Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

البوهيمية "الشريرة" كارمن في تنقلها "اللذيذ"

البطلة التي طلع بها ميريميه من عالم الغجر وفضل نيتشه أوبراها على كل ما أبدع فاغنر

مشهد من "الإسم العلم كارمن" لغودار (موقع الفيلم)

كان الموسيقي الفرنسي جورج بيزيه يتوقع كل شيء وأي شيء، إلا أن يكون واحداً من ضحايا "كارمن"... "كارمن" الأوبرا، و"كارمن" شخصية الأوبرا المحورية. فهو حين ألف الموسيقى قصة مواطنه الروائي بروسبير ميريميه، التي تتمحور حول هذه الشخصية، وأسبغ عليها أجمل موسيقى يمكنه إبداعها، كان يتوقع أن يفتن ذلك العمل، الذي لم يكن يعرف على أية حال أنه سيكون الأخير بين أعماله المتنوعة والصاخبة بالحياة، جمهوره العريض، لكن هذا الجمهور لم يُبدِ بالعمل أي إعجاب، بل أعرض عنه حين قدم يوم الثالث من مارس (آذار) 1875 في عرضه الأول على خشبة "أوبرا كوميك" الباريسية، مبدياً خيبة أمل جماعية. ونعرف أن ذلك الاعتراض قد أصاب الموسيقي المرهف الحس في الصميم، فاعتكف ليصاب بعد أقل من ستة أشهر بذبحة قلبية، قضت عليه وهو دون الخامسة والأربعين من عمره. مات حزيناً ويائساً بالتأكيد، لكن الفيلسوف الألماني فردريخ نيتشه سيكون له رأي آخر. سيقول إن جورج بيزيه مات وهو في عز عطائه ممثلاً كبيراً للموسيقى الديونيزية المرتبطة بالبحر الأبيض المتوسط، منتصراً على مُجايله الألماني فاغنر الذي كان يمثل الجمودية الجرمانية مقابل ألق الحياة الذي يمثله بيزيه.

تعويض بعد فوات الأوان

وهكذا، تمكن نيتشه من أن يعيد الاعتبار إلى بيزيه، ولكن بعد فوات الأوان. وعلى خطى نيتشه، لا بد من أن نقول أيضاً إن الجمهور العريض بدوره قد أعاد إلى جورج بيزيه، وطبعاً إلى عمله الكبير "كارمن"، اعتباراً ومكانة لن يكون من المبالغة اليوم الانطلاق منهما، للقول إن هذه الأوبرا هي الأشهر على الإطلاق على المستوى العالمي في تاريخ هذا النوع الفني، ناهيك أن شخصيتها المحورية، تلك الحسناء الغجرية نفسها، تكاد تكون أشهر بطلة أوبرالية في تاريخ الفن، بل قد نقول أشهر امرأة في تاريخ الأدب القصصي خلال القرنين الأخيرين، وربما إلى جانب آنا كارنينا ومدام بوفاري. ولا شك في أن نيتشه لم يكن مغالياً حين تحدث عنها بلهجة شغف احتفالية تحيي ما رصده لديها من ولهٍ خالٍ من أية نزعة عاطفية، وحساسية جافة متشعبة، ونزوع أفريقي متوحش وفاتن نحو الحب في أجلى معانيه وأقساها، مثنياً على قسوتها ولؤمها وانفتاحها على الحياة، وقوتها الفتاكة في الوقت نفسه هي التي رآها بالغة العنف، شديدة التبدل في مواقفها. وكل هذا خلال حديثه عن كارمن كما اقتبسها هاليفي ومياك عن قصة ميريميه، وقد آثرا التخفيف من كل تلك الصفات كي تلقى الشخصية قبولاً. ولو لم يفعلا ويُجاريهما جورج بيزيه في ذلك، لكانا أمام لوكريس بورجيا جديدة أو مدام ماكبث معاصرة. وهي الصورة الأصلية التي اتسمت بها كارمن في القطعة الأدبية. أما نيتشه فلم يكن مهتماً إلا بـ"كارمن" الأوبرا، ولو للثأر من خيبة أمله في فاغنر.

الافتتان الخطأ؟

غير أن بيزيه لم ينم قرير العين أمام ذلك الرأي النيتشوي، ولا حتى أمام النجاح الجماهيري الذي عادت وحظيت به الأوبرا، وذلك لأن هذا كله أتى متأخراً... بعد سنوات من رحيله. فكان أن رحل وهو مقتنع بأن فشله كان ضخماً لا راد عنه، وربما ساءَل نفسه كثيراً وهو على فراش الموت عما إذا لم يكن مخطئاً أصلاً في افتتانه بـ"كارمن". ويقيناً أنه لم يكن ليخطر في باله لحظة أنه لم يكن الوحيد في افتتنانه، بل كان رائداً فيه. والرواد عادة ما يكونون ضحايا استباقهم الآخرين. فالحال، أنه لئن كان بيزيه قد أبكر في التقاط قصة ميريميه التي صدرت عام 1845 ليموسقها، أو يموسق نسخة "مخففة" منها، فإنه كان، ومن دون أن يعي ذلك تماماً، إنما يسبق زمنه بعقود طويلة، وذلك لأننا نعرف اليوم أن تلك الشخصية المتمردة المندفعة المتقلبة في عشقها والثائرة على كل من تحب وما تحب، فتنت المبدعين وربما بقدر ما فتنت الجمهور، وعلى الأقل بعد سنوات قليلة من موت جورج بيزيه ومن موت بروسبير ميريميه، وبقدر ما فتنت نيتشه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

افتتان سينمائي

ولئن بقيت أوبراها الأشهر، والتي لا يجرؤ الموسيقيون على الدنو منها بعد العمل الكبير الذي أنجزه بيزيه، فإن السينمائيين تلقفوا "كارمن" منذ الأعوام الأولى لولادة الفن السابع، وحتى من قبل أن يصبح ناطقاً ويغنى. فالاهتمام السينمائي بـ"كارمن"، ولكن غالباً من طريق أوبرا بيزيه التي طغت على قصة ميريميه، إنطلق في الحقيقة منذ عام 1908 حين حققت شركة "نخبوية" فرنسية ألقت على نفسها اسم "أفلام الفن"، ونشطت خاصة بين 1908 – 1918، فيلماً مقتبساً عن "كارمن" من بطولة ريجينا باديت، ولقد حقق الفيلم يومها من النجاح ما لم يغب عن اهتمام نجمة النجمات في ذلك الزمن آستا نيلسن، فتلقفت الفكرة لتقتبس هذه المرة "كارمن" ميريميه من إخراج أوربان غاد الدنماركي. وعلى الفور تنبهت السينما الهوليوودية الناشئة حينه لغنى الموضوع وشعبيته، فأسندت إلى الفاتنة تيدا بارا – التي كان اسمها الفني هذا تحويراً لعبارة "الموت العربي" arab death-، المعتبرة أول امرأة فتاكة في تاريخ السينما، أسندت إليها دور "كارمن" الذي بدا على الفور منطبقاً عليها تماماً، فساهم في إضفاء مزيد من الشهرة والمكانة على الشخصية. وكان الفيلم من إخراج ويليام فوكس، ما حرك سيسيل ب دي ميل، "مخرج الروائع التاريخية" لاحقاً، على الحذو حذوه ليحقق "كارمن" أخرى خلال فترة يسيرة من بطولة فتاكة أخرى تدعى جيرالدين فارار هذه المرة. أما في ألمانيا فلسوف يقدم المخرج الذي سيصبح خلال مرحلته الأميركية التالية لهربه من النازيين، إرنست لوبيتش من كبار مؤسسي السينما الهزلية المؤدلجة، فيلماً أوروبي الأسلوب جريئاً عن "كارمن في عام 1918"، سيكون هذه المرة من بطولة باولا نيغري التي ستلقب من ذلك الحين وصاعداً بـ"كارمن الغجرية". ويرى الناس فيها نموذجاً لما ينبغي أن يكون عليه الشكل الغجري على الشاشة السينمائية. وفرنسا بدورها، صاحبة الحق في الشخصية والحكاية، حتى ولو كانتا إسبانيتين، لن تلبث أن تلحق بالسباق أولاً من خلال فيلم حققه جاك فيدر من تمثيل فاتنة زمانها راكيل ميللر، وبعد ذلك من خلال فيلم بالعنوان نفسه حققه كريستيان جاك في زمن أقرب إلينا (عام 1943) من بطولة فيفيان رومانس، التي يبدو أن رومانطيقية اسمها حتمت أن يكون فيلمها الأكثر رومانطيقية بين الجميع.

غودار على الخط ولكن...

مهما يكن، لا شك في أنه بعد مرور شخصية "كارمن" عند نهايات القرن العشرين في أفلام أكثر معاصرة، ولكن أكثر ارتباطاً بأوبرا بيزيه منها بقصة بروسبير ميريميه، لمخرجين كبار من طينة الإيطالي فرانشيسكو روزي والإسباني كارلوس ساورا، الذي يمكن القول إنه قد جرؤ أخيراً على إعادة "كارمن" الغجرية الأندلسية إلى الوطن بعد أن تغربت طويلاً، أتى التجريبي الكبير جان لوك غودار في عام 1982، ليحقق الفيلم الأكثر غرابة واستفزازاً "عن كارمن" تحت عنوان "اسم العلم كارمن". ولقد وضعنا هنا عبارة "عن كارمن" بين معقوفتين، لأنه حين يتعلق الأمر باقتباس غوداري لعمل كلاسيكي علينا أن نتوقع كل شيء إلا الأمانة للأصل. فتماماً هنا كما فعل غودار نفسه بـ"الملك لير" نازعاً عنه "شكسبيريته في تجريبية محيرة، ولكن عبقرية في الوقت نفسه، ها هو يفعل الشيء نفسه في فيلمه الكارمني التجريبي، الذي تحولت فيه "كارمن" إلى إرهابية تعيش بيننا. والحقيقة أن تجريبية "كارمن" الغودارية هذه كانت من الغرابة، بحيث إن الممثلة إيزابيل آدجاني تركت الفيلم غاضبة بعد البدء في تصوير دورها، وليس كما قيل يومها، لكثرة مشاهد العُري التي اكتشفت أن عليها أن تؤديها، بل لـ"أنني لم أفهم شيئاً مما راح يصوره هذا الفنان الكبير". فتركت الفيلم غير آسفة ليستبدل بها غودار فتاة عشرينية سيكون لها شأن لاحقاً هي ماروشكا ديتمرز، التي قامت بأغرب أداء لشخصية "كارمن"، وهي تتحضر عارية تماماً للقيام بعملية سطو كبيرة. وستقول لاحقاً وهي تبتسم: كان كل ما فهمته من الفيلم أن عليّ أن أسرق وأُسمّى "كارمن" وأتعرّى، والأمور الثلاثة تمت بكل سهولة! فكانت النتيجة أن "كارمن" هذا كان أنجح أفلام غودار... في فرنسا على الأقل!

المزيد من ثقافة