Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

العلاقة المرتبكة بين "حزب الله" والعشائر والجيش اللبناني

استطاع التنظيم الديني أن يفرض نفسه قوة وازنة وفاعلة واخترق البنى العصبية أولاً

اقتحم الجيش اللبناني منطقة عشائرية تتحصن فيها مجموعة من المطلوبين للقضاء (رويترز)

ينشغل لبنان الرسمي واللبنانيون منذ أيام بحدثين كبيرين وبرد فعل "حزب الله" عليهما، الأول هو وصول منصة الحفر إلى حقل "كاريش" النفطي المتنازع عليه بين لبنان وإسرائيل، الذي يقع بين الخطين 23 و29. وقد دعم الجيش الإسرائيلي منصة الحفر بالنسخة البحرية من القبة الحديد، وغطاها بمنطقة حظر جوي وبحري. وفي هذه القضية كان "حزب الله" على لسان أمينه العام ونائبه قد أعلن أنه يقف خلف الدولة اللبنانية في موقفها في حال كانت إسرائيل تتعدى على لبنان أم لا.

أما الحدث الثاني فهو اقتحام الجيش اللبناني منطقة عشائرية تتحصن فيها مجموعة من المطلوبين للقضاء، والمعروفين بتصنيع المخدرات والاتجار بها وتصديرها إلى دول عربية مجاورة، وبتجارة الأسلحة والتهريب بأنواعه بين الحدود اللبنانية السورية.

هذه الملاحقات في المناطق التي توجد فيها عصابات المخدرات وتخضع للسيطرة السياسية لـ"حزب الله"، والعسكرية أيضاً، بسبب التداخل بين الانتماء العشائري والسياسي للمطلوبين، ومعظمهم من عائلات وعشائر لبنانية كبيرة العدد وذات عصبية قوية وتتمتع بتمويل وتسليح جيد وغطاء أمني غير مسبوق. وهذه المداهمات لمعقل العصابات ليست جديدة بل تتكرر سنوياً، إذ يقوم الجيش اللبناني بواجبه بمؤازرة القوى الأمنية لملاحقة الفارين من العدالة، وكثير منهم خطير. ولكن الأحداث في هذه المرة تأخذ شكلاً مختلفاً، أولاً بسبب تغطيتها سياسياً من "حزب الله" الذي أجل وقوعها إلى ما بعد الانتخابات النيابية اللبنانية التي جرت في 15 مايو (أيار) الماضي، كي لا يفجر غضب العشائر البقاعية ذات الوزن الانتخابي، ولكن الأمر تطور بعد ذلك بسبب تخبط موقف "حزب الله" من الموضوع، خصوصاً بعد سقوط قتلى وجرحى في صفوف الجيش اللبناني، ما أدى إلى تدخل مسؤولي "حزب الله" من أمينه العام حسن نصرالله إلى نائبه نعيم قاسم إلى مسؤوليه في المناطق، من أجل وقف العمليات العسكرية، خصوصاً أن الجيش اللبناني أظهر إرادة صلبة في القبض على المطلوبين. ما اضطر "حزب الله" إلى إعلان مواقف متضاربة من العملية بعضها يطلب تنفيذ القانون والوقوف إلى جانب الجيش، وبعضها يطلب من الجيش، وهو المؤسسة اللبنانية الرسمية الوحيدة التي ما زالت متماسكة وتعمل على تحقيق الأمن في لبنان، الخروج من المناطق التي يقتحمها. وأعلن رئيس الهيئة الشرعية في الحزب الشيخ محمد يزبك أمام العشائر أن "ما يؤلمكم يؤلمنا وليس كل من تأذى في هذه العملية هو مجرم أو خارج عن القانون، كنا نرفع الصوت حيثما ينبغي أن يرفع، مطالبين الجيش بأن يأخذ دوره إلى جانب القوى الأمنية في تثبيت الأمن، ولكن ينبغي عدم التعاطي بانفعال أو بعصبية وردات فعل تجاه المواطنين الأبرياء، هذا الأمر في منتهى الخطورة، ولا يمكن أن نسمح به، وإذا تم التمادي فلنا موقف، وسنكون بالتأكيد إلى جانب أهلنا وما يصيبهم يصيبنا".

وفي هذه الأثناء، وصلت منصة الحفر من أجل إنتاج الغاز الذي يلي إنتهاء عمليات التنقيب، فباتت العلاقات بين الجيش اللبناني و"حزب الله" متضاربة ما بين الجنوب والبقاع اللبنانيين.

المعلومات متسلسلة بحسب الجيش اللبناني

بتاريخ 3 يونيو (حزيران) الجاري، دهمت قوة من الجيش في منطقة الشروانة قرب مدينة بعلبك منازل عدة ضبطت داخلها كميات من الأسلحة والذخائر وكاميرات للمراقبة إضافة إلى كمية كبيرة من المخدرات بأنواعها. وأعلن الجيش أنه خلال "عملية دهم نفذتها دورية من مديرية المخابرات لمنزل أبرز المطلوبين في تجارة المخدرات الملقب بـ "أبو سلة" أقدم المطلوب مع آخرين على إطلاق النار في اتجاه عناصر الدورية، ما أدى إلى استشهاد عريف في الجيش وهو من آل شمص، وهي نفسها عشيرة بقاعية كبيرة وأصيب 5 عسكريين بجروح، على الفور تدخلت وحدات الجيش المنتشرة في المنطقة ودهمت منازل مطلقي النار وأوقفت من المطلوبين، وبوشر التحقيق معهم بإشراف القضاء المختص".

نهار الأحد في 5 يونيو، أي بعد يومين من بدء المداهمات العسكرية، أصدر الجيش بياناً يوضح فيه مسار الأمور بعدما أخذت هذه المداهمات والاشتباكات نقاشاً سياسياً بين اللبنانيين بسبب الظروف الخطيرة الراهنة التي يمر بها البلد. وجاء في البيان أن نتيجة عمليات الدهم التي تُواصلها وحدات الجيش في منطقة الشراونة، تم توقيف 6 لبنانيين و6 سوريين لتورط بعضهم في إطلاق النار على العسكريين، ولكون بعضهم الآخر مطلوباً بموجب مذكرات توقيف بسبب الاتجار بالمخدرات، ولكن لم يتم القبض على المطلوب الأول "أبو سلة" الذي يبدو وكأنه يحظى بغطاء سياسي وعسكري من نواب وسياسيين بقاعيين ينتمون إلى الثنائي "حركة أمل" و"حزب الله".

صحيفة "جنوبية" المعارضة لـ"حزب الله" نقلت عن مصادر عشائرية اعتبارها أن توقيت العملية مرتبط بأجندة "حزب الله" للتخلص من تجار المخدرات والمهربين ولتهدئة الرأي العام عليه، ولإسكات الجمهور البقاعي الغاضب من الممارسات الخطيرة لهذه العصابات من قتل وخطف ومخدرات. أما الكاتب السياسي في صحيفة "الجمهورية" عماد مرمل، فقد نقل عن مصادر أمنية واسعة الاطلاع، أن المهمة التي نفذها الجيش في منطقة بعلبك كانت مدروسة بعناية، وأخذت في الحسبان ضرورة حماية المدنيين، ومن بينهم حتى أفراد من عائلة "أبو سلة"، كاشفة أن سقوط قتيل من الجيش كان نتيجة الحرص على عدم إلحاق الأذى بزوجة "أبو سلة"، بعدما اتخذها الأخير درعاً له خلال المداهمة. وكان هدف الجيش القبض على "أبو سلة" حياً للاستفادة من كنز المعلومات الذي يملكه في ما يخص تجارة المخدرات وترويجها كما تدل مذكرات التوقيف الـ 390 الصادرة في حقه.

العلاقة بين "حزب الله" والعشائر منذ تأسيسه

العشائر البقاعية في لبنان هي عبارة عن فروع من أصل واحد، وترتبط في ما بينها بالعصبية العشائرية ذات النزعة الثأرية التي تنص على الدفاع المشترك بين العشائر في مواجهة طرف ثالث. وقد خرجت من الفروع والأفخاذ العشائرية عائلات جديدة ينضوي أبناؤها سياسياً إلى "حزب الله". ويخوض زعماء العشائر غمار الحياة السياسية اللبنانية منذ الانتداب الفرنسي مروراً بزمن الوصاية السورية وظهور "حزب الله" في مناطق وجود تلك العشائر، وإثبات قدرته كفصيل ذي قوة وقدرة مالياً وعسكرياً ومخابراتياً. وقد تربع أحد أركان العشائر، الرئيس صبري حمادة، زمناً طويلاً في سدة رئاسة مجلس النواب اللبناني. وعلى خلاف الصورة التي تمثل العشائر كمجموعات خارجة على القانون وسلطة الدولة، فقد كان لهذه العشائر ممثلون في المؤسسات والإدارات اللبنانية المتعاقبة إن بالنواب المنتخبين أو بالوظائف العامة بواسطة المحاصصة وتوزيع المراكز، ولو أن السيطرة والنفوذ داخل العشيرة كانت تتبدل من شخص إلى آخر بحسب الظروف السياسية في كل مرحلة، وبحسب قوة وشكيمة الفرع الذي ينتمي إليه داخل العشيرة. وإذا اعتبرنا أن التعريف التقليدي للعشائر يجعلها شكلاً لتنظيم اجتماعي يتمتع بسلطة تتكون ضمن آليات من العنف (داخلها أم خارجها)، فإن هذا التعريف لم يعد ينطبق على حالة العشائر اليوم، لأنه فقد معظم مرتكزاته.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

فآليات العنف التي كانت تشكل وسيلة جبه لاقتصاد الكفاف العشائري لم تعد موجودة. وغابت السلطة الجامعة في هذه المرحلة من عمر العشائر اللبنانية. والسلطة الجامعة هي التي تجمع كل فروع العشائر حولها وتثبت لحمتها ووحدتها وتعطيها القوة في مواجهة الآخر سواء أكان عشيرة أو عائلة أو جيشاً. السلطة الجامعة اضمحلت بدورها، ولم يعد في لبنان من وجود لزعيم عشائري واحد يجمع تحت سيطرته سائر العشيرة كما كانت الحال مع الرئيس حمادة القادم من أعلى السلم الهرمي العشائري. لذلك، يمكن القول، إنه نتيجة غياب المرتكزات التاريخية التي كانت تضمن بقاء العشيرة وقيامها، أي الحمى (الأرض الخاصة بالعشيرة) والسلطة الجامعة والعنف كوسيلة لجبه اقتصاد الكفاف، فإن ائتلاف الفروع في إطار العشيرة ما عاد يعطيها سلطة جامعة.

وبحسب المتخصص في علم الاجتماع فؤاد خليل، مؤلف كتاب "العشيرة دولة في المجتمع المحلي"، دخلت العشيرة في إطار الحداثة والتعليم والانخراط في سوق العمل والهجرة والانخراط في الأحزاب السياسية والطائفية. وباتت العشيرة بين سندانين، الأول الحداثة وأشكالها والدخول فيها، والثاني اشتداد العصبية في أوقات الأزمات وخفوتها في أزمان السلم.

في حال العشائر اللبنانية، تبقى الأشكال العصبية الضيقة تراوح في منزلة بين منزلتين، شكلها التاريخي الأصلي، وحالة لم تتضح مكوناتها وأشكالها حتى الآن بسبب تناقضها في الانتماء إلى العصبية العشائرية أم إلى العصبية السياسية العسكرية "الحزب إلهية" الحامية ومانحة الغطاء الأمني.

العشائر في عهدة "حزب الله"

حاول النظام السوري بعد دخول جيشه إلى لبنان إبان الحرب، التقرب من العشائر وأقامت أجهزة المخابرات السورية علاقات مع قسم كبير من زعماء العشائر الذين على الرغم من احتفاظهم بمواقعهم الخاصة داخل النظام العشائري انضموا إلى المشروع السوري. والاستيعاب السوري للعشائر كان يتم عبر تقديم بعضها على البعض الآخر. ما كان يسمح للمقدمين أن يتمتعوا بسلطة كبيرة في المجتمع المحلي وفي إدارات الدولة. أما العشائر التي لم تنضوِ في إطار المشروع السوري فبسطت سلطتها على أراضيها الخاصة، ولكنها لم تعد فاعلة على صعيد البنى العشائرية العامة بعدما استبعدت من مراكز القرار والقوة والسلطة.

وقد تمكن نظام الوصاية السوري من إعلاء شأن عشيرة ما على حساب أخرى من الجرود الهرملية أو في بلاد بعلبك- الهرمل، بواسطة الانتخابات النيابية التي كان يتم اختيار المرشحين لها على لائحة السلطة من عشائر معينة، أو يتم تعيين وزراء في الحكومة من عشيرة ما، أو عبر التوظيف القائم على المحاصصة. وكان هذا الاستتباع السوري للعشائر سبباً إضافياً لتفتتها ولإضعاف اللحمة في داخلها.

بعد خروج الجيش السوري في عام 2005 من الأراضي اللبنانية، لم يكن بإمكان "حزب الله"، وهو الحزب الديني والأيديولوجي، إلا أن يستعيد السيطرة على العشائر بعدما كان قد خرج معظم أعضائه المؤسسين من فروعها.

بعد الإعلان عن الحزب في 1985، استطاع أن يفرض نفسه قوة وازنة وفاعلة في منطقة البقاع الشمالي، واخترق البنى العصبية العشائرية أولاً، فتضخمت بنيته التنظيمية والعددية. ودخول "حزب الله" في هذه المعادلة خلق توازناً جديداً تهيبت منه العشيرة كونها سلطة بحالها وكون العشائر لا تتخلى عن سلطاتها الداخلية بسهولة لصالح حزب سياسي. أما العشائر التي كانت قد أقامت علاقات سياسية مع سوريا فقد لجأت إلى استخدام هذه العلاقة في سبيل خلق توازن مع سلطة "حزب الله" الجديدة. والعكس صحيح أيضاً، فقد لجأت العشائر المتخاصمة مع سوريا إلى إقامة علاقة مع "حزب الله" في سبيل تعديل التوازن الذي سببه التسلط السوري في المنطقة. ولجأ الحزب إلى دخول العشائر من خلال الفروع الطرفية التي لا تملك عصب العشيرة، وليست صاحبة مال أو جاه.

وكما يرى الباحث وضاح شرارة في كتابه "الأمة القلقة"، فقد كانت الأجباب الطرفية سبيل "حزب الله" إلى اختراق حصن العشيرة المنيع، وإلى اختراق الثقافة العشائرية في الناحية الدينية للتشيع، فوجد المتدينون في العشائر وظهر رجال الدين بينهم. وهذا أمر مستجد على العشيرة وغريب عنها، لأن البنية العشائرية بشكلها القديم لم تكن بحاجة إلى رجل الدين.

المزيد من تقارير