Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ذكرى 30 يونيو في مصر... واقع اقتصادي صعب وانفراجة سياسية مرتقبة

الإخوان أتقنوا على مدار تسعة أعوام فن الدق على أوتار الاقتصاد "الكارثي" والتعليم "المهلهل" والصحة "المعتلة" والأمان "الغائب"

في مثل هذا الوقت من كل عام، تتأجج مشاعر الملايين الرومانسية المستحضرة لشوارع المحروسة الهاتفة "يسقط يسقط حكم المرشد"، "أيوه (نعم) أنا أهتف ضد المرشد". كما يشتعل غضب آخرين، منهم من اعتبر الهتاف خروجاً على الدين، ومنهم من اعتبره محقاً انقلاباً للإرادة الشعبية المصرية، معضداً بالجيش والشرطة، على حكم جماعة الإخوان المسلمين.

لذلك، فإنه في مثل هذا الوقت من كل عام على مدار الأعوام التسعة الماضية، يعمد الفريق الأول إلى "نوستالجيا" التطهير وحنين الخلاص، فيما يغرق الفريق الآخر في الدعاء على "أعداء الدين"، أو البكاء على لبن الحكم المسكوب، أو كليهما.

سن الأقلام والأسنان

وكلما حلت الذكرى، سنّ الجميع كل ما يمكن سنه من أقلام وأسنان وأحياناً سكاكين الاتهامات المتبادلة، والتقييمات المبنية على أساس إما أيديولوجيا مسبقة، أو بحسب رياح الـ"سوشيال ميديا"، فإن كانت شمالية غربية ملبدة بحب الجماعة ورفض انقلاب الإرادة الشعبية ضدها، يجري تصويب سهام الإخفاق وسوء الأداء تجاه الحكم والمحكومين، وإن كانت جنوبية شرقية محملة بالتأييد واستمرار المؤازرة، فإن أمارات الفرحة وقوائم الإنجاز يتم سردها بكل فخر.

تمر تسعة أعوام على أحداث 30 يونيو (حزيران) 2013، عندما تظاهر ملايين المصريين المطالبين بإنهاء حكم جماعة الإخوان المسلمين، ما أدى إلى بيان 3 يوليو (تموز) الشهير، المعطل لعمل الدستور والمقرر إجراء انتخابات رئاسية مبكرة على أن يتولى رئيس المحكمة الدستورية العليا إدارة شؤون البلاد خلال المرحلة الانتقالية. تسعة أعوام تبدو للبعض كأنها تسع دقائق، فيما يشعر البعض بثقلها وكأنها تسعة عقود.

استقطاب حاد

الاستقطاب الحاد الذي شهده المجتمع المصري في أعقاب أحداث يناير (كانون ثاني) 2011 مستمر، ولكن بأشكال أخرى. لم يعُد الانتماء أو التعاطف أو الترحم على حكم الجماعة وحدها عامل الفرقة أو سبب الشقاق السياسي أو بالأحرى الاجتماعي. فبينما الغالبية المطلقة من الملايين التي نزلت إلى شوارع مصر في 30 يونيو (حزيران) عام 2013 ما زالت على موقفها في ما يختص بحكم الجماعة، فإن الزهوة الأولى للخلاص والفرحة الآنية العارمة لأي حدث سعيد، سرعان ما تتضاءلان لتفسحا المجال لتفاصيل الحياة اليومية المعبأة بالمشكلات والملغمة بالمعضلات، بعضها تراكم عبر العقود، والبعض الآخر نجم عن الأحداث.

أحداث 30 يونيو لم تحل بعد إلى كتب التاريخ أو أرشيف الوثائق. لذلك، فإن هذه الأيام تشهد بشكل مكثف الحديث والإشارة والسرد الإيجابي لما جرى في هذا اليوم، وما تبعه من حفاظ على الهوية المصرية والانتقال من الفوضى العارمة إلى الاستقرار النسبي والحفاظ على وحدة البلاد وتحقق مصالحة قوى مصر من شعب وجيش وشرطة وقضاء، لكنها تشهد كذلك الحديث عن حقوق ضائعة لكل من انتمى أو تعاطف أو تضامن مع جماعات الإسلام السياسي، والإشارة إلى اعتقالات للإخوان وإخفاقات في الاقتصاد وارتباكات في السياسة ومحاربة للدين وتضييق على المتدينين.

الدين والمتدينون

يمكن القول إن ملف الدين والمتدينين والخطاب الديني مستمر في طرح نفسه بقوة على مدار الأعوام التسعة الماضية. ولأن جماعة الإخوان المسلمين صعدت إلى حكم مصر في 2012، مرتكزة على مبدأ "الناس بتوع ربنا" (المتبعين لله)، و"الذين سيراعون ربنا فينا" (سيتبعون المنهج الإلهي العادل في حكم المصريين) من جهة، وكنوع من التصويت الإقصائي أو الانتقامي من قبل غير إسلاميين بغرض الإبقاء على أية رموز منتمية لنظام الرئيس الراحل حسني مبارك بعيداً من الحكم، فقد انفتح باب الإسلام السياسي على مصراعيه في أعقاب أحداث 30 يونيو 2013. وهو في العام التاسع لا يظل مفتوحاً فقط، بل تجري محاولات نزع الباب نفسه بشدة وعنف وضراوة بين الحين والآخر.

دعوة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عام 2015 إلى تجديد الخطاب الديني وتنقيته مما لحق به من شوائب، أدت إلى تطرف في التفسير وتشدد في الفهم وانغلاق في المفاهيم التي تحولت إلى حائط مبكى لداعمي الدولة المدنية في مثل هذا الوقت من كل عام. الدعوة ذاتها يتخذها أنصار الدولة الدينية أو النصف مدنية النصف دينية منصة للبكاء على الدين الضائع والعقيدة المتحللة، اللذين ضُرب بهما عرض الحائط بسقوط حكم الجماعة.

حائط الخطاب الديني

لكن في الذكرى التاسعة، تعلو أصوات الباكين عند حائط الخطاب الديني الآخذ في التعقد. حوادث عدة شهدتها مصر في الأشهر القليلة الماضية كشفت الستار – وفي أقوال أخرى أكدت مخاوف أنصار الدولة المدنية- عن ميل المؤسسات الدينية الرسمية إلى النسخة "شديدة الالتزام" من التفسير الديني، والتمسك بتلابيب السطوة على أدمغة المواطنين عبر الإصرار على أن يدلو المشايخ بدلوهم في كل كبيرة وصغيرة في حياة المصريين.

المصريون في الذكرى التاسعة لـ30 يونيو 2013 لا يقفون على مسافة واحدة من منظومة الدين ونوعية خطابه، لذلك يبدو واضحاً تمكن مبدأ خلط الدين بالسياسة بالاقتصاد بالمجتمع من كثيرين، بمن فيهم قطاع عريض ممن خرجوا إلى الشوارع قبل تسعة أعوام، مطالبين بإنهاء حكم الإخوان.

وإذا كان الإخوان ومناصروهم أتقنوا على مدار تسعة أعوام مضت فن الدق على أوتار السياسة "المدمرة" والاقتصاد "الكارثي" والشارع "الضائع" والتعليم "المهلهل" والصحة "المعتلة" والجريمة "المنتشرة" والتموين "الخرب" والأمن "المفتقد" والأمان "الغائب" في مثل هذه الأيام من كل عام، فإن بقية المصريين تنقسم إلى متذكر لأيام الإنقاذ مع إغلاق باب الشكوى والانتقاد، وممتن للإنقاذ لكنه متضرر من بعض الأوضاع، ومتضرر من دون كثير التفات إلى الامتنان لما جرى أو حتى لإحياء الذكرى.

ضغوط اقتصادية شديدة

الضغوط الاقتصادية الشديدة بدأت بمراحل متواترة من برنامج إصلاح اقتصادي رفع شعار "علاج مر" تارة، و"وجع ساعة ولا كل ساعة" تارة أخرى. فبين تعويم الجنيه المصري مقابل الدولار، و"إصلاح" منظومة الدعم، ورفع سعر الفائدة وغيرها، لم تكَد القاعدة العريضة من المواطنين تشم أنفاسها سواء بالتأقلم مع الأوضاع الاقتصادية الجديدة باعتبارها علاجات تأجل تنفيذها ولم تسقط بالتقادم، حتى حل الوباء وما أملاه من فترات إغلاق وانكماش للاقتصاد وتعزيز برامج الحماية الاجتماعية والاقتصادية. وبينما الوباء يحاول أن يحسم أمره بين استمرار لآثاره الاقتصادية الخانقة أو التخفيف من حدته، إذ بحرب روسيا في أوكرانيا تصب رأساً في احتفاء قاعدة عريضة من المصريين بالذكرى التاسعة لأحداث 30 يونيو.

حزب الكنبة

تواتر الأعباء وتفاقم الضغوط الاقتصادية أفقدا البعض قدرته على تذكر الأمس القريب. تقلص القدرة أو الرغبة باستحضار ذكريات المطالبة بإسقاط الإخوان والمرابطة في الشوارع لحين صدور بيان يعلن الخلاص من قبضتهم، أو حتى إحياء الذكرى بشيء من الفتور، لا يشبه لهفة أعوام سابقة يعلله البعض بعودة الغالبية إلى سابق عهدها الملتزم بالكنبات، أو ما جرى العرف على تسميته بـ"حزب الكنبة". ويحلله البعض الآخر في ضوء اعتياد الاستقرار وإيقاع الحياة العادية، ما أفسح المجال للشكاوى الشعبية المعتادة من غلاء الأسعار وضعف الإمكانات، لكن تظل الضغوط الاقتصادية الشديدة عاملاً مؤثراً في شعبية أي نظام ومحبة أي رئيس.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وحين أعلن الرئيس السيسي في إفطار "الأسرة المصرية" خلال رمضان الماضي عن عقد ما يُسمّى بـ"الحوار الوطني" الذي يحتضن مختلف القوى السياسية، توقع كثيرون أن يكون انعقاد الحوار "هدية" الرئيس السياسية للمصريين في الذكرى التاسعة لـ30 يونيو. الخبثاء ألمحوا إلى أن لمّ شمل القوى السياسية المتشرذمة أو المقصاة أو التي اختارت أن تعمل تحت مظلة الرئيس، سيكون بمثابة "مقبلات" لإعادة فتح شهية المصريين لزخم سياسي مفقود وحراك شعبي فكري جمدتهما أعوام القلقلة والوباء وأخيراً حرب أوكرانيا.

انفراجة سياسية

آخرون أقل خبثاً يرون "الحوار الوطني" خطوة بالغة الذكاء للإعلان عن انفراجة سياسية واقتصادية تهدئ من روع المصريين الواقعين تحت ضغوط عدة، لكن "الحوار الوطني" لن يكون "هدية" الذكرى التاسعة، إذ يُتوقع أن تعقد أولى جلساته بعد إجازة عيد الأضحى.

"عيد 30 يونيو" كما يشير إليه موظف الأمن في أحد فروع البنوك المصرية "فرصة للراحة وتوفير قرشَي المواصلات. العيشة أصبحت غالية جداً". القرشان اللذان سيوفرهما الموظف قيمة المواصلات اليومية لا يزيدان على 15 جنيهاً مصرياً (نحو 80 سنتاً أميركياً)، ما يعني أن الوضع الاقتصادي ضاغط جداً. الموظف الحريص في كلامه يقول إنه سعيد بالمشاريع الكبرى التي جرى ويجري تشييدها في مصر من طرق ومحاور وجسور ومدن جديدة، لكنه في الوقت ذاته يخشى ألا يتمكن وأبناؤه من الاستمتاع بها، نظراً إلى موجات الغلاء المتتالية التي تحكم قبضتها على دخول كثيرين المحدودة.

فقه الأولويات

جدلية أولويات موازنة الدولة وأموال الضرائب وهل تذهب إلى الفقراء أو إلى المشاريع الكبرى يتم الدفع بها في كل عام من قبل الفرق المتناحرة سياسياً والمختلفة أيديولوجياً في أعقاب أحداث 30 يونيو. ففي كل عام، يسرد المؤيدون أفضال البنية التحتية الشاملة التي شيدها نظام الرئيس السيسي، إضافة إلى المدن الجديدة وعلى رأسها "العاصمة الإدارية"، وفي الوقت ذاته القضاء على العشوائيات وتوفير المساكن الآمنة لسكانها ومشاريع الصحة وإصلاح هيكل التموين والدعم والتعليم وغيرها. وفي كل عام، يتباكى المعارضون على المليارات التي تنفق على المشاريع والمدن والطرق والجسور والمطالبة بتخصيصها لإطعام "الغلابة" وإسعادهم. هذا العام، وفي ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية وتعثر جهود التعافي من برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي تبعه الوباء وأخيراً حرب أوكرانيا، اتسعت رقعة المطالبين بتهدئة وتيرة المشاريع الكبرى وضخ قدر أوفر من الدعم للمواطنين الذين اتسعت رقعة معاناتهم.

المعاناة الاقتصادية- التي هي سمة دول الكوكب هذه الآونة- تلقي بظلالها على الاحتفاء بذكرى 30 يونيو. هذه الظلال أمعنت في تقليص حجم الاهتمام الشعبي بالسياسة والتعددية وفتح آفاق الحوار مع القوى المعارضة المختلفة (على الرغم من أهميتها)، وأعادت كثيرين إلى مربع أولويات الغذاء والكساء والعلاج. وعلى الرغم من ذلك، تبقى الفروق شاسعة بين جموع المصريين الذين خرجوا لإسقاط حكم الجماعة في مثل هذه الأيام قبل تسعة أعوام، وبين الجماعة وأنصارها وداعميها ممن يحيون الذكرى ولكن بطريقتهم الخاصة.

المزيد من تحقيقات ومطولات