Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الذكرى 28 للإبادة في رواندا... هل تكون المصالحة عنوان الاستقرار؟

سمح نظام قضائي تقليدي يُعرف باسم "غاكاكا" بتحقيق التسامح بين الناس واستئناف العيش المشترك

فر جنود روانديون على متن دبابة مزودة بمدفع 90 ميليمتراً أمام تقدم قوات "الجبهة الوطنية الرواندية" مع المدنيين في 17 يوليو 1994 (رويترز)

في متحف ونصب جيسوزي التذكاري الذي يقع في طرف العاصمة كيغالي، وُثِّقت كل التفاصيل المتعلقة بالمأساة الرواندية، فالعيون البارزة من صور ضحايا الإبادة الجماعية من إثنية التوتسي تقول كل شيء، وفي مطالعتها للزائرين محاولة إثبات حقيقة الإبادة الطافرة من الوجوه. منها صور لرجال ونساء وأطفال، بعضهم بزيهم الكامل، ومنها لآخرين يبدون فيها أقرب إلى المشردين، ربما تحكي تدهور وضعهم قبل القضاء عليهم نهائياً.
في هذا المكان حيث يرقد أكثر من 250 ألف شخص، أحيت الدولة الناهضة تنموياً، في أبريل (نيسان) الماضي، الذكرى 28 لضحايا المذبحة. أما النصوص الشارحة فتكاد تقفز متأثرة بنبرات اضطهاد وإساءات تمتحن قدرة الرائي على تقدير حجم المعاناة التي يعبر عنها هؤلاء.
قد يصبح الصراع في المجتمعات الإنسانية التي تضم خليطاً من الإثنيات والطوائف والمكونات القبلية، قاسياً وعنيفاً ومتطرفاً إلى الحد الذي يصبح فيه تدمير الآخر هو الهدف. وانطلاقاً من هذه القناعة وصلت الإبادة في هذه المستعمرة الألمانية ثم البلجيكية السابقة والتي نالت استقلالها في الأول من يوليو (تموز) 1962 بعد انفصالها عن بوروندي، إلى شكل متطرف من التطهير العرقي. ففي بحر 100 يوم، ضجت تلك الدولة بالموت ابتداءً من 7 أبريل وحتى منتصف يوليو 1994، وانتشرت رائحته إلى منطقة البحيرات العظمى الأفريقية التي تشمل إضافة إلى رواندا، كينيا وأوغندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وبوروندي وتنزانيا.
حوّلت الإبادة الجماعية في رواندا التي قضت على حوالى 800 ألف مواطن، تفكير الدولة الجمعي في ما بعد بشأن أهمية التصالح ليسهم في محو الفاصل بين الضحايا والمعتدين، كما غيرت الخريطة الاجتماعية لأقلية التوتسي، التي تحاول معالجة الآثار السلبية، إذ إن عدداً كبيراً منهم فقدوا أرواحهم ومساكنهم وتعرض الناجون لشتى أنواع العذاب، ما كان يتطلب جهوداً كبيرة محلية ودولية مساندة نفسياً ومعنوياً ومادياً ليجتازوا آثارها، وبث الاطمئنان في قلوبهم لتشجيعهم على العودة إلى مناطقهم بعد ضمانات بتوفير الحماية والأمان.

شرارة الإبادة

أسهم المستعمر البلجيكي المؤيد للهوتو في صوغ فرضية أن إثنية التوتسي ليسوا من أصول أفريقية، ونقلت إثنية الهوتو هذه الفكرة إلى الواقع، وتعاملت على أساسها إلى أن تصاعدت التوترات بين الإثنيتين وتمثلت في الثورة الرواندية في عام 1959. وجهت "حركة تحرير الهوتو" غضبها إلى التوتسي الذين طالبوا بالاستقلال المبكر، وقتلت عدداً كبيراً منهم وفر الباقون. بعد إلغاء النظام الملكي في عام 1961، انفصلت رواندا عن بوروندي وحصلت على استقلالها في 1 يوليو 1962. لم تخمد حركات العنف، واستمرت حتى 5 يوليو 1973، إذ تولى جوفينال هابياريمانا، المتحدر من الهوتو، السلطة بتنفيذ انقلاب عسكري ضد الرئيس غريغوار كايباندا الذي توفي في السجن عام 1976.
وبعد 10 سنوات من توقيع اتفاقية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة، واتفاقية منع إبادة الأجناس ومعاقبة ذلك، لعام 1984، والمبنية على العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لعام 1966، وقعت الإبادة الإثنية للتوتسي في رواندا في عام 1994. وفي بداية هذا العقد، كانت مجموعة متمردة من النازحين التوتسي شمال البلاد قد تحركت بقيادة "الجبهة الوطنية الرواندية" احتجاجاً على سيطرة الهوتو على الحكم ومنع الرئيس هابياريمانا الأحزاب السياسية من ممارسة نشاطها، وفشله في التحول إلى الديمقراطية، وقصور حكومته عن حل قضية التوتسي. وبعد توقيعه اتفاقاً مع "الجبهة الوطنية المعارضة" في أروشا في عام 1993، تم وقف إطلاق النار. وفي 6 أبريل 1994، أُسقِطت طائرة الرئيس هابياريمانا بالقرب من مطار كيغالي، ما أدى إلى مقتله، وانطلقت شرارة الإبادة الجماعية لتشمل التوتسي والهوتو المعتدلين سياسياً.


من المحاكمة إلى المصالحة

لقد كانت الفكرة الأولية السائدة لدى بعض المكونات الإثنية أن المصالحة والحراك الكبير وما أحدثته بين بعض العناصر، جاءت لتعمل على إحداث اختراق تتغير بموجبه التركيبة الإثنية، بمعنى أنها مَن خطط لها مسبقاً وتُدار من طرف خفي، ولكن مع الأيام ثبت أنها تأتي من منطلق كمية الآلام التي صاحبت تلك المجازر بدافع القلق والمخاوف من أن تعود مرة أخرى، خصوصاً وأن هناك حركات تغذيها بعض دول الجوار.
بناءً على اتفاقية إبادة الجنس البشري وأحكام القرصنة واتفاقية لاهاي لعام 1907 التي أعطت الحق لأفراد الدول المحايدة أو المحارِبة أن تتقاضى أمامها، ونصوص نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998. ومع تطور القانون الدولي وظهور القانون الدولي والإنساني والجنائي، ونتيجة للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان من ارتكاب جرائم إبادة ضد الإنسانية وجرائم حرب، كان لا بد من الاحتكام إلى القانون والمحاسبة لضمان عدم إفلات مرتكبي الجرائم من العقاب. ففي عام 2013، قضت محكمة سويدية بسجن ستانيسلاس إمبانيناند، الذي يحمل الجنسية السويدية، مدى الحياة لإدانته بالضلوع في الإبادة العرقية ضد قبائل التوتسي برواندا وقيامه بدور رئيس بين المتشددين الهوتو. وأخيراً، في عام 2021، بدأ القضاء الفرنسي بمحاكمة السائق السابق كلود موهايمانا بتهمة نقل مقاتلين إلى الأماكن التي ارتُكبت فيها المجازر الرواندية، لمشاركته المباشرة في عمليات القتل ودوره القيادي الفاعل فيها.
ولكن في الداخل الرواندي ران الصمت على صدى المحاكمات الدولية واختارت الدولة تغيير الوضع بناء على المصالحة بين أبناء الشعب، واعتماد الحكومة سياسة الاتحاد والمصالحة، المستنِدة إلى نظام قضائي تقليدي يُعرف باسم "غاكاكا"، أمكن بموجبه التعامل مع مئات آلاف المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية، وتحقيق التسامح بين الناس واستئناف العيش المُشترك.

توترات إقليمية

على الرغم من مرور 28 سنة وصولاً إلى المصالحة الداخلية، فإن شبح الإبادة الجماعية لا يزال يحوم في أجواء "منطقة البحيرات العظمى"، فبعد تجاوز انحصاره القديم في إثنيتَي الهوتو والتوتسي، يبدو أنه في طريقه لكي يلتحم بديناميات أخرى متفاعلة إذا توفرت لها الظروف الملائمة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ففي بداية العام الحالي، أعادت رواندا فتح معبر جاتونا الحدودي مع أوغندا في 31 يناير (كانون الثاني)، وكانت قد أغلقته في فبراير (شباط) 2019، ما أدى إلى قطع طريق تجاري بري مهم، وسط توترات متزايدة بين البلدين. وفي خلفية هذا المشهد، لا تزال تدور توترات مماثلة مع الكونغو مستمرة منذ عام الإبادة الجماعية، بسبب اتهام رواندا الكونغو بتوفير مأوى لإثنية الهوتو بعدما نفذت عمليات الإبادة. خرجت هذه التوترات مرة أخرى إلى السطح عندما وقع البلدان مذكرة تعاون ثنائي بهدف مكافحة الجريمة العابرة للحدود، وتحذر أصوات من أن رواندا تطمع في ضم أجزاء من شرق الكونغو.
ونتيجة لذلك يمكن أن تتعرض رواندا لتوترات إقليمية وأعمال انتقامية ضد المدنيين، نتيجة لهذا الاضطراب في أقاليم شرق الكونغو وحدوده مع أوغندا وتنقل المجموعات المسلحة بينها. وبالفعل، أثار الحساسيات لدى بعض الجماعات الكونغولية، وجود الشرطة الرواندية في جوما، عاصمة إقليم شمال كيفو في الكونغو، من أجل تعزيز التعاون لمكافحة التهريب، بحسب مذكرة تفاهم وقِّعت بين البلدين. وفي 20 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أسفرت تظاهرة ضد الجريمة ووجود الشرطة الرواندية في جوما، الذي نفته السلطات، عن مقتل عدد من الأشخاص.

طلب الصفح

على إثر تقرير أصدرته لجنة تحقيق فرنسية في مارس (آذار) 2021، قالت فيه: "إن موقفاً استعمارياً أعمى المسؤولين الفرنسيين، وإن الحكومة تتحمل مسؤولية كبرى وجسيمة لعدم توقع المذبحة"، وبينما رفع التقرير تهمة التواطؤ المباشر عن فرنسا، في قتل ما يزيد على 800 ألف من التوتسي والهوتو المعتدلين؛ زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نصب الإبادة الجماعية في كيغالي، "لتكريس المصالحة بين البلدين بعد خلاف استمر أكثر من 25 عاماً على خلفية الدور الذي لعبته فرنسا في إبادة التوتسي في عام 1994". وأعلن ماكرون في خطابه الذي ألقاه في 27 مايو (أيار) الماضي، عند النصب التذكاري للإبادة، أنه جاء إلى رواندا "للاعتراف بمسؤولياتنا في المجازر"، طالباً من الراونديين الصفح.
تبع ذلك تقرير أعده مكتب محاماة أميركي بتكليف من الحكومة الرواندية في أبريل الماضي، كادت فرنسا على إثره تتعرض لملاحقة قضائية، إذ جاء في التقرير أن "فرنسا تتحمل مسؤولية كبيرة عن الإبادة الجماعية بحق إثنية التوتسي التي جرت في رواندا عام 1994". وأكد أن "فرنسا كانت تعلم بالاستعداد لإبادة جماعية، لكنها استمرت في تقديم الدعم الراسخ لنظام الرئيس الهوتو جوفينال هابياريمانا".
كما أوردت "مجلة الدراسات الأفريقية المعاصرة"، في مقال حول "سياسة فرنسية جديدة لأفريقيا"، أن فرنسا "لجأت إلى الأطر الأوروبية الجماعية للتدخل في القارة لتقليص أعبائها المادية مع المحافظة على وجودها ونفوذها بالقارة، وكان التدخل ضمن قوات الاتحاد الأوروبي أو الأمم المتحدة، وسيلة لإضفاء الشرعية على تدخلها، بعد تجربة رواندا، التي كانت علامة فارقة في تاريخ تدخل فرنسا العسكري في القارة". وأضافت المجلة أن "فرنسا اتُهمت بمساندة حكومة الهوتو المسؤولة عن عمليات الإبادة بمدها بالمال والسلاح والتدريب في الفترة من عام 1990 وحتى عام 1994، كما تدخلت فرنسا عسكرياً لدعم الحكومة الرواندية ضد الحركة الوطنية المعارضة، ومارست ضغوطاً لمنع كشف حقيقة المذابح في وسائل الإعلام، ولمنع الدول الأفريقية من التدخل لوقفها، وأخيراً كانت فرنسا مأوىً للعديد من المسؤولين الكونغوليين الذين شاركوا في المذابح".


دمج اللاجئين

كان من الواضح أن حالة القلق تتصاعد وأن حالة من فقدان الثقة أصبحت تتسرب إلى الدول الأفريقية التي على الرغم من معاناتها التاريخية، تمتد إليها حالة الاستغلال من مخلفات الاستعمار. تولدت قناعة لدى الرئيس الرواندي بول كاغامي بأن الوسائل القديمة في المواجهة لن تجدي نفعاً، فخاض تحديات إعادة الإعمار منذ توليه السلطة في عام 2000، حتى وصل ببلاده إلى تصنيفها في المرتبة الثانية بعد موريشيوس من حيث سهولة ممارسة الأعمال التجارية في أفريقيا مِن قبل البنك الدولي، وريادتها في مجال السياحة والقدرة التنافسية الاقتصادية من مجلس السفر والسياحة العالمي والمنتدى الاقتصادي العالمي، كما حازت لقب أنظف عاصمة أفريقية.
وإن كانت فرنسا هي التي وفرت الحماية الكاملة للإبادة الجماعية في رواندا لتنمو، وهي التي فردت لها جناح سترها عندما كانت الحركات الثورية في أفريقيا تحصد ثمار عقود من النضال ضد الاستعمار، فإن العلاقات بعد الاستقلال عكست تعاطي الغرب مع الدول الأفريقية. في هذا السياق، وقّعت بريطانيا مع رواندا في 14 أبريل الماضي، اتفاقاً ينص على "السماح للندن بإرسال بعض طالبي اللجوء الذين وصلوا بريطانيا بطريقة غير شرعية، إلى رواندا مقابل مساعدات مالية، على أن تتعهد كيغالي باستقبالهم إيذاناً بدمجهم في البلد". لكن المنظمات الدولية لحقوق الإنسان أثارت مخاوف من هذا التعاقد بشأن مسألة الهجرة، ومنها "هيومن رايتس ووتش" التي عدت "الخطة البريطانية لإرسال طالبي اللجوء إلى رواندا قاسية وغير فعَّالة وعلى الأرجح أيضاً غير قانونية على الإطلاق". كما أعربت مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين، عن معارضتها الشديدة للاتفاق.

المزيد من تحلیل