاية شاب يهوى الغناء، وشيخ عشيرة فقد ماضيه، وراقصة تريد التفوق على تحية كاريوكا ونجوى فؤاد بعد أن فقدت الحب والأسرة والأمل بحياة كريمة. ونعثر على معلم مدرسة تركه أبناؤه وهاجروا خارج البلاد، ورجل متحدر من بيئة ساحلية يحلم بقيادة سفينة تمخر عباب البحر المتوسط لتلتقي بأليسار وجوليا دومنا وكارمن في إسقاط على أمجاد الماضي الزائفة... وننتقل من ثم نحو هدم وزارة الشؤون الاجتماعية الدار على رؤوس سكانه، والشروع في بناء مجمع تجاري، على غرار الخطط الخمسية الجديدة لإعادة الأعمار ونهب الأعمار من السكان الأصليين، وترك البشر دريئة لتجار الحرب الجدد، والتكنوقراطي الأمي الساعي لتكريس خطط التنمية المستدامة بحذف الشعب من حساباته.

كل هذا يحضر بقوة على ألسنة الممثلين، وبأداء متمايز من حيث الكاريكاتير، والتناوب في استرجاع الماضي، ووسط حلول لافتة على مستوى السينوغرافيا التي صممها الفنان الراحل محمد وحيد قزق، والتي اكتفت بقنطرة لبيت دمشقي قديم من حي القيمرية في دمشق، وجدران متهالكة تأكلها السخام، وطاولتين متحركتين ومجموعة من كراسي الخيزران القديمة، في حين عملت الإضاءة (حيدر الحامض) والأزياء والمكياج (نوران صالح) على محاكاة الأزياء الواقعية لنزلاء دار العجزة، بينما كان للموسيقى (عبد الله شحادة) حضور حاسم في النقلات بين فقرات العرض، والعمل على تطوير حبكة موازية، كان لها كبير الأثر في مساندة الخطة الإخراجية، وانتشال حركة الأحداث الدرامية من تقليد الزمن الواقعي ومحاكاته بطول مدة العرض.

عناصر أسهمت في توفير بيئة بصرية حاضنة للأداء، ومحاولة التوليف ولو على صعيد الفرجة، بين فضاء اللعب وفضاء الجمهور وأماكن جلوسه، في تداخل وفره المسرح الدائري (المعهد العالي للفنون المسرحية). كل ذلك في لعبة تبدت فيها خبرة الكريوغراف (حمود شباط) الذي أسهم في رسم الكتل البشرية، وتوزيع تنافرها وتجميعها في علاقة مدروسة مع الفراغ والضوء والحجم. وهذا ما أضاف أبعاداً جمالية تشكيلية لمشاهد عديدة من عرض "الدار" وجعل لجسد الممثل حضوره التشاركي مع زملائه، معوضاً عن نقص شراكته الدرامية بشراكة جسدية لافتة، ولا سيما في المشهد الختامي من العرض.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة