Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الحوار الوطني في الدول العربية من أجل المأزق أم الإصلاح؟

تنشط تلك اللقاءات عند حدوث انسداد سياسي أو اقتصادي لذا ينبغي طرح السؤال بشأن مدى نجاحها في تحقيق مسعاها

التجارب السابقة للحوارات الوطنية أو السياسية في بعض الدول العربية لم تكن مبشرة (رويترز)

منذ اشتعال شرارة الانتفاضات العربية عام 2011 ودخول دول عدة في المنطقة دوامة من الاضطرابات السياسية والأمنية التي هوت باقتصاداتها، تكرر عقد لقاءات تجمع القوى السياسية المتنازعة تحت مسمّى "الحوار الوطني"، من أجل التوصل إلى خريطة طريق لتحقيق الاستقرار السياسي للبلدان. وفي الفترة الأخيرة، برزت دعوات جديدة لهذا النوع من الحوارات ليس فقط في دول لا تزال تشهد نزاعات مسلحة، لكن أيضاً في دول مستقرة مثل مصر وتونس.

ومع تجميد أعمال البرلمان التونسي وإقالة رئيس الحكومة في يوليو (تموز) 2021، إثر أزمة اجتماعية واقتصادية بعد أشهر من الجمود السياسي في البلاد واشتعال الاحتجاجات ضد "حزب النهضة" الذي كان يسيطر على البرلمان والحكومة، دخلت تونس في مرحلة جديدة من التوترات السياسية التي تزامنت مع أزمة اقتصادية حادة، ودخول السلطات في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي من أجل برنامج دعم مالي جديد. وفي إطار مساعيه لتحقيق الاستقرار وصياغة دستور جديد للبلاد، دعا الرئيس قيس سعيد، مرة أخرى، إلى حوار وطني، قائلاً إن التعاطي مع القضايا الراهنة يجب أن يكون في إطار مقاربة وطنية.

ومطلع الشهر الحالي، أعلن الرئيس التونسي عن تشكيل لجنة تكلف إدارة حوار وطني، تُستثنى منه الأحزاب السياسية التي يعتبرها مسؤولة عن الأزمة السياسية والاقتصادية التي تهز البلاد. وقال سعيد في خطاب ألقاه بمناسبة عيد الفطر: "ستتشكل لجنة بهدف الإعداد لتأسيس جمهورية جديدة تنهي أعمالها في ظرف وجيز". وأكد أن الحوار لن يشمل "من باعوا أنفسهم ولا وطنية لهم إطلاقاً ومن خربوا ومن جوعوا ومن نكلوا بالشعب"، في إشارة إلى "حزب النهضة" ذي المرجعية الإسلامية وشركائه ممن تدور حولهم شبهات فساد أو تمويلات خارجية أو إرهاب. ويشمل الحوار "المنظمات الأربع الوطنية"، وهي الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والرابطة التونسية لحقوق الإنسان والهيئة الوطنية للمحامين. لكن إقصاء بعض الأحزاب السياسية أثار الانتقادات بشأن جدية الحوار وما سوف يسفر عنه.

وفي مصر، دعا الرئيس عبد الفتاح السيسي، للمرة الأولى منذ تولّيه السلطة عام 2014، إلى إجراء حوار وطني يشمل القوى السياسية كافة. وجاءت الدعوة خلال حفل إفطار "الأسرة المصرية" في أبريل (نيسان) الماضي، الذي حضرته شخصيات من المعارضة، بما في ذلك خالد داوود، رئيس "حزب الدستور" سابقاً والذي كان مسجوناً حتى العام الماضي، والمرشح السابق للرئاسة حمدين صباحي وغيرهم. وسبق ذلك، حديث السيسي خلال لقاء مع صحافيين وإعلاميين أكد خلاله "الحاجة إلى عقد حوار سياسي شامل يتناسب مع فكرة بناء أو إطلاق الجمهورية الجديدة". جاءت دعوة السيسي في وقت تواجه الدولة العربية الأكبر من حيث عدد السكان، تحديات اقتصادية كبيرة جراء جائحة فيروس كورونا المستجد، وضاعفتها الحرب الروسية في أوكرانيا.

وتحت عنوان "لمّ الشمل"، أطلق الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، مبادرة صلح مع نشطاء جزائريين معارضين من أجل صفحة جديدة، بحسب ما ذكرت وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية الأسبوع الماضي. وفي حين تغيب  تفاصيل كثيرة عن المبادرة والأطراف المدعوة للحوار، اعتبر مراقبون للخطوة أنها مشروع مصالحة سياسية يهدف إلى غلق ملف الحراك الشعبي، وفي الوقت ذاته التعامل مع الوضع الاقتصادي والاجتماعي الصعب الذي تعيشه البلاد.

بينما تنشط تلك الحوارات عادة عند حدوث انسداد سياسي أو اقتصادي في أي بلد عربي، ينبغي طرح السؤال بشأن مدى نجاح الحوارات الوطنية في تحقيق مسعاها.

تجارب غير مبشرة

التجارب السابقة للحوارات الوطنية أو السياسية في بعض الدول العربية مثل لبنان واليمن وفلسطين لم تكُن مبشرة. ففي مقال نشره مركز "بيلفير" للعلوم والشؤون الدولية التابع لجامعة هارفارد، بعنوان "لماذا الحوارات الوطنية العربية ليست مثمرة"، قال رامي خوري، الزميل لدى مبادرة الشرق الأوسط إن المواطنين والقوى السياسية والدينية المنظمة والمجموعات القبلية والعرقية والهيئات الحكومية المتنوعة في جميع أنحاء العالم العربي، يشاركون جميعاً في أنواع مختلفة من الحوارات تهدف إلى حل القضايا المهمة، ولكنهم في جميع الحالات يفشلون. ويعزو خوري هذا الإخفاق إلى عدم جدية أطراف الحوار في الانخراط في الإجراءات التي يتطلبها الحوار، وهي تقديم أفكار جديدة والاستماع بجدية إلى الطرف الآخر والاستعداد لتقديم التنازلات ووضع المصلحة الوطنية فوق الأجندات الخاصة الضيقة والأنانية.

ويضيف أن في معظم البلدان العربية، يبدو أن الحوار يستخدم ببساطة كميدان آخر لممارسة ما حدده الصراع السياسي الداخلي، معركة وجودية يفوز فيها أحد الأطراف ويخضع الآخرون أو يختفون. ويشير إلى أنه في الحوارات العربية، يواصل الخصوم العمل على الأرض في عدد من المجالات التي يعتقدون أنها يمكن أن تحقق النصر لهم، بما في ذلك القوة العسكرية وكذلك القضايا الاقتصادية والاجتماعية. فمن النادر أن تقوم الأطراف المتنافسة في العالم العربي بإلقاء أسلحتها العسكرية أو السياسية، واستخدام طاولة الحوار كوسيلة بديلة لحل النزاعات وتعزيز رفاهية المواطنين كافة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حوار من أجل المأزق أم الإصلاح؟

ومع ذلك، يختلف الوضع في الدول الأخرى، فالسياق والمشهد السياسي يدفع بمتغيرات مختلفة، خصوصاً أن بلدان مثل مصر وتونس والجزائر ليست مناطق صراع وتحظى بمؤسسات قوية واستقرار سياسي وأمني. وفي حديث إلى "اندبندنت عربية"، قال عماد جاد، أستاذ السياسة في جامعة القاهرة وعضو مجلس النواب المصري سابقاً، إن نجاح الحوار الوطني أو فشله يتوقف على إرادة القوى السياسية لبناء دولة أو نظام سياسي ديمقراطي، قائم على التعددية وحكم القانون والمواطنة والمساواة وفصل الدين عن السياسة واحترام قواعد وأسس النظام الاقتصادي الرأسمالي، مع الإيمان بمسؤولية الدولة عن العدالة الاجتماعية واحترام حقوق الإنسان وحرية التعبير وفتح المجال العام. ولفت إلى أن التجربتين المصرية والتونسية هما الأقرب لبعضهما وتختلفان عن أي تجارب أخرى في المنطقة.

في حين يتم اللجوء عادة إلى الحوار الوطني في أوقات الأزمات فقط وهو أمر يثير الانتقاد، يعتبر جاد أن ليس خطأ أن يدعو الرئيس إلى حوار عندما يكون هناك مأزق ما في البلاد، ويستدرك بالقول "السؤال الذي يجب طرحه هل الحوار يهدف إلى تجاوز المأزق أو من أجل إصلاح شامل وانطلاق حقيقي نحو بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة... التجارب السابقة تظهر أنه لتجاوز المأزق".

ويضيف أن هناك نموذجين للحوار الوطني، النموذج العربي وهو عادة ما يحمل وصفة غير مثمرة، تعتمد على نتائج محددة مسبقاً يتم وضعها من قبل الدولة وتشتت الحوار بين طيف واسع من القوى والهيئات المشاركة، والنموذج الدولي  الذي تحتاج الدول العربية إلى اتباعه. وفي هذا الصدد، يشير جاد إلى تجربتي البرازيل وتشيلي في المصالحة الوطنية وبناء نظام سياسي ديمقراطي.

الوسيط

كان اليمن وتونس سبّاقين في المنطقة لإجراء حوارات وطنية في أعقاب الانتفاضات العربية، لكن نتائج الحوارات الوطنية، آنذاك، جاءت مختلفة تماماً بين البلدين، بحيث خرجت تونس من العملية بمجتمع أكثر تماسكاً، واليمن لا يجني سوى الصراع وعدم الاستقرار، وفقاً لورقة بحثية بعنوان "تحليل مقارن للحوارات الوطنية ما بعد الربيع العربي في تونس واليمن"، نشرتها المجلة الأفريقية لحل النزاعات، التي تشير إلى أن واحداً من مقومات نجاح الحوار الوطني التونسي بعد إطاحة نظام الرئيس زين العابدين بن علي، شرعية المؤسسات السياسية الكبرى التي تتوسط بين القوى المختلفة في المجتمع.

ولعب الاتحاد العام التونسي للشغل والرابطة التونسية لحقوق الإنسان والهيئة الوطنية للمحامين والاتحاد التونسي للصناعة دوراً رئيساً في نجاح الحوار الوطني وسطاء الحوار الوطني دوراً رئيساً في نجاحه، علماً أن جميعها مؤسسات تنتمي للمجتمع المدني وتحظى باستقلالية وقوة، وهي المؤسسات ذاتها التي يستعين بها الرئيس سعيد للحوار الوطني المقبل على الرغم من الانتقادات الموجهة إليه بشأن إقصاء بعض الأحزاب السياسية. على الجانب الآخر، لم يتم تعيين وسيط مستقل للإشراف على الحوار الوطني في اليمن، وتم تنظيمه وإدارته من قبل الحكومة الانتقالية التي لم تكُن تحظى بتوافق مجتمعي.

وفي ما يتعلق بمصر، يشير جاد إلى أن هناك ما يدعو للتفاؤل والتشاؤم في الوقت ذاته بشأن الحوار الوطني المزمع عقده، فيقول إن دعوة الرئيس السيسي لرموز مختلفة للمشاركة في الحوار، وكذلك توسيع لجنة العفو الرئاسي لتضم أطيافاً سياسية أخرى، مثل طارق العوضي من اليسار وكمال أبو عيطة من التيار الناصري، مؤشرات إيجابية جنباً إلى جنب مع فتح المجال ومشاركة الأحزاب السياسية والاستعداد للنظر في قانون الحريات. ويعتقد النائب المصري السابق أن ضغط الأزمة الاقتصادية سيكون دافعاً إلى فتح الاقتصاد أمام القطاع الخاص مجدداً.

وفي إطار خطة شاملة لمشاركة القطاع الخاص في إدارة الأصول المملوكة لها، لتوسيع قاعدة رأس المال وجذب رؤوس أموال أجنبية من خارج البلاد، أكد الرئيس السيسي، الشهر الماضي، بدء طرح حصص من شركات مملوكة للدولة والقوات المسلحة في البورصة قبل نهاية العام الحالي، ضمن برنامج الطروحات الحكومي.

إصلاح شامل أم جزئي؟

وعلى الرغم من تلك العوامل الإيجابية التي تهدف إلى إنجاح الإصلاح، يقول جاد إن الأمر لا يتعلق بفشل أو نجاح، ولكن هل أثمر عن إصلاح شامل أم جزئي؟ ويشرح في هذا الصدد أن نقطة الانطلاق هي دولة مدنية تفصل الدين عن السياسة، بالتالي تعديل المادة الثانية من الدستور، ويعتبر أن رجال الدين لا مكان لهم في السياسة، كما أن الدولة كيان اعتباري لا دين له، ولا مجال لاستخدام الخطاب الديني في المجال العام، مؤكداً أن "الإصلاح يعني عدم الرضوخ أمام المعوقات المجتمعية، بل الإرادة السياسية هي العامل الحاسم". ويضيف أن الأمر يتطلب توفير البنية الدستورية والقانونية اللازمة، وهنا تبدأ التعديلات المطلوبة إن كانت دستورية أو قانونية مهما كان ثمنها. كما ينتقد جاد توسع المشاركة في الحوار إذ تشمل الدعوة أعداداً هائلة تابعة لهيئات ومؤسسات وأحزاب ومنظمات مختلفة، ما يصعّب خروج منتج حقيقي لإصلاح شامل.

يشير رافع طبيب، أستاذ العلوم الجيوسياسية والعلاقات الدولية في جامعة منوبة في تونس، إلى عدد من التحديات التي تواجه الحوارات الوطنية عادة في الدول العربية، ويقول إن أهم تحدٍّ أسهم في فشل أو انهيار المسارات الحوارية في عدد من الدول العربية، هو التدخل الخارجي مثلما حدث في ليبيا. فالقوى الخارجية، خصوصاً الدول المهيمنة تعمل على اعتماد أجندات للحوار لا تطرح الإشكاليات الأهم، وتستبدلها بقضايا تقاسم نفوذ تُثْبت موازين القوى على الأرض. كما أن انحصار الحوارات ضمن المبحث السياسي المؤسساتي أي المساحة الأبعد عن هموم الشارع وحاجاته، سبب آخر في فشل الحوارات. وهذا النهج المتبع عادة يعيد إنتاج المنظومات الحاكمة ذاتها، وإن كان بمشاركة وجوه جديدة من خارج المجموعة الممسكة بالسلطة.

ويضيف طبيب أن الحوارات في عدد من بلداننا لا تمثل سوى إعادة رسم الخريطة الحزبية ومناطق نفوذ الفاعلين داخل إطار القوى المهيمنة، والنخب التي تدافع عن المنوال الاقتصادي ذاته والنظام السياسي. فحين يتم اعتماد حوار بين الأحزاب السياسية والسلطة، تعمل المناورات من وراء الكواليس وتقاسم المصالح وترتيبات ما بعد الحوار على إصابة الناس بالإحباط، لأنهم لن يروا تغييراً حقيقياً في المشهد يسمح بزرع الأمل في تحسن الأوضاع، ناهيك عن الشعور العام بالاستياء لاستبعاد الشعب عن القرار عبر الاختيار، ودفعهم إلى قبول تفويض من لا يمثلهم.

في ما يتعلق بالحوار المقرر إجراؤه في تونس، يشير طبيب إلى تجربة بلاده سابقاً في هذا الصدد، أهمها حوار عام 2013 الذي أفضى إلى إنهاء عمل المجلس التأسيسي، وخروج "حزب النهضة" من الحكم بعد موجة الاغتيالات والأعمال الإرهابية. ويقول إن الحوار اليوم سيتم تحت سقف الشرعية الرئاسية وعلى إثر انتفاضة الشارع في 25 يوليو 2021، بقيادة المنظمات النقابية والمهنية والحقوقية وليست للأحزاب فيها اليد العليا. إضافة إلى ذلك، يعتمد الحوار على استشارة إلكترونية شارك فيها ما يقارب نصف مليون مواطن، إذ إن هناك مطالبات لإخراج الحوار من صالونات العاصمة ومن بوتقة النخب، وإشراك المحليات والقوى الفاعلة داخل البلاد في المحافظات.

وفي حين يعتقد البعض أن الحوار تأخر لفترة طويلة لكنه، بحسب طبيب، محكوم اليوم بضرورة النجاح في بناء منظومة تضم أوسع طيف وطني، يؤمن بالسيادة وبالتنوع السياسي والسعي نحو جمهورية قوية عادلة، مع استثناء كل الذين لجأوا إلى السفراء والقوى الأجنبية واستقووا بالتدخل الخارجي لفرض إشراكهم في الحكم بعدما طردوا منه. و"هنا يكمن أحد أهم مطالب الداعين إلى الحوار في تونس، وهو استبعاد من لا يحمل لواء السيادة ولا يحترم استقلال البلاد، وكل من سعى إلى تفكيك الدولة وإلحاقها بالمحاور الإقليمية".

المزيد من تحقيقات ومطولات