Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل ستبقي الصين ودول أخرى اصطفافها إلى جانب روسيا؟

قد تكون التسوية أو الجمود في الصراع بمثابة "تعادل"

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحضر اجتماعاً مع نظيره الصيني شي جينبينغ في بكين في فبراير 2022 (رويترز)

يرى بعض المراقبين أن لدى واشنطن عادة سيئة تتمثل في افتراض أنه مع القدر المناسب من الضغوط أو الحوافز الأميركية، ستصطف الدول الأخرى في النهاية خلف الولايات المتحدة وهي تحاول حل مشكلة أو إدارة أزمة دولية ما، لكن المشكلة تبدو أعقد من ذلك بكثير، فبعد الهجوم الروسي على أوكرانيا امتنعت دول مثل الهند والبرازيل والمكسيك وجنوب أفريقيا وإندونيسيا وغالبية دول الشرق الأوسط عن عزل أو معاقبة روسيا، ووضعت مصلحتها الوطنية فوق دعوات واشنطن، لكن الصين ودول أخرى اصطفت إلى جانب الكرملين، في وقت تترقب فيه بحذر نتيجة الصراع العسكري، فهل ستغير بكين تحالفها الاستراتيجي مع موسكو بعد الحرب؟

رُؤى متناقضة

على نقيض ما تراه الولايات المتحدة والغرب من أخطار أخلاقية واستراتيجية تنطوي عليها حرب أوكرانيا، وأن النظام الدولي القائم على القواعد الذي صممته أميركا، مهدد من قبل موسكو، تميل كثير من الدول المهمة حول العالم إلى اعتبار هذه الحرب المتواصلة صراعاً إقليمياً، وليس تهديداً خطيراً للقوانين والأعراف التي يقوم عليها النظام العالمي، ولهذا، ظلت تعمل في الغالب لحماية مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية، فالهند على سبيل المثال رفضت إدانة روسيا واستفادت من الأسعار المخفضة لشراء أكثر من ضعف كمية النفط الروسي مقارنة بعام 2021.

وعلى الرغم من أن الهند وباكستان خاضتا حروباً عدة ضد بعضهما البعض، فإن مواقفهما في شأن حرب أوكرانيا متشابهة، ما يعكس عدم الرغبة في المخاطرة باستعداء روسيا، فالهند تتمتع بعلاقة وثيقة مع موسكو منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي، وعلى الرغم من أنها الآن أقل اعتماداً على الأسلحة الروسية ولديها علاقات اقتصادية وأمنية واسعة النطاق مع الولايات المتحدة، فإن روسيا تظل أكبر مورّد عسكري لها، إذ تمثل الأسلحة الروسية نصف واردات الدفاع الهندية، وبدأت روسيا منذ فترة في خطب ودّ باكستان في تناقض حاد مع سياستها المتمركزة حول الهند خلال الحرب الباردة، إذ زودت موسكو باكستان بكمية من الأسلحة، ومنذ عام 2016، أجرت أيضاً تدريبات مشتركة مع الجيش الباكستاني، ولهذا، لا عجب أن عمران خان رئيس الوزراء السابق رفض الانحياز ضد روسيا في حرب أوكرانيا، كما أن خليفته شهباز شريف لم يغير مساره.

وفي البرازيل، التي تعد أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية (1.4 تريليون دولار)، يعتمد هذا الاقتصاد بشكل كبير على المبيعات الزراعية، وهو ما جعل الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو حذراً في اتخاذ موقف انتقادي ضد روسيا التي يستورد منها 23 في المئة من احتياجات بلاده من الأسمدة اللازمة للزراعة، وبخاصة فول الصويا، أكبر صادرات البرازيل الزراعية الذي يدر 29 مليار دولار، وعلى الرغم من تصويت البرازيل لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في الثاني من مارس (آذار) بإدانة روسيا، فإن سفير البرازيل انتقد بشدة التطبيق العشوائي للعقوبات.

نبذ روسيا سيفشل

أما الحكومات الموالية لموسكو مثل بيلاروس وسوريا، فلها أسبابها الخاصة لدعم الحرب الروسية في أوكرانيا، بما في ذلك اعتمادها الاقتصادي والعسكري شبه الكامل على موسكو، لكن دولاً أخرى تجنبت إدانة روسيا علانية لسبب مختلف، وهو اعتقادها بضرورة التركيز على تسوية تفاوضية في أوكرانيا، وليس استخدام الحرب كفرصة لعزل روسيا، ناهيك بإضعافها.

ويضمن هذا الاختلاف في وجهات النظر، فشل جهود الولايات المتحدة لإبعاد روسيا ووضعها في مرتبة الدولة المنبوذة، وفقاً لما يقول دانيال ديبتريس، المحلل السياسي في مركز أولويات الدفاع، وراجان مينون الباحث في معهد "سالتزمان" لدراسات الحرب والسلام بجامعة كولومبيا، ليس لأن عديداً من الدول تدعم الهجوم الروسي على أوكرانيا، ولكن لأنها تريد حماية الفوائد الخاصة التي تجنيها من علاقتها مع موسكو، ولاعتقادها أن إدانة روسيا ومحاصرتها علناً، لن يفعل شيئاً لإنهاء الحرب في أوكرانيا.

رفض النفاق

وعلاوة على ذلك، رفضت الدول المحورية في الجنوب العالمي الالتزام بخط واشنطن لسبب آخر، وهو التخوف والاستياء من استخدام الولايات المتحدة نفوذها الاقتصادي وهيمنة الدولار لفرض عقوبات على البلدان بوتيرة متزايدة، بخاصة أن بعض هذه الدول خضعت لنوع من هذه العقوبات بما في ذلك الهند وباكستان بعد تجاربهما النووية عام 1998، وتركيا بعد شرائها نظام الدفاع الصاروخي الروسي "إس-400".

وبالنسبة لكثير من بلدان الجنوب، يعتبر هذا الجدل نفاقاً بالنظر إلى تاريخ واشنطن في التخلي عن هذه المبادئ نفسها عندما يكون ذلك مناسباً لمصالحها، فقد تدخل حلف "الناتو" في كوسوفو عام 1999، من دون قرار صادر من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، كما كانت حرب العراق عام 2003 حرباً لتغيير النظام شنتها الولايات المتحدة وبريطانيا بادعاء كاذب، وهو أن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين كان يطور أسلحة دمار شامل، كما أن التدخل العسكري الغربي في ليبيا عام 2011، والذي تجاوز بنود قرار مجلس الأمن الدولي، تحول إلى حرب لتغيير النظام ضد الرئيس الليبي معمر القذافي، وخلف وراءه فوضى سياسية وأسهم في تصاعد الإرهاب عبر شمال أفريقيا.

استراتيجية خاسرة

ولهذه الأسباب، فإن سياسة الانحياز إلى جانب طرف خلال مواجهة بين روسيا والغرب تعد استراتيجية خاسرة تفوق تكاليفها الفوائد بشكل كبير بالنسبة لدول الجنوب، إذ لا يمكن للولايات المتحدة أن تتوقع منها التضحية بمصالح مهمة، للدفاع عن الأعراف العالمية التي تنحيها جانباً واشنطن نفسها عندما ترى ذلك مناسباً، لذا، فإن تصوير البلدان التي لم تحذ حذو الغرب تجاه روسيا كمتعاطفة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يخطئ كثيراً.

ويعتقد كثيرون من المراقبين أن مواقف غالبية الدول لن تتغير وفقاً لنتيجة الحرب في أوكرانيا، والدليل على ذلك ظهر أخيراً بوضوح، فعلى الرغم من رغبة الولايات المتحدة في استخدام لغة صارمة تدين الهجوم الروسي على أوكرانيا في قمة الولايات المتحدة ورابطة دول جنوب شرقي آسيا التي عقدت قبل أسابيع قليلة في واشنطن العاصمة، لم يتضمن البيان المشترك الختامي سوى دعوة هادئة لإنهاء القتال، وتقديم المساعدة الإنسانية لأوكرانيا، والتمسك بمبادئ السيادة والاستقلال السياسي وسلامة الأراضي، بينما لم يتم ذكر روسيا مطلقاً أو تحميلها المسؤولية، كما لم يكن أداء الولايات المتحدة أفضل في الاجتماع الذي ضم 21 دولة في منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادي "أبيك" الذي أعقب ذلك في بانكوك.

حسابات صينية مختلفة

غير أن التوقعات الخاصة بمدى اصطفاف الصين مع روسيا في المستقبل تبدو أمراً مختلفاً بالنظر إلى عديد من الاعتبارات التي تحكم علاقة الصين بروسيا من جانب، ومصالح الصين مع الغرب من جانب آخر، ورؤية كل من بكين وموسكو للنظام العالمي، إذ تستثمر بكين في نظام دولي مستقر يجعلها حريصة على العلاقات مع الغرب، بينما تسعى في الوقت نفسه للحفاظ على الشراكة الاستراتيجية الصينية - الروسية، الأمر الذي يجعل الإبقاء على التوازن الذي تقوم به بكين أكثر صعوبة مع استمرار الحرب وفقاً لما يشير إليه الباحث بوبو لو في معهد "لوي" للدراسات.

وعلى الرغم من إعلان الرئيس الصيني شي جينبينغ والرئيس الروسي فلاديمير بوتين "صداقة بلا حدود" خلال قمتهما في فبراير (شباط) الماضي، فإن الهجوم الروسي على أوكرانيا والرد الصيني عليه، كشف عن قيود الشراكة الصينية - الروسية، فقد سلطت الحرب الضوء على الرؤى المتناقضة بين بكين التي تريد الحفاظ على النظام الدولي وبين موسكو التي سعت لخلق فوضى عالمية، من المنظور الغربي لها، ولهذا حاول الرئيس الصيني اتخاذ مسار محايد يحافظ على الشراكة مع روسيا التي تعد للصين أهم من أن تفشل، بينما يحمي المصالح العالمية للصين، لكن مع مرور الوقت، من المحتمل أن تتآكل قوة وأهمية هذه الشراكة بالنظر إلى مسارات التنمية المختلفة لكل من الصين وروسيا، ما سيخفض القواسم المشتركة بينهما، وتصبح العلاقة غير متكافئة ومختلة.

أهمية محورية

ومع ذلك، فقد اكتسبت الشراكة الصينية - الروسية في البداية أهمية محورية، فقد اعتبرها البعض عاملاً مهماً من شأنه تغيير قواعد اللعبة وتحديد مستقبل النظام العالمي، لكن الهجوم الروسي على أوكرانيا وضعها في اختبار أساسي للعلاقة، وعلى الرغم من صعوبة التكهن بنوايا كل من البلدين على المدى الطويل، فإن بعض الأنماط تتشكل الآن وتؤسس لبعض الاستنتاجات، فمن ناحية، أتاحت شراكة "الصداقة بلا حدود" مساحة غامضة، ولكنها مرنة وكبيرة بما يكفي لتصور مدى واسع من العلاقة الثنائية، بخاصة أنه لا توجد مجالات محظورة للتعاون بين الصين وروسيا.

وبلغت التجارة الثنائية عام 2021 أعلى مستوى لها على الإطلاق (147 مليار دولار أميركي)، وتوسعت العلاقات العسكرية بينهما بشكل كبير منذ عام 2014، بينما نما التعاون التكنولوجي أيضاً، الأمر الذي يعكسه دخول شركة "هواوي" الصينية العملاقة إلى سوق الجيل الخامس من شبكات الاتصال في روسيا.

نقاط القوة والضعف

وعلى عكس التحليل السائد في الغرب، فإن الشراكة الصينية - الروسية ليست مدفوعة أساساً بالعداء الأيديولوجي تجاه الولايات المتحدة والغرب، وإنما هي علاقة قوى عظمى كلاسيكية مدفوعة بالمصالح المشتركة وليس القيم المشتركة، بخاصة أن هناك عديداً من الأسباب التي تجعل بكين وموسكو تقدر شراكتهما، منها الشعور بالراحة السياسية، وبناء الثقة الأمنية (تشتركان في حدود بطول 4300 كيلومتر)، والتكامل الاقتصادي، ووجهات نظر مماثلة حول مجموعة من القضايا الدولية، بما في ذلك معارضة مشتركة للهيمنة الأميركية على العالم، ومع ذلك، سيكون من الخطأ رؤية هذه القواسم المشترك على أنها الصمغ الذي يربط العلاقة بينهما.

ويستند ذلك إلى أن الشراكة الصينية - الروسية مرنة، وهي متعددة الأوجه والاستخدامات حتى عند النظر إليها من منظور جيوسياسي ضيق، فقد عزز الارتباط الوثيق مع الصين مكانة روسيا العالمية، في حين تتمتع بكين بقوة دولية، لا تعارض سعي بكين لتحقيق المصالح الاستراتيجية الصينية في المحيطين الهندي والهادي، وفي منطقة أوراسيا والقطب الشمالي، بل، وعلى المستوى العالمي.

ومع ذلك، لا تتقاسم بكين وموسكو رؤية مشتركة للعالم، فبينما يعارض كلاهما النظام الدولي القائم على القواعد الذي يتمحور حول القيادة العالمية للولايات المتحدة والقيم الليبرالية الغربية، فإن الصين تستثمر في هذا النظام العالمي، وقد تحدث الرئيس الصيني عن تولي بلاده دوراً قيادياً عالمياً، ويسعى إلى تحقيق هذا الطموح من خلال العمل داخل النظام الدولي، وهو ما يشير إليه النمو المطرد لمشاركة الصين في هيئات الأمم المتحدة كلاعب داخلي يهدف إلى تحقيق أقصى استفادة، بما تجعل الصين قوة تعديلية للنظام، لكنها ليست قوة ثورية ترغب في هدم النظام الدولي.

في المقابل، فإن الهدف الشامل لروسيا ليس إصلاح أو تطوير النظام القائم، وإنما قلبه بالكامل كما يقول الباحث بوبو لو، إذ تتغذى موسكو على عدم الاستقرار، وكلما كانت البيئة الخارجية أكثر مرونة وغموضاً، زاد المجال أمام روسيا لترك بصماتها من خلال الأساليب المباشرة وليس عبر المؤسسات الدولية، ولهذا لجأ بوتين إلى القوة العسكرية في جورجيا وسوريا وأوكرانيا، وبشكل أكثر سرية في العراق وليبيا ومالي وجمهورية أفريقيا الوسطى، حيث يعتبر الكرملين قدرة روسيا وإرادتها على شن الحرب، ميزة نسبية لا يمتلكها آخرون، باستثناء الولايات المتحدة، وهكذا، فإن أي نظام دولي مستقر سواء أكان بقيادة الولايات المتحدة، أو بقيادة صينية أميركية في نظام ثنائي عالمي، أو متعدد الأطراف قائم على القواعد، ستكون فيه روسيا بمثابة معول هدم لهذا النظام.

ويوضح هذا سبب إشكالية تنسيق السياسة الخارجية للصين وروسيا، ففي حين تقدم كل منهما الدعم المعنوي والسياسي للآخر عندما تتماشى مصالحها، إلا أنهما لاعبتان مستقلتان استراتيجياً، وتأثيرهما على سلوك بعضهما البعض محدود وغير مباشر في أحسن الأحوال، لأن السياسة الخارجية بالنسبة لكليهما هي شأن سيادي، وهذا هو السبب الرئيس وراء قلة الاهتمام في بكين، بتحويل الشراكة إلى تحالف سياسي عسكري أكثر رسمية وإلزاماً.

سيناريوهات العلاقة المستقبلية

وفي ظل هذه الصورة، ستتشكل الشراكة الصينية - الروسية من خلال نتائج الحرب في أوكرانيا، ونظراً إلى أن هذه الأمور غير مؤكدة، هناك أربعة سيناريوهات يمكن تصور المواقف الصينية بشأنها على المدى القصير إلى المتوسط الذي يتراوح من سنتين إلى خمس سنوات.

خسارة روسيا

وعلى الرغم من أن هذا السيناريو غير ظاهر على أرض الواقع حتى الآن، فإن هناك عديداً من السيناريوهات الفرعية التي قد يحكم على بوتين أنه خسرها، بدءاً من التراجع الكامل للقوات الروسية، وانتهاءً بالتوصل إلى حل وسط غير مرض للطرفين يترك شبه جزيرة القرم داخل الاتحاد الروسي، لكنه يعيد المناطق المحتلة سابقاً من دونباس إلى كييف، ومع ذلك، فإن السمة المميزة للهزيمة ستكون عبارة عن تصور عام، بما في ذلك في موسكو وبكين، بأن الهجوم فشل في تحقيق أهدافه الرئيسة، وأن مكانة روسيا في العالم أصبحت ضعيفة نتيجة لذلك.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي هذا السيناريو، يمكن أن تتطور الشراكة الصينية الروسية بطرق عدة، فقد تستفيد بكين من تضرر بوتين، فتسعى إلى الضغط من أجل الحصول على امتيازات اقتصادية، مثل زيادة واردات النفط والغاز والسلع الأخرى بأسعار متدنية، وقد تطالب بمزيد من الدعم الملموس للأهداف الصينية في منطقة المحيطين الهندي والهادي، مثل الموقف المؤيد لبكين بشكل علني في شأن إقليم بحر الصين الجنوبي والتوسع في نقل التكنولوجيا العسكرية المتطورة.

وسيعتمد كثير على كيفية تكيف روسيا مع الهزيمة، سواء في وجود بوتين أو من دونه، فقد تكون إحدى النتائج المباشرة للحرب هي زيادة الاعتماد على التجارة والاستثمار والمساعدات الاقتصادية الصينية، ولكن هناك أيضاً عوامل نفسية يجب مراعاتها، فكما أظهر سجل ما بعد الحرب الباردة، فإن روسيا التي تشعر بالإهانة هي روسيا المستاءة، والمصممة على تصحيح التاريخ حينما يكون هناك إجماع وطني أوسع على أن روسيا قوة عظمى بالفطرة، إذ من غير المرجح أن تؤدي الهزيمة في أوكرانيا إلى تآكل مثل هذه المعتقدات أو تؤدي إلى قبول مكانة مخفضة لروسيا في العالم، ومثلما ردت روسيا على الغرب في العقود الأخيرة، فإنها ستقاوم أن تكون الصين هي الراعي لروسيا.

حتى الآن، تدرك بكين حساسيات موسكو في شأن عدم المساواة وسوف تتطلع إلى إبقاء موسكو في الصدارة، لكن في المستقبل ستكون الشراكة الاستراتيجية أقل مركزية بالنسبة للسياسة الخارجية الصينية عن ذي قبل، لكنها تظل مهمة، وبخاصة إذا تغير النظام في الكرملين، لأن ذلك من شأنه أن يشجع الولايات المتحدة، ويعزز مصداقية المعايير والمؤسسات الليبرالية، وينزع الشرعية عن الحكم الأوتوقراطي في كل مكان، ويضعف موقع الصين الجيوسياسي، ويزعزع استقرار جيرانها.

التعادل أو الجمود مع كييف

قد تكون التسوية أو الجمود في الصراع بمثابة "تعادل"، فقد تتمسك روسيا بشبه جزيرة القرم وتوسع سيطرتها على نهر دونباس، وهو ما نشاهده الآن على الأرض، لكنها لا تحقق مكاسب إقليمية أخرى، وفي هذه الحالة، ستحتفظ أوكرانيا بإمكانية الوصول إلى البحر الأسود، وتعزز سيادتها الوطنية، وتتقدم أكثر نحو أوروبا. ومن شأن هذا السيناريو العودة إلى الصراع "المجمد" في الفترة 2015 – 2021، حيث يكون هناك قتال متقطع وعملية سياسية اسمية، ولكنها غير فعالة على غرار اتفاقية "مينسك-2"، وستظل القضايا العالقة مثل الانتخابات في الإقليم والحكم الذاتي في دونباس من دون حل، وستكون احتمالية تجدد القتال كبيرة، إذ من شبه المؤكد أن الرئيس بوتين سيتطلع إلى تغيير الحقائق على الأرض في أول فرصة.

بالنسبة لبكين، سيكون سيناريو التعادل غير مرض، لكنه مقبول، إذ سينتهي أسوأ قتال، على الأقل لفترة من الوقت، لذلك يمكن للنظام الدولي أن يعود إلى استقرار نسبي، ويحتفظ بوتين ببعض ماء الوجه ويعزز قبضته على السلطة، لكنه سيعتمد أكثر من أي وقت مضى على بكين، ومن شأن المواجهة المطولة بين روسيا والغرب أن تضمن تركيز الأوروبيين في المقام الأول على الشؤون الأوروبية بدلاً من دعمهم الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادي.

ومع ذلك، ستنظر بكين إلى التعادل بشكل كبير مثل هزيمة روسيا، بالنظر إلى الخسائر القتالية التي تكبدتها موسكو والأضرار التي لحقت بسمعتها العسكرية والسياسية، في حين أن الولايات المتحدة ستكون حرة مرة أخرى في متابعة هدفها الأساس المتمثل في احتواء الصين ومواجهتها.

وبافتراض استمرار السلام النسبي، بعض الوقت، فإن الشراكة الصينية - الروسية ستستمر في مسارها الحالي، ويتوقع أن يكون هناك تعاون عسكري أوثق، وستتوسع العلاقات الاقتصادية، لا سيما في قطاع الطاقة، إذ سيؤدي تراجع الطلب الأوروبي على النفط والغاز الروسي إلى إجبار موسكو على الاعتماد على الأسواق الآسيوية، والصين قبل كل شيء.

روسيا تنتصر

ويمكن أن يتحقق أكبر تغيير في قواعد اللعبة بالنسبة للشراكة الصينية - الروسية إذا نجح الهجوم الروسي في تحقيق كل أو معظم أهدافه الحالية، وهي ضم منطقة دونباس بأكملها والاستيلاء على ميناء أوديسا ومنع وصول أوكرانيا إلى البحر الأسود، وإذا  تمكن بوتين من استغلال هذه النجاحات لإجبار كييف على التوصل إلى سلام مهين، فإن انتصار الكرملين سيكون شبه كامل، إذ ستبقى أوكرانيا مستقلة ومحايدة رسمياً، لكنها لن تكون ذات سيادة بالمعنى الصحيح، وسيتم إملاء السياسة الخارجية والأمنية الأوكرانية من موسكو.

في هذا السيناريو، ستكون بكين سعيدة بالنتائج، إذ تتلاشى الذكريات السيئة للنكسات الروسية المبكرة، لتحل محلها حقائق أكثر ملائمة، أهمها إذلال الغرب، وتشويه سمعة القيادة الأميركية والتحالفات الغربية، وزوال النظام الليبرالي، لأن هزيمة أوكرانيا ستكون علامة فارقة في تحول القوة العالمية من الولايات المتحدة إلى الصين.

وسيعمل ذلك على تعزيز التقارب الصيني الروسي أكثر، حيث تدرك بكين القيمة المعززة لروسيا كأصل جيوسياسي في أوراسيا ومنطقة المحيطين الهندي والهادي، لكن، على الرغم من أن الكرملين سيتطلع إلى تخفيف اعتماد روسيا على الصين من خلال توسيع العلاقات مع لاعبين رئيسين آخرين غير غربيين، مثل الهند، مع إعادة بناء العلاقات مع دول أوروبية مختارة، فإنه من الناحية العملية، سيكون من الصعب التخفيف من اعتماد روسيا على الصين، بخاصة مع عدم وجود نهاية تلوح في الأفق للعقوبات الغربية، وصعوبة إصلاح العلاقات مع أوروبا، بالتالي، تظل الصين لا غنى عنها لروسيا في ظل أي سيناريو تقريباً.

لكن، يظل السؤال هو ما إذا كانت الصين وروسيا ستبنيان علاقة خاصة جديدة، تتضمن التنسيق النشط لسياساتهما الخارجية، والتشاور الاستراتيجي الوثيق، والتشغيل البيني العسكري، والتكامل الاقتصادي، وإذا حصلت هذه الشراكة التي تفضلها الصين، فإن روسيا ستحتفظ بالثقل الجيوسياسي.

وفي حين أن فوز بوتين الكامل في أوكرانيا يبدو بعيد الاحتمال، إلا أن هناك متغيرات يمكن أن تجعله ممكناً، أحد هذه الأمثلة هو فوز دونالد ترمب أو مرشح ترمبي آخر في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2024، وإذا  حدث هذا في ظل استمرار دوران عجلة الحرب، فستكون هناك شكوك جدية حول عزم وتصميم واشنطن، بالتالي الغرب، على مقاومة موسكو، كما ستكون هناك أيضاً علامة استفهام كبيرة حول ما إذا كان التحالف عبر الأطلسي والتضامن الأوروبي سيظل قوياً في مواجهة الضغوط الاقتصادية المتزايدة مثل ارتفاع أسعار الوقود والغذاء وإرهاق أوكرانيا بشكل عام.

تصعيد غير منضبط

وفي وقت تستمر فيه الشراكة الصينية - الروسية بشكل ما خلال السيناريوهات الثلاثة السابقة، إذ يميل التوازن داخل العلاقة بشدة نحو بكين، وستحدد الصين مستوى ووتيرة المشاركة الثنائية، فإن التساؤل عن السيناريو الذي يمكن أن تنهار فيه الشراكة بين موسكو والصين، يظل ماثلاً، بخاصة في السيناريو الرابع، وهو التصعيد غير المنضبط من جانب بوتين باستخدام أسلحة كيماوية وبيولوجية أو ضربة نووية تكتيكية ضد أهداف أوكرانية، أو إذا امتد الصراع إلى ما وراء حدود أوكرانيا ليصبح حرباً أكثر شمولاً بين روسيا وحلف "الناتو"، فهل ستكون تلك نقطة تحول في العلاقات الصينية الروسية، أم إنها ستقاوم تحت كل الظروف؟

هناك بالطبع مستويات وأنواع مختلفة من التصعيد، إذا استخدم بوتين أسلحة كيماوية أو بيولوجية ضد أهداف أوكرانية، فمن المحتمل أن يكون التأثير على الشراكة الصينية - الروسية ضئيلاً، فنظراً إلى عدم اكتراث الحكومة الصينية باتهام روسيا بجرائم حرب ضد السكان المدنيين الأوكرانيين، ليس هناك سبب كافٍ لافتراض أنها ستغضب بشكل خاص من استخدام موسكو الأسلحة الكيماوية أو البيولوجية، وعلى الأرجح، ستستمر في إلقاء المسؤولية على الولايات المتحدة لإذكاء الصراع، بينما تدعو إلى الحوار والحل الدبلوماسي.

وحتى مع استخدام الضربة النووية التي ستشكل تصعيداً جذرياً، فمن المشكوك فيه أن تتدخل بكين، كما أنها لن تتخلى عن موسكو، فعلى مدى العقود الثلاثة الماضية، اعتادت الصين وروسيا على الشراكة لدرجة أنهما تجدان أنه من المستحيل تقريباً التفكير في الانفصال، حتى في ظل أسوأ الظروف.

المزيد من تحلیل