Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حان الوقت كي نكون واقعيين بخصوص الحرب في أوكرانيا

ستنطلق أي تسوية محتملة من وقائع على الأرض وليس مما نتمنى أن تكون عليه الأمور

السرديات الغربية عن الحرب يجب أن تتوقف عن تجميل موازين الربح والخسارة، أو التهوين من شأن الانتكاسات التي تعانيها أوكرانيا (غيتي)

هل لاحظتم كيف أننا لم نعد نستيقظ يومياً على الأخبار حول آخر تطورات الانتصارات التي يحرزها الأوكرانيون الأبطال أو حتى الأنباء عن آخر النكسات التي يصاب بها الروس المتوحشون؟ كيف أن دعوات الرئيس فولوديمير زيلينسكي المحفزة، وضمنها نداءاته في "منتدى دافوس" التي وجهها إلى النخبة ممن تعطيهم ثرواتهم الطائلة نفوذاً سياسياً (بلوتوكراتس plutocrats)، باتت تستحوذ على وقت أقل في نشرات الأخبار مما كانته في السابق؟

إذاً، لا شك في أن بعضاً من تلك التغييرات تعكس الدورة الطبيعية للاهتمام الإخباري بالمستجدات. شكل اجتياح روسيا لأوكرانيا قبل ثلاثة أشهر مسألة صادمة إلى درجة كبيرة، وجاءت استجابة الرئيس زيلينسكي وأبناء شعبه على درجة من الشجاعة، دفعت بالاهتمام الشعبي إلى أعلى مستوياته [بهذه القضية]. إنها حرب فظيعة، وحرب شاملة، وعلى الأراضي الأوروبية، وبوجود ممثل ذي شخصية جذابة على الشاشة وقد تحول بين ليلة وضحاها زعيماً ملهماً في زمن الحرب، ويقود الأوكرانيون الشجعان جمعاً ممن هم على شاكلة البطل داوود، إذ يتفوقون على مجاميع من الروس المربكين وضخام الجثث الشبيهين بالعملاق غوليات [الذي هزمه داوود بضربة مقلاع].

 لكن، وربما هناك فترة محددة لن يتمكن بعدها المشاهدون من بذل الجهود لفهم الأسماء غير المعهودة لأماكن ومناطق تقع على بعد ساعات من الجزر البريطانية، بعد انتهاء الجزء الأول من الدراما، وقد خفت تماماً الخطر المباشر لإمكانية توسع تلك الحرب. لذلك، ربما كان من المحتم أن تأخذ قضايا تثير قلقاً على الجبهة الداخلية الوطنية مكاناً متقدماً في لائحة اهتمامات المواطنين في المملكة المتحدة وكل الدول الأوروبية، بما فيها مسألة غلاء المعيشة (حتى لو كان جزءاً من الأزمة سببه تلك الحرب).

ومن الممكن أيضاً أن متابعة تلك الحرب قد أصبحت أكثر صعوبة. إن صورة الحوادث الكبرى، كالتهديد باحتلال العاصمة كييف، و[عرقلة] مسيرة طابور الدبابات الروسية الضخم جداً، والدمار الذي لحق بـ"خاركيف"، ثاني أكبر المدن الأوكرانية، والصمود المؤلم في معمل "آزوفستال" للحديد والصلب في "ماريوبول"، قد ذهبت. وحلت مكانها قضايا أقل أهمية تتعلق بمصير مدن أصغر وعمليات عبور أنهار في مناطق داخل إقليم "دونباس". إن الخرائط التي كانت في السابق تظهر خطاً واضحاً بين الألوان الأوكرانية المكونة من الأصفر والأزرق، في مواجهة الألوان الأحمر والأبيض والأزرق الروسية، قد أصبحت كلها مظللة بشكل أكبر. وعلى الأرض، جفت إلى حد كبير الصور التي تلتقط عبر كاميرات هواتف المدنيين الذكية. وكذلك فإن عملية وصول المراسلين الصحافيين إلى أماكن الحدث قد أصبحت أكثر صعوبة، بعد أن أصبحت مناطق الحوادث الحربية في "دونباس" أكثر اتساعاً.

في المقابل، أنا أتخوف من أن كل تلك العوامل المجموعة معاً لا يمكنها أن تفسر بشكل كامل تراجع حضور ملف الحرب الأوكرانية، خصوصاً ضمن نشرات الأخبار التلفزيونية، تحديداً في العالم الناطق باللغة الإنجليزية. والحقيقة إن ما تغير لا يقتصر على مكانة أوكرانيا في وسائل إعلامنا الإخبارية فحسب، بل تبدلت أيضاً فحوى التغطيات الإخبارية. ويمكنني أن أربط تاريخ هذا التغير بموعد سقوط مدينة "ماريوبول" في 17 و18 مايو (أيار).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

واستطراداً، لم يحدث لأنه ساد توقع لفترة طويلة بأن النصر الروسي في "ماريوبول" سيعتبر نقطة تحول محتملة في الحرب، ولعل ذلك يفسر سبب شراسة القتال الذي خاضه الجانبان من أجل الفوز بتلك المدينة، إذ تشكل "ماريوبول" مرفأً أساسياً أعاق الممر البري [للقوات الروسية] نحو شبه جزيرة القرم، ولذا فقد قاومت منذ اليوم الأول للاجتياح الروسي. ولعل السبب يكمن في أنه لم تجر تغطية تلك القضية بهذا الشكل إلى حد بعيد.

يبدو أن منظمتي "الأمم المتحدة" و"الصليب الأحمر الدولي" قد أجريتا وساطة من أجل التوصل إلى اتفاق يسمح بإجلاء من يعانون إصابات بالغة من الأوكرانيين في "ماريوبول" (وقد رأينا ذلك على شاشات التلفزة). ويبدو أن الاتفاق (في مصنع "آزوفستال") قد أتاح لأكثر من ألفين من المقاتلين الباقين، الانسحاب أيضاً. لقد وصفت هذه الوساطة بأنها عملية إجلاء، ولقد تابعنا جزءاً يسيراً منها. ووصف الروس تلك العملية بأنها استسلام، وذلك مصطلح تفادته غالبية الحسابات الناطقة باللغة الإنجليزية، حتى مع تحول الجنود [المنسحبين من آزوفستال] سجناء حرب لدى الطرف الروسي.

واستطراداً، انتظر العالم الغربي الإشارة من الرئيس الأوكراني زيلينسكي، الذي أثنى على بطولات المقاتلين الأوكرانيين. وأفاد بأنه جرى إجلاؤهم بغية تفادي مزيد من المعاناة، وأنه سيمكن مبادلة هؤلاء بأسرى حرب من الروس في وقت قريب. إن ذلك كله، في غالبيته، قد يكون صحيحاً، لكنه قد يحمل في طياته أيضاً نوعاً من الأمنيات التي قد يمكن تفهمها، أو أنها صممت للحفاظ على المعنويات مرتفعة في خضم حرب مستمرة، لكن ليست الدول الغربية ومن يمثلها مثل الولايات المتحدة الأميركية وحلف الأطلسي والمملكة المتحدة، بطرف مقاتل. وقد ذهبت تلك الدول كلها إلى أبعد مدى في تفادي الظهور بأنها تشارك مباشرة [في الأعمال العسكرية]. ويتوجب علينا أن نمتنع عن العمل على تلميع هذا الواقع، بل نأخذ بحسب ما هو عليه. رمزياً، وعملياً أيضاً، شكل الانسحاب من "ماريوبول" ضربة قوية لأوكرانيا.

في الأسبوع الذي تلا تلك التطورات، أصبح من الصعب أن نجادل أن أوكرانيا تحقق انتصاراً. ورويداً رويداً، ثمة اعتراف بأن هناك معارك عنيفة والقوات الروسية قد حققت بعض التقدم وإن كان محدوداً وربما مؤقتاً. في 19 مايو، وفي تغير واضح للهجة، تحدث الرئيس زيلينسكي عن "تدمير" مناطق دونباس، والمناطق "هناك هي أشبه بالجحيم". وبعد ثلاثة أيام، أفاد زيلينسكي بأن أوكرانيا يمكنها أن تفقد نحو 100 مقاتل يومياً، وكشف عن حجم الخسائر الأوكرانية منذ منتصف شهر أبريل (نيسان) بأنها تتراوح بين 2500 و3000 جندي أوكراني قتيل، مع نحو عشرة آلاف جريح. حتى ذلك الوقت، دأبت أوكرانيا على إعطاء تحديثات منتظمة عن حجم الخسائر الروسية، من دون أن تأتي على ذكر الخسائر الأوكرانية الخاصة بها.

فسر البعض ذلك بأن الرئيس زيلينسكي قد بدأ بتعويد الأوكرانيين على أهمية فتح قنوات التفاوض، مع إمكانية تقديم كييف تنازلات. في المقابل، رأى آخرون في الأمر نفسه محاولة لمناشدة الدول الغربية على تقديم مزيد من المساعدات، ولكن يصعب جداً عدم الملاحظة بأن تراجع أهمية التغطية الإخبارية للشأن الأوكراني، خصوصاً في المملكة المتحدة، يتزامن مع تراجع حظوظ نجاح المساعي الأوكرانية في هذه الحرب.

وخلال الأسبوع الأخير، بتنا نسمع كلاماً مختلفاً تماماً عما عهدناه في بداية الحرب من كلام يفيد بأن أوكرانيا يمكنها أن تحقق نصراً شاملاً، ومن ضمن ذلك نجاحها أيضاً في استعادة كل أراضيها، بما فيها شبه جزيرة القرم. وربما كان ذلك كلاماً مغايراً تماماً للمعنى الذي قصده وزير الدفاع الأميركي، حينما صرح بأن الولايات المتحدة تود رؤية روسيا وقد ضعفت إلى درجة لن تتمكن بعدها من شن عمليات عسكرية مماثلة في المستقبل.  

حالياً، لا يمكن اعتبار أن هذه الحرب قد وضعت أوزارها، فيما يفيد كثيرون من الخبراء العسكريين بأنها دخلت مرحلة حرب الاستنزاف التي يمكن أن تستمر أشهراً عدة أخرى، وحتى سنوات. ومن المحتمل أيضاً أن يتغير الوضع ليصب من جديد في صالح أوكرانيا، أو أن تقرر موسكو، ولأي سبب من الأسباب، إيقاف الحرب.

لكن في هذه الأثناء، لا بد أن الوقت قد حان لوقف عملية تجميل السردية الغربية حول ميزان التقدم [الذي يحرزه الأوكرانيون]، أو العمل على التقليل من أهمية الضربات التي يتلقاها الأوكرانيون، إذ سينطلق أي مشروع تسوية من الوقائع على الأرض، وليس من منطلق ما نتمنى أن تكون عليه. ولا يمكننا أن نتكل أيضاً على مسألة أن الأوكرانيين سيتمكنون من استعادة الأراضي التي خسروها في ساحة المعركة.

واستطراداً، لقد أعطى الرئيس زيلينسكي الجمهور فكرة عن حجم الخسائر التي لحقت بأوكرانيا أخيراً، وحجم الخسائر التي يحتمل أن تتكبدها تلك القوات في منطقة دونباس، لكن حجم الأضرار الذي لحق بأوكرانيا قد يذهب إلى أبعد من ذلك بكثير. فبحسب تقديرات نشرها الأسبوع الماضي معهد "مجلس الأطلسي" Atlantic Council، مقره أميركا، فإن 30 في المئة من البنية التحتية الأوكرانية قد دمرت. وهناك تقديرات أيضاً تشير إلى أن الناتج المحلي الإجمالي يمكن أن يتقلص بما يتراوح بين 30 و45 في المئة خلال عام 2022.

ووفقاً لوزير المالية الأوكراني سيرغي مارشينكو، فإن هذه الحرب قد كلفت أوكرانيا حتى الآن نحو سبعين في المئة من عائداتها، والدولة بصدد مراكمة عجز في ماليتها مقداره خمسة مليارات دولار أميركي شهرياً. وبات معلوماً أيضاً أن نحو ستة ملايين أوكراني قد أصبحوا لاجئين خارج البلاد، ومن غير المحتمل أن يعودوا جميعهم إلى ديارهم، فيما يعتبر ثمانية ملايين آخرين نازحين داخلياً.

تشكل هذه الأرقام خسائر كبيرة بغض النظر عن المعايير المستخدمة، وهي تتزايد باطراد فيما تستمر هذه الحرب، لكن حتى الآن، يعتبر الضرر الذي يلحق بأوكرانيا مظهراً من مظاهر حرب بدأت تحتل موقعاً متأخراً نوعاً ما، وباتت تحل في المركز الثالث ضمن ترتيب أولويات التغطيات الإخبارية في الدول الغربية. ويبدو ذلك بعيداً من صور الإصرار البطولي الذي تحلى به الأوكرانيون، ووحشية روسيا وعدم كفاءة قواتها.  

لكن، بدأ مستوى الخسائر لجهة البشر وحجم الأضرار المادية والخسائر في مساحات الأراضي، في تغذية نزاع بات علنياً تماماً في الوقت الحاضر، لكنه حتى الآن يبقى محصوراً إلى حد كبير بين المراقبين. ويدور ذلك النزاع حول السؤال عن الزمان والشروط التي قد تقرر فيها أوكرانيا أن تبدأ في الحد من خسائرها. ووفق رؤية "الواقعيين" (من ضمن هؤلاء الدبلوماسي المخضرم هنري كيسينجر)، سيحدث ذلك قريباً. وفي المقابل، يرى "المثاليون" (من ضمنهم وزيرة الخارجية البريطانية ليز تراس) أنه لن يحصل قبل النصر الكامل لأوكرانيا.

وحتى الآن، يقف الرئيس الأوكراني زيلينسكي بين الضفتين ملمحاً إلى استعداده تقديم التنازلات، مع تمسكه بإرادة القتال، لكن في يوم قد يكون قريباً جداً، سيكون عليه ربما اختيار أي طريق سيسلك.

نشر في "اندبندنت" بتاريخ 27 مايو .2022

© The Independent

المزيد من آراء