في خضم ارتفاع أسعار الطاقة وحاجة دول الاتحاد الأوروبي إلى الغاز، وفي ظل التخبط على الجانب اللبناني وغياب القرار الرسمي الموحد في شأن الخط الذي يحدد الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، وبعد المماطلة في تعديل المرسوم الذي يحفظ حق لبنان في مساحة تشمل "حقل كاريش" وفقاً للخط رقم 29 وإرساله إلى الأمم المتحدة مع الوثائق التي وضعها الجيش اللبناني، بدأت إسرائيل المسار المتبع لاستخراج الغاز من الحقل المذكور، ووصلت، الأحد 5 يونيو (حزيران) الحالي، سفينة إنتاج الغاز الطبيعي المسال "إنيرجيان باور" إلى المنطقة المتنازع عليها مع لبنان، وقطعت الخط 29، وأصبحت على بعد 25 كيلو متراً من الخط الفاصل رقم 23. وبدأ العمل على تثبيت موقع السفينة في "كاريش"، وأعلن عن العمل على إرساء سفينتين، الأولى خاصة بإطفاء الحرائق، والثانية خاصة بنقل الطواقم والعاملين. ويأتي دخول الباخرة اليونانية إلى المنطقة المتنازع عليها مع لبنان، وهي التي بُنيت خصيصاً لحقل كاريش، بعد توقف المفاوضات اللبنانية - الإسرائيلية حول ترسيم الحدود البحرية، إثر رفض الجانب الإسرائيلي الأخذ بالخط 29 كنقطة انطلاق للمفاوضات، والإصرار على اعتماد الخط 23، ودخلت المفاوضات جموداً كان سببه توقف تحركات الوسيط الأميركي أموس هوكشتاين بعد زيارة أجراها إلى لبنان قدم خلالها إلى المسؤولين اللبنانيين اقتراحاً خطياً تضمن منح لبنان الخط 23 مع قضم جزء من حقل قانا قبل أن ينحني أمامه بشكل مائل باتجاه خط هوف ويقضم قسماً من بلوك التنقيب رقم 8. وبقي الرد اللبناني غامضاً مع تسريب أجواء توحي برفض الرؤساء الثلاثة (ميشال عون، نجيب ميقاتي، نبيه بري) اقتراح الوسيط الأميركي، فيما اكتفى رئيس الجمهورية بالإعلان عن حرص لبنان العودة إلى المفاوضات وعدم التخلي عن حقوقه من دون أي ذكر للخط 29، ولفت تأكيد المدير العام للأمن العام، اللواء عباس إبراهيم، العائد حديثاً من زيارة إلى الولايات المتحدة، إلى أن واشنطن لا تزال تنتظر جواب لبنان الرسمي على اقتراح هوكشتاين، على أن يكون جواباً خطياً.
اعتراض رسمي لبناني متأخر
فبعد 418 يوماً على عدم توقيع رئيس الجمهورية مرسوم تعديل المرسوم 6433، وبعد 34 يوماً على انطلاق المنصة العائمة، على أثر دخول السفينة اليونانية إلى المنطقة المتنازع عليها عند الحدود البحرية الجنوبية، استفاق المسؤولون في لبنان على خطورة الوضع وإمكانية خسارة أكبر ورقة للتفاوض كما علقت خبيرة النفط والغاز في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لوري هايتايان، التي توقعت أنه "بعد شبك المنصة بالبنى التحتية ستحتاج إلى شهرين أو ثلاثة لبدء الإنتاج".
وأجرى رئيس الجمهورية ميشال عون فور تبلغه خبر وصول السفينة اليونانية إلى "حقل كاريش" اتصالاً برئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وطلب من قيادة الجيش تزويده بالمعطيات اللازمة ليبني على الشيء مقتضاه. واعتبر عون أن المفاوضات لترسيم الحدود لا تزال مستمرة، بالتالي فإن أي عمل أو نشاط في المنطقة المتنازع عليها يشكل استفزازاً وعملاً عدائياً. ووصف رئيس الحكومة من جهته محاولات فرض أمر واقع من قبل إسرائيل في منطقة متنازع عليها بأنه "أمر بمنتهى الخطورة"، محذراً من "تداعيات أي خطوة ناقصة قبل استكمال مهمة الوسيط الأميركي التي بات استئنافها أكثر من ضرورة ملحة"، كما قال.
وذكر البيان الصادر عن القصر الجمهوري برسالة كان أرسلها لبنان إلى الأمم المتحدة في فبراير (شباط) الماضي، يؤكد فيها تمسكه بحقوقه وثروته البحرية، وأن حقل كاريش يقع ضمن المنطقة المتنازع عليها مع إسرائيل، وبأنه طلب في الرسالة من مجلس الأمن الحيلولة دون قيام إسرائيل بأي أعمال تنقيب في المناطق المتنازع عليها تجنباً لخطوات قد تشكل تهديداً للسلم والأمن الدوليين، لكن هذه الرسالة على أهميتها تبقى غير كافية وفق ما يؤكد رئيس الوفد اللبناني المفاوض في هذا الملف، العميد بسام ياسين لـ"اندبندنت عربية"، بخاصة أن لم تترافق مع تعديل المرسوم 6433 وتثبيت الإحداثيات التي وضعها الجيش اللبناني للحدود وفق الخط 29 لدى الأمم المتحدة، والمعلوم أنه لا رئيس الجمهورية ولا الحكومة قد أقدما على هذه الخطوة.
استعجال في استئناف المفاوضات
وفي إطار المتابعة الرسمية للملف سجل في الساعات الماضية اتصال ثانٍ بين رئيس الجمهورية ورئيس حكومة تصريف الأعمال للتباحث بالخطوات الواجب اتخاذها لمواجهة محاولات العدو الإسرائيلي توتير الأوضاع على الحدود البحرية الجنوبية، وفق ما ذكر البيان الصادر عن المكتب الإعلامي لرئيس الحكومة. وبحسب المعلومات فإن عون وميقاتي اتفقا على دعوة الوسيط الأميركي أموس هوكشتاين إلى بيروت للبحث في مسألة استكمال المفاوضات لترسيم الحدود البحرية والعمل على إنهائها في أسرع وقت ممكن، منعاً لأي تصعيد محتمل. ولم تشر المعلومات إلى أي اتفاق على تعديل المرسوم 6433 وإرساله مع الإحداثيات إلى الأمم المتحدة لحفظ حق لبنان، إلا أن التوافق تم على أن يقوم وزير الخارجية عبد الله بو حبيب بسلسة اتصالات دبلوماسية مع الدول الكبرى والأمم المتحدة لشرح موقف لبنان ولتأكيد تمسكه بحقوقه وثروته البحرية واعتبار أي عمل تقوم به إسرائيل في المناطق المتنازع عليها بأنه يشكل استفزازاً وعملاً عدوانياً يهدد السلم والامن الدوليين.
مماطلة وتسويف وخوف المسؤولين
و"لأن المسؤولين رفضوا حتى الآن تعديل المرسوم وإيداع حدودنا لدى الأمم المتحدة وفقاً للخط 29 الذي اعتمده الجيش اللبناني، وهو الخط الوحيد القانوني والتقني، فقد وصلنا إلى ما وصلنا إليه". يقول العميد ياسين. ياسين وهو كان رئيس الوفد العسكري التقني المفاوض يرد أسباب عدم البتّ بقرار تعديل المرسوم إلى "المماطلة والتسويف والخوف لدى المسؤولين من فشل المفاوضات"، رافضاً الدخول في أسباب أخرى لها علاقة بالمكاسب السياسية التي أراد المسؤولون في السلطة تحقيقها في ملف الحدود، معتبراً أنها تبقى تكهنات. وبحسب ياسين فإن "الكلام وحده لم يعد يكفي والمطلوب اتخاذ خطوات سريعة تبدأ بتعديل المرسوم وتأكيد الرسالة المرسلة إلى مجلس الأمن في يناير (كانون الثاني) 2021، وإيداع حدودنا لدى الأمم المتحدة، وأخيراً إنذار الشركة اليونانية بوقف العمل فوراً في حقل كاريش"، محملاً السلطة السياسية مسؤولية ما آلت إليه الأمور في هذا الملف. ويشرح العميد ياسين أن "الجيش اللبناني قام بما عليه وحاول أن يقاتل حتى النهاية، لكن في المقابل ماذا فعلت السلطة السياسية؟"، مضيفاً، "فليعدلوا المرسوم من دون أي تأخير، وإلا فعلى الدنيا السلام". ورداً وفق ما أعلنته الشركة اليونانية بأنها تلقت ضمانات سمحت لها بالتوجه إلى "حقل كاريش" لبدء العمل فيه من دون أن تذكر ممن أخذت هذه الضمانات، رد رئيس الوفد اللبناني "فليتجرأ من أعطى الضمانات للشركة، في لبنان، ويعترف بذلك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ما كنا حذرنا منه وصلنا إليه
من جهتها، تؤكد الباحثة في مجال النفط والغاز في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لوري هايتايان لـ"اندبندنت عربية"، أن "المسار الذي اتخذه ملف ترسيم الحدود البحرية كان ينذر بأننا سنصل إلى ما وصلنا إليه، بالتالي لم أفاجأ بالتطورات الجديدة. فبعد رفض رئيس الجمهورية في البداية العودة إلى جولة ثانية من المفاوضات متمسكاً بالخط 29، وبعد مراسلة الأمم المتحدة مرتين، أولى في سبتمبر (أيلول) 2021، وثانية في يناير 2022 تضمنت تأكيد موقف لبنان الرسمي الممثل بالحكومة اللبنانية والتمسك بالخط 29 كنقطة انطلاق للمفاوضات، واستمرار المفاوضات يعني أن ادعاء إسرائيل بأن هناك منطقة اقتصادية إسرائيلية خالصة أمر غير صحيح، لكن التطور الجديد الذي تمثل بإعلان رئيس الجمهورية في فبراير 2022 قابلية التفاوض حول الخط 23، وأن الخط 29 كان فقط لبدء التفاوض، بدد مفاعيل المراسلتين السابقتين وأسبغ غموضاً وضياعاً على الموقف اللبناني". وتضيف هايتايان أنه "أمام هذا الواقع بات على الحكومة اللبنانية أن تجتمع فوراً وتوضح القرار اللبناني الحاسم، فإذا قررت اعتماد الخط 23 والعودة إلى اتفاق الإطار فهذا يعني أنه لا دخل للبنان بحقل كاريش، أما إذا أصرت على الخط 29 فعليها أولاً تعديل المرسوم قبل إرساله إلى الأمم المتحدة والدعوة إلى استئناف المفاوضات وتحذير الشركة اليونانية من مغبة الاستمرار في العمل في المنطقة المتنازع عليها".
سيناريو مواجهة بين إسرائيل و"حزب الله"
فيما اعتبر العميد بسام ياسين لـ"اندبندنت عربية" أنه "بات على لبنان استخدام كل الوسائل لمنع إسرائيل من التعدي على مساحته البحرية، ومن بينها الوسائل العسكرية، وإذا استدعى الأمر قصف المنطقة الموجودة فيها السفينة اليونانية"، وفي الوقت الذي سيرت إسرائيل زوارق بحرية رافقت السفينة اليونانية لتأمين حمايتها، تخوفت هايتايان من "سيناريو حرب محتملة قد يجرنا إليها حزب الله"، داعيةً الحكومة اللبنانية إلى "حسم موقفها وتوضيح كل هذه المسألة قبل فوات الأوان".
ومعلوم أن الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله الذي كان أعلن في آخر إطلالاته أن الأولية الآن ليست للاستراتيجية الدفاعية وموضوع سلاحه، بل لملف الغاز والنفط، لأنه "الحل الوحيد"، كما قال، للأزمة الاقتصادية في لبنان. وكرر نصر الله استعداده لمنع إسرائيل من مد اليد على المياه اللبنانية، وأكد أن "المقاومة ستكون حاضرة لحماية أي قرار لبناني باستقدام شركات عالمية للتنقيب"، علماً بأن أي شركة لم تتقدم، ولم تشارك في المناقصة حتى الآن، على الرغم من تمديد الحكومة اللبنانية المهلة.
في المقابل، كشفت هيئة البث الإسرائيلية، أن "سلاح البحرية يستعد لاحتمال تعرض منصة الغاز كاريش عند حدود لبنان البحرية لهجوم". ولفتت إلى أن "سلاح البحرية سيقوم بتأمين المنصة العائمة وسط البحر بواسطة القطع البحرية والغواصات"، معلنةً أن "سلاح البحرية سيقوم بنقل النسخة البحرية من القبة الحديدية إلى الحدود البحرية مع لبنان".
في المقابل، أعلنت قيادة الجيش اللبناني في بيان صادر عن مديرية التوجيه عن "إقدام زورق حربي تابع للعدو الإسرائيلي على خرق المياه الإقليمية اللبنانية مقابل رأس الناقورة"، مسجلةً خرقاً ثانياً في البقعة البحرية نفسها من قبل زورق مماثل. وأكدت متابعة الموضوع مع قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان.
من جهتها، سألت هايتايان أنه "طالما أن (حزب الله) يهدد ويتوعد فلماذا لم يقدم وزير الأشغال (علي حمية) المحسوب عليه، وهو المعني الأساسي في هذا الملف، على فرض طرح موضوع تعديل المرسوم وحفظ حق لبنان في مساحة تتخطى الـ860 كيلو متراً على طاولة مجلس الوزراء؟". وتابعت "فليقرر (حزب الله) إما المقاومة أو المؤسسات الرسمية. أما العراضات الكلامية فلا تفيد، بل تعرضنا فقط للخطر".