Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

غي دي موباسان في تجوال تونسي كان منسيا إلى سنوات قليلة

معجزة الفن تحقق لقاءً بين الكاتب والمصور لم يحدث خلال حياتهما

غي دي موباسان (غيتي)

يعرف الكاتب الفرنسي غي دي موباسان عادة بأنه واحد من كبار كتاب القصة القصيرة في بلده خلال القرن التاسع عشر، بل يكاد يكون الأشهر بين كتاب القصة القصيرة لدى القراء والمثقفين العرب لكونه قد ترجم إلى العربية باكراً، وتأثر به وبواقعيته كثر من كتاب لغة الضاد. وإلى هذا عرف دي موباسان خصوصاً بقصته متوسطة الطول "بول دي سويف" التي اقتبست للسينما مرات عديدة، منها ذلك الاقتباس الشهير الذي حققه السوفياتي ميخائيل روم. كما أن لدى موباسان روايات طويلة قد لا يقل معظمها شهرة عن قصصه القصيرة، ومنها طبعاً "بيل آمي" التي نقلت إلى الشاشة الكبيرة مرات عديدة. غير أن ما هو معروف أقل من ذلك كله من بين أعمال هذا الكاتب الذي تتلمذ بشكل أو بآخر، على غوستاف فلوبير صاحب "مدام بوفاري" الذي كان صديقاً لعمه، هو أنه قد خاض بدوره في أدب الرحلات وإن لم يكن بكثافة تضاهي كثافة ما أنتجه فلوبير في هذا المجال. ومن هنا كان مفاجئاً أن يعود إلى الظهور في فرنسا قبل عقود من الآن وبعد أكثر من نصف قرن على رحيل الكاتب، مؤلف له عنوانه "حياة التجوال". وكان من المفاجئ أكثر أن يضم الكتاب نصوصاً كان دي موباسان قد نشرها أصلاً في عام 1890 حول جولات قام بها خلال فترات متعاقبة في مناطق الشمال الأفريقي متنقلاً بين تونس والمغرب والجزائر.

نصوص مصورة من تونس

أما الجديد في هذا كله فكتاب فخم صدر لاحقاً في باريس (تحديداً في عام 2011) بعنوان "تجوال تونسي". ولعل أهمية هذا الكتاب تكمن إلى حد ما خارج نصه الأدبي الذي كان معروفاً. فالكتاب في شكله الجديد أتى مزدوج التوقيع، حيث إن الباحثة الفرنسية ماري – إيزابيل ميرل دي ليل، اشتغلت عليه، منطلقة من بحث مقارن بين النصوص التي كتبها دي موباسان عن رحلته إلى تونس قبل عام 1890، والصور الفوتوغرافية العديدة والرائعة التي التقطها مصور فرنسي في فترة لاحقة على زيارة دي موباسان أي بعده بنحو ربع قرن، لكنه صور مشاهد في الأماكن نفسها التي زارها دي موباسان وحول مواضيع تكاد تكون مواضيع الكاتب نفسها، بحيث يخيل للقارئ المتفرس أن الرجلين قاما بالرحلة معاً فوصف أولهما ما شاهد، فيما صور الثاني مشاهدات الأول، ومع ذلك فإن هذين المبدعين لم يلتقيا أبداً إلا بين دفتي هذا الكتاب.

معجزة الإبداع

وكان فارق السن بينهما على أية حال كبيراً، بحيث إن المصور غوستاف غين كان فتى في الثانية عشرة حين كتب دي موباسان نصه، وكانت سنه لا تزيد على الثامنة عشرة حين رحل الكاتب عن عالمنا شاباً في الثالثة والأربعين من جراء اضطرابات عصبية حادة أصابته. ومع ذلك جمعتهما معجزة الإبداع في عمل واحد، بل قد يصح أن نقول إن تونس وهوى "الشرق" قد جمعهما ليبدو "كتابهما المشترك" عملاً أخاذاً مليئاً بالحيوية، حتى وإن كان قد غاص في واقعية تبعده تماماً عن "غرائبية الاستشراق" و"أكاذيبه" المعهودة. فنحن هنا في نهاية الأمر أمام عمل صحافي ينظر إلى الأمور ويعبر عنها كما يراها تماماً. والحال أن هذا لم يكن غريباً بالنسبة إلى دي موباسان، الذي دائماً ما اتسمت نصوصه بواقعية ربما تكون هي ما مهد لطبيعية إميل زولا الواقعية، من دون أن ننسى أنه كان قد اعتاد الكتابة للصحافة بين الحين والآخر، إلى درجة أنه استقى من نشاطاته وممارساته الصحافية العديد من قصصه، من دون أن ننسى أن روايته الطويلة الكبرى "بيل آمي" تدور في أجواء الصحافة الفرنسية وصراعاتها أواسط القرن التاسع عشر. وهو على أية حال إنما توجه إلى الشمال الأفريقي أول الأمر في عام 1881 قاصداً الجزائر في مهمة صحافية إثر اندلاع ما سمي حينها بـ"تمرد أبي عمامة"، الذي كان من زعماء قبائل ولد سيدي الشيخ في جنوب وهران، مكلفاً من صحيفة "لو غولوا" التي بعث إليها 11 رسالة صحافية خلال شهر واحد، وصف فيها تلك الأحداث والمناطق التي زارها كما أورد تحليلات بالغة الدقة والأهمية للأوضاع الكولونيالية في تلك المناطق. ولسوف يعتبر دي موباسان زيارته الأولى تلك، بدء اكتشافه الحقيقي لمناطق الشمال الأفريقي ولأفريقيا عموماً، حيث نظر نظرة إعجاب إلى حرارة الطقس وحرارة الضوء وحرارة البشر كما سيكتب. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الكاتب قد جمع تلك الرسائل في كتاب أحدث فيه تعديلات وإضافات أصدره عام 1884 تحت عنوان "نحو الشمس".

تأملات في عالم الإسلام

بعد ذلك بسنوات قليلة ستكون لدي موباسان رحلتان متتاليتان عامي 1887 و1888 إلى الشمال الأفريقي أيضاً ولكن في شقيه الآخرين، المغرب وتونس وقد بات الآن كاتباً معروفاً ومعترفاً به يستقبل بالترحاب. وهو قام بهاتين الرحلتين هرباً من البرودة والرطوبة في موطنه الباريسي كما سيقول. وسيصل إلى الجزائر العاصمة أولاً هذه المرة بعد أن مر بسراغوسا في صقلية، ومن ثم ينطلق منها شرقاً وغرباً. في هاتين الزيارتين لم يكن دي موباسان مكلفاً من أحد ولم يكن عليه أن يكتب أية مقالات صحافية. صحيح أنه كتب وكتب كثيراً وبشكل يومي على الأرجح لكنه كان يكتب لنفسه ويدون مشاهداته ورصده لحياة البشر ولكل ما يلفت نظره من مشاهد وأحداث، لكنه كان يرصد ويتأمل ويفكر فقط أول الأمر، ولعل أفكاره الأساسية راحت تنصب على الجمال الذي رصده في الصروح التي تعبر، كما رأى بحسب ما تفيدنا محررة كتاب "تجوال تونسي" عن نقاء عالم الإسلام، حيث كان يكفيه لذلك أن يتأمل في "مسجد مدينة الجزائر الأبيض" ثم لاحقاً في مسجد القيروان ومركزها العلمي. واللافت أن المقارنة القلمية التي أقامها بين الصرحين مكنته من أن يكتب نصوصاً بالغة الجمال والدقة لعالم الإسلام.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كتب لاحقة

مهما يكن فإن دي موباسان لن يفوته أن يجمع كتاباته تلك لاحقاً وبعد أن أرسل معظمها لتنشر، من دون أي التزام مسبق، حيناً في "لو غولوا" وحيناً في "مجلة العالمين" التي لا تزال تصدر حتى اليوم، قبل أن يعود الناشر أولندورف ويجمعها في كتاب سيصدر عام 1890 تحت عنوان "حياة التجوال" كما أشرنا. أما الكتاب الصادر حديثاً الذي يختص بالجولة التونسية فإنه، في الحقيقة يتألف من الفصول الثلاثة الأخيرة في "حياة التجوال"، وقد أضيفت إليها منجزات المصور غوستاف غين الفوتوغرافية التي تتطابق إلى حد كبير مع نصوص دي موباسان من دون أن يبدو أنه كان مطلعاً عليها من قبل، أو أنه كان أصلاً يهدف إلى مدها بصور مناسبة. فهذا التطابق إنما كان من اكتشاف صاحبة البحث كما نوهنا أعلاه.

منجزات هاوي تصوير

فالحال أن غوستاف غين (1875 – 1945) هذا كان مجرد باحث في متحف التاريخ الطبيعي في باريس وهاوي تصوير، بعثت به إدارة المتحف في عام 1909 في مهمة علمية إلى مناطق مناجم الفوسفات في تونس. وهو خلال قيامه بمهمته راح يتجول بكاميرته في المناطق الشعبية في تونس العاصمة وما يجاورها وصولاً إلى منطقة قفصة، حيث انكب على التقاط مئات الصور التي أراد منها أن تسهم في تكوين مجموعات خاصة به كنوع من التذكار للرحلات التي قام بها هناك. ولسوف تكون مفاجأة محررة الكتاب التي اختارت بنفسها نصوص دي موباسان التي كونت متن الكتاب، كبيرة حين وجدت التطابق في المناخ تاماً بين عمل الكاتب وعمل المصور. ومن هذا التفاجؤ ولد هذا الكتاب الذي تصفه الباحثة نفسها بأنه عبارة عن "تجوال شاعري مشترك بين شابين أتيا أصلاً من منطقة فرنسية واحدة هي منطقة النورماندي، ليكتشفا كلٌّ بأدواته وعلى طريقته ذلك البلد -تونس- المنير دائماً بحرارة أهله وشمسه والمرحب دوماً بالضيوف، ولا سيما حين يبدون له من الود ما يجعلهم وكأنهم من أهله".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة